1. صباح أندلسيّمطر خافت فوق أندلس:
مطر من شموع،
مطر من أساور،
مطر من مراوح سود وأقراط فضّة،
مطر من طيور وماء.

بول كلي ـــ «قُبَبٌ بيضاء وحمراء» (زيت على قماش، 1914).


تستفيق على ضوع أثوابها
وشميم أنوثتها.
كان أخضر فجر الجزيرة،
أخضر ماء المصابيح،
والغيم كان، إلى آخر النّهر، أخضر.
ها هي تنهض من قبل منبلج الفجر،
تجمع ماء ضفيرتها،
(لم تزل فوق أجسادنا بضعة من ضراوة رغبتنا
لم تزل جذوة من حنين)
أيّها المطر الذي يطرق البيت
قل لي إلى أيّ أرض ستأخذنا،
وإلى أيّ غيم؟
بعيد طريق بلنسيّة
ومواسم عصر النبيذ بمالقة لم يحن بعد موعدها.
مطر صامت فوق أندلس،
مطر من خواتم فضّة،
مطر من فوانيس موقدة،
مطر من مناديل بيض،
مطر من مطر.

2. الأمطار
لماذا تنهمر يا كلّ هذه الأمطار على المدينة؟
أليس العشب أولى بها من الإسفلت؟
والأشجار من المنازل؟
والطيور من المزاريب؟
والأنهار من الطرقات؟
والظلام من أعمدة الضّوء؟
والجبال من مقاعد الحديقة؟
والرّعاة من عسس الليل؟
والجنادب من الأرصفة؟
ماذا لو هششنا يا وديع على كلّ هذه الغيوم
وتعقّبناها غيمة... فغيمة
حتّى خارج المدينة؟

3. عودة البحّارة
من الجزر البعيدة عاد البحّارة اليوم:
لم يحملوا سمكاً في قواربهم،
أو قواقع في سلالهم.
لم يحملوا ثماراً من الغابات البعيدة،
لكنّهم عادوا بحكايات مفعمة بروائح الطّحالب،
مبلّلة بأمطار الشمال،
ملفّعة بظلام الموانئ،
فتلك كانت غنيمتهم
بعدما خذلهم البحر،
ومزّقت الرّيح أشرعتهم
وألقاهم الموج في سواحل مهجورة.

4. بستان الأهل
أمس أسرينا إلى منزلنا في غيضة الزّيتون:
كانت كل أعشاب الممرّات كما نحن تركناها،
وكانت كلّ أطيار السّواقي،
وفراشات الدّوالي،
ومياه اللّيل.
لكن ثمّ شيء لم نجده
ثمّ شيء قد توارى
ثمّ شيء قد تولّى
ألهذا نحن لم نمكث طويلاً؟
ألهذا نحن أحكمنا المراتيج على أبوابنا ثانية؟
وقفلنا، من جديد، راجعين...؟

5. الرحيل
ها هو يمضي
ثم صوت غامض يسمعه من دوننا
ثمّة عطر مبهم يشمّه
ثمّة ضوء آخر يراه
ها هو يمضي
في طريق نحن لا نعرفها
ويهتدي بضوء نار نحن لا نبصرها
فثمّ صوت غامض كان يناديه ولا نسمعه
ثمّة عطر نحن لا نشمّه
ثمّة ضوء خلف هذا الليل لا نراه.

6. روما
لا بدّ لروما من شذّاذ وصعاليك وأفّاقين،
لا بدّ لها من كذّابين وأفّاكين،
لا بدّ لها من غرباء.
وأرقّاء وعيّارين.
لا بدّ لها من سفهاء،
ودهاقنة مأجورين،
لا بدّ لها من دهريّين
وزنادقة.
لا بدّ لها من نسوة ليل،
ولصوص وسماسرة،
ومرابين.
فسدى يدعو الحكماء،
وسدى يعظ الخطباء.
روما ستظلّ كما كانت في البدء نعيماً وجحيماً،
وعصاة وتقاة،
وصعاليك وقدّيسين.

