قبل 20-23 ألف سنة ق. ن (قبل الآن)، وفي موقع يدعى «مالتا» في سيبيريا، كان في ما يبدو مخيماً صيفياً للصيادين الجوالين، ثكلت أم بابنها الطفل، فدفنته في المخيم الذي يقع على الضفة اليسرى لنهر بيلايا Belaya، على بعد مئة كيلومتر من بحيرة بيكال Baikal، قرب مدينة إركوتسك Irkutsk الروسية.وفي عام 1929، حفرت بعثة أثرية بقيادة عالم الآثار الروسي م. م غيراسيموف الموقع، فعثرت على مدفن الطفل، وعثرت قرب رفاته على لوح محفور من ناب الماموث، طوله 13.8 سنتيمتر وعرضه 8.1 سنتيمتر. وقد سمي اللوح باسم: «لوح مالتا» أو «إبزيم مالتا» Mal’ta Tablet، Mal’ta Buckle، لأنه يشبه من حيث الشكل إبزيم الحزام. ويبدو أن اللوح كان معلقاً في عنق الطفل كتعويذة. ومن هذه التعويذة، بدأت قصة كتابي «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية»، وهي قصة سيطرة الإنسان على الزمن التي كانت في الواقع بدء ما نسميه اليوم بالحضارة.
تتكون التعويذة، التي تملك ثقباً للتعليق من منتصفها، من وجهين اثنين حُفرت عليهما أشكال محددة. على الوجه الأول رسم بالحُفر، بالثقوب، عدد من اللوالب الحلزونية. وفي المركز يقع لولب كبير يأكل نصف هذا الوجه تقريباً. هذا اللولب، أو الحلزون الكبير، تشكَّل عبر 243 حفرة أو ثقباً غير نافذ. وعلى أحد جانبي هذا اللولب، هناك ثلاثة لوالب حلزونية أخرى، الذي في المنتصف منها أصغر حجماً. وبالقرب من هذه اللوالب الثلاثة، هناك خط متعرج قليلاً مكون من عشرة ثقوب. أما على الجانب الثاني، فهناك ثلاثة لوالب أخرى كذلك، لكن الثالث منها متصل بلولب رابع صغير. وقرب اللولب الصغير هناك شكل هلالي، نصف دائري، مكون من 14 ثقباً.
بذا، فلدينا على الجانبين سبعة لوالب مصنوعة هي الأخرى مشكلة بالثقوب، إضافة إلى اللولب المركزي والشكل الهلالي والخط المتعرج. اللوالب السبعة على الجانبين، مع الأشكال المضافة، تتكون من 244 ثقباً، أي بما يزيد بثقب واحد على ثقوب الحلزون الكبير. والرقم 244 هذا موزع بالتساوي شمالاً ويميناً: 122 ثقباً على اليسار و122 ثقباً على اليمين.



أما على الوجه الثاني، فهناك ثلاث حيّات متموجات منسابات لا غير. وهي حيّات محفورة حفراً، وليست مثقبة تثقيباً كما هي الحال في الوجه الأول. وهي مختلفة الحجم. ويظهر هذا الاختلاف في حجم الرأس على وجه الخصوص. فالرأس الأضخم هو رأس الحيّة التي تقع في الوسط. أما الحيّة اليمنى، فرأسها متوسط الحجم، في حين أن رأس الحيّة اليسرى أضأل وأنحل. ومن الواضح أن من حفر الحيّات كان يريد أن يجعلنا نرى الفرق في أحجام الحيّات من خلال أحجام رؤوسها أساساً.



هذا هو كل ما تقدمه لنا التعويذة على وجهيها.
فهل نحن مع خربشات ضئيلة المعنى على قطعة من ناب ماموث، أم أننا مع «نص سمين» كتب قبل أكثر من 20 ألف سنة، ونظّمت أشكاله و«أرقامه» بشكل منطقي، وأن بالإمكان الكشف عن هذا المنطق، والحصول على المعلومات التي يحويها؟
نحن نحكم أنه نص منطقي، وأنه يحوي ثروة من المعلومات عن العصر الحجري القديم الأعلى (حقأ) ومواقيته. كما نحكم بأننا نستطيع أن نفهم هذا النص وأن نفكّ ألغازه.

