تتزايد يوماً بعد يوم النقوش المكتوبة بالخط العربي الذي نستخدمه الآن، التي نعثر عليها من فترة الجاهلية. ففي كلّ شهر أو شهرين تقريباً، يُنشر نقش جديد. وقبل عقدين، كان لدينا عشرة أو عشرون نقشاً من تلك الفترة فقط. وهو رقم ضئيل جداً، ما حدا ببعضهم إلى افتراض أنّ تدهوراً قد حصل في وضع الكتابة في شمال الجزيرة العربية بعد القرن الثالث الميلادي، وهو القرن الذي شهد انبثاق الخط العربي من الخط النبطي كما يُفترض. فحتى هذا القرن، كان شمال الجزيرة العربية يكتب بالخط النبطي، إضافة إلى جيوب صغيرة تكتب بالمسند الشمالي الذي كان قد أخلى مكانه تدريجاً للخط النبطي. لكنّ تكاثر النقوش المكتشفة بالخط العربي، يشكّك بفرضية تراجع الكتابة في شمال الجزيرة قبل الإسلام. فلدينا الآن عشرات النقوش التي اكتشفت في العقد الماضي. بل ربّما صار لدينا الآن مئات النقوش، إذا أخذنا في الاعتبار أنّ جزءاً من النقوش المكتشفة لم يُقرأ بشكل رسمي لكي يجري تصنيفه كنقوش عربية.ولدينا أدناه نقش من منطقة تبوك نُشر حديثاً، ويبدو لي أنه يعود إلى ما قبل الإسلام، وإن كان من الصعب تحديد كم يبعد عن بداية الإسلام.



وسوف أقدم هنا قراءتي لهذا النقش. لكن عليّ أن أشير إلى أنّ قراءة النقوش العربية قبل الإسلام مسألة معقّدة إلى حدّ بعيد لأسباب عدة:
أولاً: الكتابة على الصّخر تُرغم الحروف في أحيان كثيرة على تحوير أشكالها، وهو ما يجعلنا غير متأكّدين من قراءتها.
ثانياً: هناك عدد كبير من الحروف العربية، التي تتشابه مع بعضها مثل التاء، الباء، الثاء، الياء والنون.
ثالثاً: هذه النقوش في غالبيتها الساحقة غير منقّطة. وهذا ما يزيد الطّين بلّة.
رابعاً: هذه النقوش تستعمل كلمات ومصطلحات لم يعد أحد يستخدمها منذ نهاية الجاهلية وبداية الإسلام. بل إنّ بعضها لم تسجّله القواميس حتى.
آخذين في الاعتبار كل هذا، نقدم قراءتنا للنقش أعلاه. والنقش مكوّن من أربعة أسطر، الرابع منها فيه جزء من كلمة واحدة فقط. وفوق الكلمة الأولى في السطر الأول، يوجد صليب بذيل طويل منحنٍ طويل. كما أنّ هناك صليباً مثله بعد الكلمة الأخيرة في السطر ذاته. في العادة، يؤخذ وجود مثل هذا الصليب إشارة إلى أنّنا مع نقش مسيحي. وأنا أشك بذلك جداً. ويؤيد هذا أنّ شكل الصليب غريب فعلاً.