7. القيامة
تساءلنا: النشور إذن؟
رأينا الشمس تكسف في السّماء فجاءة،
والأرض ترجف حولنا،
والبرق مندلعاً.
رأينا الماء يهطل،
والقرى تجري فوق لجّ البحر،
قلنا: هل هو التاريخ أكمل دورة أخرى،
أم الأرض التي اكتهلت إلى بدء جديد.
ها هم الأموات ينتفضون،
تنتفض القرى وممالك الصّحراء،
والأسباط ينتفضون،
تنتفض الإيالات الدفينة في بطون الرّمل،
تنتفض الأوابد والجوارح،
والملوك البدو،
ينتفض السّلاطين الزّنوج وأهل سنجار،
وما وراء النهر،
والحكماء والنسّاك.
أصغ لهذه الصّحراء ترجف،
أصغ للوديان:
كلّ الخيل قد ولّت،
وساخت في رمال البيد أخفاف النياق،
هتفنا: إنّه التّاريخ أكمل دورة أخرى
وهذي الأرض قد صارت إلى بدء جديد.

8. الظمآن
ظمآن ألمّ ببستان أبي،
والعنب الأسود منعقد في الأسوار،
وحبّات الرمّان على الأبواب مفجّجة.
واربت الباب وحدّقت:
رأيت الطّارق في أعتاب منازلنا.
فارتجف الصّدر وراء ثيابي،
وانخلع القلب،
فأرخيت جفوني
وهمست: ليملأ هذا الطّارق من أعناب أبي سلّته،
وليأخذ من رمّان حديقته ما شاء:
فهذا العنب الأسود كان تدلّى من كرم حديقتنا،
وانعقدت حبّات التين.

إلى أشجار أبي مدّ يديه الطارق،
واقتطف العنب الأسود من سور حديقتنا،
واقتطف التفّاح
وقال كلاماً
فترقرق ماء في صدري وارتجف الثوب.

بتفّاح حديقتنا ملأ الطارق سلّته،
وبحباّت العنب الأحمر.
ثمّ مضى.
لم يترك غير شميم التّين على ثوبي،
غير شميم العنب الأسود.

قلت: علام ألمّ بنا؟
ولماذا مدّ يديه إلى أعناب حديقتنا؟
فتكتّم يا حجر الطاحون على ما أبصرت،
ولا تخبر يا ناطور الحقل رجالي.
نذراً لن أرفع بعد اليوم مزاليج منازلنا،
نذراً لن تمتدّ يد، بعد اليوم، لبستان أبي،
نذراً لن أخدع ثانية.

لكنّي اليوم هتفت، وقد عاد التفّاح الى أشجار حديقتنا،
وانعقد العنب الأسود،
- عد يا زمن التفّاح فقد أيفع صدري،
عد يا زمن اللوز،
فقد أمرع عشبي.
عد فقد ارتجف الماء بحقويّ،
وباحت بالتوت حدائق خاصرتي.
عد فلقد ثقلت بالأعناب السّود كروم أبي،
وتدلّت بالتين دواليه.

9. كلمات
ثمّة كلمات تولّى عنها الشّعراء،
ورغبت عنها المعاجم:
كلمات غريبة لا فصاحة فيها ولا ماء،
كلمات ترعرعت في الشوارع والمخادع والدّروب المسترابة،
كلمات لم تروّضها قصائد الشّعراء،
ولا أغاني الوشّاحين،
كلمات نافرة، ناشزة، غريبة الطباع،
ولدت في أماكن نجهلها،
وتدحرجت من أفواه رجال لا نعرفهم،
كلمات من سلالة الذئاب،
كلمات من سلالة الأنهار،
كلمات من سلالة العواصف.
كلمات اصطفّت أمام المعاجم
سنين كثيرة،
فلم تنفتح إليها المعاجم،
ولم يسمح لها بالدخول.
كلمات أرادت التسلّل إلى القصائد،
فأعرض عنها الشعراء .
كلمات سيّئة السّمعة،
ليس لها أصل في لغة القواميس،
ولا في لهجات القبائل،
هذه الكلمات الغريبة الغامضة المسترابة
التي ولدت في الشوارع والمخادع،
هي كلمات القصائد القادمة
بعدما اكتهلت كلماتنا
وشيّبها كر الليالي.

* تونس العاصمة