الرقم 243

إذن فقد مات طفل سيبيريا قبل أكثر من 20 ألف سنة، لكن اللغز الذي كان معلقاً في عنقه أشغل الباحثين والهواة في الكرة الأرضية بمجملها منذ ما يقرب من مئة عام. وقد ظل الرقم 243، رقم اللولب الكبير، دوماً مركز هذا اللغز وبابه معاً. فكل محاولة لحل اللغز، يجب أن تبدأ منه. ذلك أن الثقوب الـ 243 أرقام كما نفترض، وأن لغة الأرقام ظلت كما هي منذ أن اخترعت. بالتالي، فنحن نستطيع فهمها بقدر من التأكيد والوثوق. ويمكن لي بناء على ذلك القول إن القطعة تطرح الأسئلة التالية:
1- ماذا تمثل اللوالب الحلزونية على الوجه الأول؟ أي ما الذي رسمه الحفار حين رسم اللوالب؟
2- لم يأخذ الرقم 243 شكل لولب كبير، أو حلزون، وليس شكلاً آخر؟ وبتعبير آخر: هل هناك علاقة بين الرقم 243 وبين الشكل اللولبي الذي يتخذه؟ أو بعبارة أكثر عمومية، هل هناك من رابط بين الأشكال على القطعة والأرقام التي تكونها، أم أنّ لا رابط بينهما؟
3- ما علاقة الحيّات المنسابات على الوجه الثاني بالحلزونات على الوجه الأول؟ هل هناك علاقة، أم أن كل واحد يسبح في عالمه الخاص؟ ويمكن صوغ السؤال على النحو التالي: ما علاقة الحيّات بالأرقام التي على الوجه الأول؟ أي ما علاقتها بالرقم 243 على وجه الخصوص؟ هل يعبر هذا الرقم عنها أيضاً، أم أنه مرتبط باللوالب الحلزونية فقط؟
وأنا أعتقد أن الإجابة على السؤال الأول «ماذا تمثل اللوالب الحلزونية؟» هي المفتاح. وإن أجبنا إجابة سليمة عليه، فسينفتح لنا باب القطعة في ما أظن.
أما إجابتي على هذا السؤال، فهي التالية: اللوالب الحلزونية على الوجه الأول تمثّل حيّات متطوّيات، متلوّيات، مترحّيات coiled snakes. نعم هكذا: اللوالب حيّات متطويات. وإن صح هذا، فإن لدينا في القطعة حيّات متطوّيات على الوجه الأول، وحيّات منسابات متموجات على الوجه الثاني. وبما أن التطوّي هو حركة البيات الشتوي للحيات، فإنه يكون لدينا حيّات في بياتهن على الوجه الأول، وحيّات خارج هذا البيات على الوجه الثاني. بذا، فالتعويذة تصور لنا وجهين متعاكسين متضادين:
1- وجه يمثل فترة بيات الحيّات وتطويهن ونومهن.
2- وجه يمثل فترة خروج الحيّات من هذا البيات.
هذا هو الاستخلاص المنطقي البدئي. وإذا صح هذا الاستخلاص، فهو يعني أن الثقوب الـ 243 التي تشكّل اللولب المركزي تمثل فترة تطوي الحيّات، أي فترة بياتها الشتوي. بالتالي، ففترة البيات تساوي 243 يوماً من سنة لا نعرف مقدارها بعد.
نعم، هكذا. هناك سنة لا نعرف مقدارها، بها فترة تبيت فيها الحيّات 243 يوماً. وإن صح هذا، نكون قد وضعنا المفتاح في قفل القطعة ودوّرناه.
وفي الحق، فإن كثيرين قبلنا فهموا أن الثقوب في الإبزيم تساوي أياماً في روزنامة ما، في توقيت ما. لكن الجديد الذي أضفناه هو أن الرقم 243 مرتبط بتطوّي الحيّة وبياتها. إنه رقم الحيّات في بياتها. أو هو روزنامة بيات الحيّات.
أعرف بالطبع أن الرقم 243 يبدو فترة طويلة لبيات الحيّات. فالحيّات الواقعيات لا تبيت بهذا المقدار. لكنني سأعرض لهذه المسألة لاحقاً. ويمكنني أن أشير الآن فقط إلى أن الحيّات هنا استعارة لشيء سنتعرف إليه لاحقاً. إنها حيّات استعارية وليست حقيقية. بناء عليه، فلنتقبل، مؤقتاً على الأقل، أن هناك فترة بيات للحيات مكونة من 243 يوماً.
انطلاقاً من هذه الفرضية، فالحية المتطوية والرقم 243 متضامنان، يشكلان شيئاً واحداً: الحيّة المتطوية تساوي 243 يوماً، والرقم 243 يوماً يساوي حيّة متطوية.