السطر الأول
يتكون هذا السطر من أربع كلمات، أو قل ثلاث كلمات لأنّ الكلمتين الثانية والثالثة كلمة واحدة رغم المسافة بينهما. وهي كلمة تُقرأ على أنها «الرحمن» بوضوح. أما الكلمة الأولى، فالحرف الثاني فيها قد يُقرأ على أنه ميم، أي أننا قد نكون مع كلمة «ألم». لكنني أظن أنّ الحرف هو حرف الفاء. بذا، فلدينا كلمة «الف». ولو جمعنا الكلمتين معاً، فإننا في ما يبدو نحصل على اسم مركب هو «إلف الرحمن». وهذا اسم يرد لأول مرة في النقوش العربية حسب علمي. وهو اسم يُشير إلى إله يدعى «الرحمن». وهذا الإله معروف، وقد عُبد في شمال وجنوب الجزيرة، ثم صار في الإسلام صفة من صفات الله: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا». ونحن نذكر أنّ مسيلمة زعيم اليمامة، الذي يسمى عند المسلمين مسيلمة الكذاب، كان يدعى «رحمن اليمامة». وهو ما يُشير إلى أنّه كان كاهناً للإله الرحمن في غالب الظن. في كلّ حال، فإنّ الاسم (إلف الرحمن) يعني: صديق الرحمن، رفيق الرحمن، أو ما يشابه ذلك.
أما الكلمة الأخيرة فليست واضحة تماماً. والحرف الأخير بالذات مشكلة، لكنني أرى أنه حرف الكاف، رغم أنها كاف غير مألوفة كثيراً. بذا فالكلمة تُقرأ على أنها «سكّ». وجذر سك يعطي معانيَ كثيرة. ولن نستطيع أن نجد معنى الكلمة في النص قبل قراءة السطرين الآخرين.

السطر الثاني
يتكوّن هذا السطر أيضاً من ثلاث كلمات. وبعد الكلمة الثانية، هناك حرف بعيد نسبياً، وليس مؤكداً أنه تابع للكلمة. لكن من المحتمل أنّ الكاتب كان ينوي كتابة الكلمة الثالثة في هذه المنطقة، لكنه أخطأ في الكتابة فعاد وكتب الكلمة في مكان أبعد.
أما الكلمة الأولى، فيمكن قراءتها على أنها «وسنة». لكن هذه القراءة لا توصل إلى شيء. لذا فأنا أقرؤها على أنها «وبينة» من الجذر «وبن». وهذا الجذر كاد يسقط من الاستعمال، فليس لنا تحته إلا كلمتان أو ثلاث فقط: «يُقال ما في الدار وابِرٌ ولا وابِنٌ أَي ما فيها أَحدٌ.
ابن الأَعرابي: الوَبْنَةُ الأَذى، والوَبْنة الجَوْعَةُ» (لسان العرب). وأنا اعتقد أنّ كلمة «وبينة» التي لم ترد في القواميس من معنى الأذى. وأظن أنها هنا تعني: مكرهة كما نقول «مكرهة صحية» هذه الأيام.
الكلمة الثانية «لوذ». وأظن أنّ المنطقة المشوشة بعدها لا تمثّل حرفاً منها. وإذا كانت تمثل حرفاً منها، فنحن غير قادرين على قراءته. وهناك قبيلة عربية باسم «لوذ» أو «لوذة». كما أنّ هناك شخصاً يُدعى «لوذ» في سلسلة نسل سام بن نوح. لكن يبدو لي هنا أنّ لوذ تعني منعطف الجبل: «لَوْذ الْوَادي: منعطفه، وَكَذَلِكَ لَوْذ الْجَبَل، وَالْجمع ألواذ» (ابن دريد، جمهرة اللغة). يُضيف الزبيدي: «اللَوْذُ أيضاً: جانب الجبل وما يُطيف به، والجمع ألواذٌ» (الزبيدي، تاج العروس). يزيد ابن سيده: «الألواذ وَاحِدهَا لوذ وَهُوَ حضن الْجَبَل وَمَا يطِيف بِهِ» (ابن سيده، المخصص).
أما الكلمة الثالثة فأنا أقرؤها «سيّ». وهناك فوق السين خط من الواضح أنه تلف عابر في الحجر. بذا، فلدينا الكلمات الثلاث في السطر الثاني: «وبينة لوذ سيّ». ويبدو لي أن «سيّ» هو اسم الجبل. ولسنا ندري أي جبل هذا، لكن السي اسم معروف. فهناك سرية نبوية أرسلت إلى بني عامر بـ «السيّ». ويُقال إنّ السرية أُرسلت إلى «شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً إِلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ بِالسِّيِّ نَاحِيَةَ رُكْبَةَ مِنْ وَرَاءِ الْمَعْدِنِ. وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى خَمْسِ لَيَالٍ» (ابن سعد، الطبقات الكبرى). وجاء في بيت شعري عن النعام: أصكّ مصلّم الأذنين، أجنى/ له بالسّيّ تنّوم وآء. لكن السي التي يجري الحديث عنه بعيد جداً عن تبوك. بذا فالنقش يتحدث عن سي آخر غيرها.

