قديماً قال المتنبي: «وما كنت ممن يدخل العشق قلبه، ولكن من يبصر جفونك يعشق» للدلالة على الوقوع المفاجئ تحت تأثير سحر الحبيب. لا شك في أنّ كل إنسان اختبر في مرحلة ما من حياته شعور العشق المجنون الذي يباغت المرء كالصاعقة من دون مقدمات أو أسباب منطقية، ويقلب حياته رأساً على عقب. لكن الأدهى، هو أن يكون المحبوب مرتبطاً بشخص آخر وعلى وشك الزواج منه، فينشأ عندئذ صراع مرير بين العقل الذي يدعو الإنسان إلى التراجع وبين الفؤاد الذي يعجز عن التخلي والنسيان. هذا ما حدث بالفعل مع بطل رواية «سيدي وقاهري» Mon maître et mon vainqueur لفرنسوا هنري ديزيرابل (دار غاليمار) التي فازت أخيراً بجائزة الأكاديمية الفرنسية. العنوان الجميل للرواية مستعار من قصيدة «هل أنت شقراء أم سمراء» لبول فيرلين التي تقول: هل هو حساس أم ساخر/ قلبك؟/ ليس لدي أي فكرة، ولكني أشكر القدر/ لأنَّه جعل قلبك/ سيِّدي وقاهري».


يسرد الوقائع راوٍ ثانوي شاهد على الأحداث بصفته صديقاً مشتركاً لِكلا الطرفين العاشقين. تبدأ القصة حين يقوم قاضٍ فرنسي مثقف أدبياً وعاشق للشعر الرومانسي باستدعاء الراوي للشهادة حول تورط صديقه الحميم في حادثة قضائية، طالباً منه المساعدة لتفسير القصائد التي دوَّنها المشتبه به على دفتر خاص والتي يُفترض أن تنير مجرى التحقيق. في مكتب القاضي، يسترجع الراوي وهو تحت القسم، قصة حب صديقه فاسكو لتينا الجميلة، ثم يقوم بتفسير معنى الأبيات الشعرية للقاضي. لكنه يحاول إخفاء بعض الحقائق والتستر على بعض الهفوات للحؤول دون إدانة صديقه العزيز. بعد قراءة القصائد وفك رموزها الغامضة، يقول القاضي الذي أعجب بهذه الأشعار: يجب أن تصنع منها رواية... وبالفعل هذا ما فعله الكاتب ببراعة.
أما بطل الرواية فاسكو، فهو شخص خيالي وعاطفي يعمل في المكتبة الوطنية الفرنسية التي تضم أشهر المطبوعات وأهم المخطوطات الفكرية والأدبية لكُتَّاب وفلاسفة طبعوا الأدب العالمي والفرنسي. في أحد الأيام، يلبي فاسكو دعوة صديقه الراوي إلى عشاء، فيلتقي هناك بتينا، وهي فتاة جميلة ومميّزة تعمل كممثلة كوميدية على مسارح باريس. تأسر تينا قلب فاسكو بعينيها الخضراوين وبإلقائها الجميل لقصائد أمير شعراء فرنسا بول فيرلين. يقع في غرامها من النظرة الأولى رغم أنها ليست نوعه المفضل من الفتيات ولا يوجد بينهما صفات مشتركة.
يقوم فاسكو بدعوة تينا لزيارة المكتبة الوطنية الفرنسية وتحديداً الغرفة الخاصة التي تضمُّ أعظم جواهر الأدب والفكر التي لا يستطيع العامَّة الاطلاع عليها. تحظى تينا برؤية أهم المخطوطات ومنها أول كتاب توراة تمت طباعته في مطبعة غوتنبرغ الشهيرة، والمجلد المصحح من «أزهار الشر» الذي يحوي ملاحظات كتبها بودلير شخصياً، إضافة إلى المخطوطات الأصلية لمجموعة بول فيرلين الشعرية «قصائد زحل» وديوان «فصل في الجحيم» لرامبو. وهنا تقرأ تينا بصوت عال أحد مقاطع فيرلين الشهيرة وتُشكل هذه اللحظة نوعاً من الاستباق السردي الذي يمهّد لما سيحدث لاحقاً بينهما من علاقة حب ستنتهي نهاية سيئة: «ضَع جبينك على جبيني ويدك بيدي/ واقطع لي عهوداً سوف تنكث بها غداً/ أيها الصغير المُتَّقد ناراً».
منذ تلك اللحظة، تتعدد لقاءات العاشقين اللذين يعيشان عاطفة مشبوبة تُنسيهما كل شيء. يتجاهل فاسكو المتيّم بالحبّ نصائح صديقه أليساندرو مُزيِّن الشعر والفيلسوف الذي يرجو منه نسيانها وعدم التعلق بها. يستغل فاسكو وظيفته في المكتبة ومعرفته بكل المداخل والمخارج، ويسرق قلب الفيلسوف الفرنسي فولتير المحفوظ بواسطة مواد كحولية داخل قاعدة تمثال ويقدِّمه لتينا في عيد ميلادها. تتأثر تينا كثيراً بغرابة وطرافة هذه الهديَّة وبتصرفات فاسكو المجنونة وتزداد هياماً به.