الرقم 244

إذن، يبدو أنه كانت هناك روزنامة في مالتا في سيبيريا فيها فترة بيات تساوي 243 يوماً. لكننا لا نعرف مقدار هذه السنة، كما أننا لا نعرف عدد أيام الفترة المضادة لفترة البيات التي نفترضها، أي فترة الخروج من البيات التي يبدو أن الحيّات المنسابات على الوجه الثاني تمثلها. لكنّ التساؤل عن الرقم 244 على جانبي اللولب الكبير ربما فتح لنا باباً لزيادة معرفتنا عن سنة مالتا هذه. والسؤال هو: لماذا يزيد هذا العدد برقم واحد فقط عن الرقم 243؟ وما معنى هذه الزيادة؟ ثم لماذا ينقسم الرقم 244 إلى رقمين متساويين على الجانبين: 122 و 122؟
قد يفترض المرء أن الرقم الزائد وجد نتيجة خطأ في العد، عقب انكسار القطعة وإعادة ترقيم القسم المتكسّر منها. إذ إن جزءاً من القطعة تحطّم، وأعيد بناؤه بالشمع وترقيمه، كما ذكرنا من قبل. وهذه الفرضية تعني أن الرقم الأصلي على الجانبين يجب أن يكون هو الرقم 243 بالضبط. لكن هذا الفرض يحطم فكرة المساواة والانتظام التي يبدو أن الوجه الأمامي للتعويذة بني عليها. فحذف الرقم (الزائد) يوجب أن نكون مع رقمين مختلفين على الجانبين: أي مع 122 و 121. وهذا كسر للتناظر والمساواة في قطعة يبدو أن التناظر مهم فيها. لذا، دعنا نجرب أن نتقبل وجود الرقم 244، وأن نقبل أصالته. فلعل هذا يدفعنا خطوة أخرى إلى الأمام لفك صندوق الألغاز الذي أمامنا.