السطر الثالث
يتكون السطر من ثلاث كلمات إضافة إلى حرف الألف الذي هو جزء من الكلمة الوحيدة في السطر الرابع. وأنا أقرأ هذا السطر مع الكلمة في السطر الرابع هكذا «بنضح حجارة ومثمّ القد». بذا فالنقش كله يقول:
1- إلف الرحمن سكّ
2- وبينة لوذ سيّ
3- بنضح حجارة ومثم
4- القد.
وهذا يفيد أن شخصاً يدعى «إلف الرحمن» قد سكّ وبينة، أي مكرهة، منعطف جبل سيّ عبر رمي الحجارة و«مِثَمّ القد» فيها. بناء عليه، من المحتمل أنه كانت تتشكل في منعطف وبينة (مكرهة). أغلب الظن أن السيول هي التي كانت تصنعها جالبة أشياء تؤدي إلى موبأة. وقد قام «إلف الرحمن» في ما يبدو بردم هذه الوبينة بالحجارة وبـ «مثمّ القد». بذا فكلمة سكّ في نهاية السطر الأول تعني: «سدّ» أو ردماً أو طمراً أو ضيقاً أو ما شابه ذلك: «سَكَّ الشيءَ يَسُكُّه سَكّاً فاسْتَكَّ: سَدَّه فانسَدَّ» (لسان العرب). أما كلمة «نضح»، فلا تعني هنا سحب الماء أو رشه بل تعني الرمي: «نضحناهم بالنبل نضحاً: أي رميناهم ورشقناهم... وقوس نضوح: شديد الدفع والحفز للسهم... والنضوح من أسماء القوس» (لسان العرب). لكن الكلمة قد تكون بالخاء لا بالحاء، لكنها تعني الشيء نفسه. يقال: «نضخناهم بالنبل: لغة في نضحناهم» (لسان العرب).
بذا يتبقّى أمامنا تعبير «مِثّمّ القدّ». وهو تعبير شديد الصعوبة والغموض. لذا فالحل الذي أقدمه له ليس مؤكداً. ويبدو لي أن المثم هنا هي أغصان الأشجار المتكسرة: «الثمام ما يبس من الأغصان التي توضع تحت النضد. وبيت مثموم: مغطى بالثمام... الأزهري: الثمام أنواع: فمنها الضعة ومنها الجليلة ومنها الغرف، وهو شبيه بالأسل تتخذ منه المكانس، ويظلّل به المزاد فيبرد الماء» (لسان العرب). أما القد، فتنويع على المقِدّ الذي هو المكان المستوي: «المقد: بالفتح: القاع والمكان المستوي» (لسان العرب). وإذا كان هذا صحيحاً، فقد استعمل إلف الرحمن الغصون اليابسة التي تتجمّع في الأماكن المستوية لسد الوبينة. وهي أغصان يرميها السيل هناك في الغالب. بذا فعملية سك الوبينة جرت بالحجارة والأغصان.
بناء عليه، فكل شيء في هذا النقش يدل على أننا أمام نقش جاهلي، بدءاً بالاسم (إلف الرحمن)، وانتهاء بالكلمات التي سقطت من الاستعمال أو كادت: الوبيئة، اللوذ، القد، والمثم.
مع ذلك، فنحن لا نستطيع أن نحدد زمان هذا النقش، ومقدار بعده عن الإسلام.

* شاعر فلسطيني