لكن لا تلبث المشاكل أن تظهر لأنّ تينا مرتبطة منذ سنوات برجل آخر يدعى إدغار ولديها طفلان منه وهما يخططان للزواج. في الحقيقة كانت علاقة تينا بإدغار رتيبة وروتينية وتسير وفقاً لمخطط مدروس، لكن عندما يضع القدر أمامها فاسكو، يهتز كيانها وتتسارع دقات قلبها فتبدأ بالكذب واختراع الأعذار لتبرير خروجها المستمر للقائه. هكذا تستمر قصة الغرام هذه أشهراً قبل أن يكتشف إدغار العلاقة التي تجمعها برجل آخر، فتثور ثائرته ويحلّ على تينا الغضب الشديد. تعيش بطلة الرواية أزمة عاطفية صعبة بعد انكشاف أمرها، إذ يمنعها إدغار من رؤية فاسكو مجدداً ويقطع كل الخيوط التي تجمعها به حتى أنَّه يُغيِّر مكان سكنهما. كما أنه يتصل بفاسكو ويهدّده بالقتل إذا حاول الاقتراب من تينا مجدداً. بالفعل تقتنع تينا بمنطق إدغار وتقرر نسيان حبيبها والمحافظة على عائلتها، فتختفي نهائياً من حياة فاسكو وتقاطعه بقسوة.
يصل فاسكو المصدوم من جفاء حبيبته إلى حالة من الاكتئاب والحزن الشديدين ثم يقوم برحلة إلى مدينة البندقية على أمل أن يتجاوز مرحلة الانفصال، لكنه يعود من هناك أشد وجداً وولعاً. يحاول الراوي ما في وسعه لمواساة صديقه وينصحه بكتابة القصائد كنوع من العلاج النفسي وإفراغ مكنونات قلبه على الورق. مع ذلك، تبوء كل محاولات فاسكو لنسيان تينا بالفشل.
يزداد الوضع تعقيداً عندما يعرف فاسكو مصادفة موعد زفاف إدغار وتينا والمكان الذي سيجري فيه الاحتفال، فيقرر الذهاب إلى هناك ليخطف العروس. بما أنَّ فاسكو لا يجيد ركوب الدرّاجة الناريّة ولا يملك ثمن حصان ليلعب دور الفارس كما في قصص الحب الكلاسيكية، يجد نفسه مضطراً إلى استئجار حمار لاقتحام الزفاف. يشعر المدعوون بالصدمة من غرابة الموقف بينما تقف تينا حائرة أمام دعوة فاسكو لها للهروب على صهوة حمار إلى جهة مجهولة. أما إدغار فيغضب من تصرف غريمه ويهجم عليه ليضربه، فيطلق فاسكو النار عليه بمسدس فيرلين الذي كان قد اشتراه. و«مسدس فيرلين» الشهير هو المسدس الذي استخدمه بول فيرلين لإطلاق النار على عشيقه آرتور رامبو بعد شجارهما في بروكسل عام 1873. لم يمت رامبو حينها ولكنه أصيب في معصمه، أما فيرلين فقد قضى سنتين في السجن بسبب عواقب تلك الحادثة.
التناص الأدبي حاضر بقوة أحسن الكاتب توظيفه بشكل عفوي

لحسن الحظ لا يصاب إدغار إلا بكدمات بسيطة ويتم إلقاء القبض على الجاني الذي يقبع في السجن في انتظار محاكمته. أكثر ما تتميز به هذه الرواية هو طلاوة الأسلوب واللغة الشعرية الرائعة والموسيقى الجميلة التي تصدح بها الأبيات التي كتبها فاسكو لتأريخ علاقته بتينا. التناص الأدبي حاضر بقوة أحسن الكاتب توظيفه بشكل عفوي، ما أضاف للرواية مزيداً من الغنى والبهاء. نجد أشعار العظيمين فيرلين ورامبو العذبة تملَأ صفحات الرواية وتُضفي عليها جمالاً فوق جمال. كما أن التلاعب بالكلمات وتكرار بعض المفردات والإحالة على نصوص أدبية شهيرة تحث القارئ على اختبار ذاكرته وثقافته الأدبية، فنلتقي في هذا النص الرائع باقتباسات عدة من نصوص هوغو وبودلير وأبولينير و أراغون وغيرهم.
رواية خيالية، لا تخلو من روح الفكاهة والمرح ننصح بها الأشخاص الرومانسيين وعشاق الشعر الذين يرغبون بالهروب من الواقع إلى عالم بعيد. رغم النهاية الحزينة لقصة فاسكو وتينا، يبقى الحب تجربة إنسانية لا مفرَّ منها وكما يقول نزار قباني: «الحب ليس روايةً شرقيةً بختامها يتزوّج الأبطال، لكنه الإبحار دون سفينةٍ وشعورنا أنَّ الوصول مُحال».