مشكلة الكسر

وانطلاقاً من القبول بالرقم، فأنا أقترح أن حافر الروزنامة، أو مصممها، كان عبر الرقم 122 المكرر على الجانبين يقسم لنا الرقم 243، أي رقم الحلزون الكبير، إلى قسمين متساويين. أي كان يخبرنا في الواقع أن رقم اللولب الكبير، رقم الحيّة الكبيرة المتطوية، يساوي قسمين متساويين من سنة مالتا، لا قسماً واحداً فقط. وهو ما يعني أن فترة البيات المكونة من 243 يوماً تساوي قسمين من أقسام سنة مالتا التي لا نعرف مقدارها بعد. بذا، فالرقم 243 ليس كتلة واحدة، بل كتلتان اثنتان متساويتان ضُمتا إلى بعضهما. وهذه، إن صح ما أفترضه، معلومة مهمة أخرى مهمة تبوح لنا بها تعويذة مالتا عبر الاستنتاج المنطقي.
لكن هناك مشكلة في هذا. فقسمة الرقم 243 على اثنين تعطينا الرقم 121.5 لا الرقم 122. فكيف نحلّ هذه المشكلة؟
للإجابة على هذا السؤال، ليس لنا سوى افتراض أن نصف الرقم الزائد نابع من عدم القدرة على كتابة الكسر. فأهل ذلك العصر كان يعرفون الكسر، لكنهم لا يملكون طريقة لكتابته. فلم يكن بإمكانهم مثلاً حفر نصف ثقب والقول: هذا نصف رقم. بالتالي، كان عليهم حين تواجههم مشكلة كسر أن يدوّروه، كي يصير رقماً تاماً، أو أن يحذفوه. وقد اختار مصمم تعويذة مالتا تدوير الكسر إلى رقم، أي أنه كتب 122 بدل 121.5. وهكذا حصلنا على الرقم الزائد على الجانبين، وصرنا بذلك مع الرقم 244 بدل 243. ولو أنه حذف الكسر وكتب 121، لكنا قد وصلنا إلى الرقم 242، إي إلى رقم ناقص. بذا فالرقم الزائد موجود لسبب تقني صرف، أو قل لسبب كتابي. فلم يكن لدى أهل مالتا في ذلك الوقت القدرة على التعبير عن الكسر كتابةً.
بناء على هذا، نستنتج أن أهل مالتا، وأهل ذلك العصر كله ربما، كانوا يرون أن فترة البيات المكونة من 243 يوماً، تساوي فصلين من فصول سنتهم. أي أن الحيّة تبيت فصلين كاملين يساوي كل منهما 121.5 يوم.
انطلاقاً من كل هذا، يبدو أن نص تعويذة مالتا أخذ يفتح لنا أبوابه لنا بشكل ما، فقد حصلنا منه على المعلومات التالية:
1- أن الحيّات المتطويات على الوجه الأول، تمثل فترة البيات،
2- أن الحيات المنسابات على الوجه الثاني تمثل فترة الانسياب والخرج من البيات.
2- أن فترة البيات تساوي 243 يوماً.
3- وهذه الفترة تساوي فصلين من فصول سنة مالتا، في كل فصل 121.5 يوم. بالتالي، ففصل سنة تعويذة مالتا مكون من 121.5.
4- ومن المحتمل أن تكون سنة مالتا مكونة من ثلاثة فصول في كل فصل 121.5 يوم. أي أنها مكونة من 364.5 يوم، وليس 365 يوماً.
5- وإذا صح هذا، فإن من المحتمل أن الفصل الثالث يمثل فترة الحيّات المنسابات. بذا فالحيات المتطويات تساوي 243 يوماً، والحيات المنسابات تساوي 121.5 يوماً.
إذا كان الأمر كذلك حقاً، فيبدو أن الكسر في روزنامة مالتا مركزي تماماً. فالسنة تنتهي بكسر (364.5)، والفصل ينتهي بكسر كذلك (121.5). لم تكن عندهم طريقة لكتابة الكسر، لكن الكسر كان في مركز تقويمهم. وهنا تكمن المفارقة: الذي لا طريقة لكتابته كان هو المركز. كان هو حجر الزاوية الذي بنى به البنّاؤون.
هذه سنة العصر الحجري القديم الأعلى Upper Paleolithic. لكن السؤال هو: هل كان أهل هذا العصر يطاردون الحيات كي يوقتوا؟
لا، لم يكن توقيتهم مطاردة للحيات في بياتها وخروجها منه. فقد استخدموا الحية كاستعارة لحركة الماء العذي السفلي الكوني. فقد كان لهذا الماء في اعتقادهم حركتان: حركة ثوران وخروج من الأعماق، ثم حركة عودة إلى الأعماق وسكون فيها. وقد شبهت هذه الحركة بحركة الحية. صار الماء السفلي حية والحية ماء. بذا فقد كانت الحية أول وأعظم استعارة في التاريخ. إنها أم الاستعارات كلها.
وإن أردت تفصيلاً، فعليك أن تذهب إلى كتابي «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية» الصادر عن «دار الناشر» في رام الله (فلسطين) والذي يوزع عبر «دار الأهلية» في عمان (الأردن).

* شاعر فلسطيني