تستحضر الكاتبة والباحثة الكويتية شهد الشمري أرواح شخصيات نسوية تنطوي على حالات جنون وإعاقة، بمراجعة نصوص كاتبات من الضفتين بقصد التشكيك في فصل المدوّنة السردية في الغرب عن مثيلتها في الشرق. وفقاً لتفكيك هذه النصوص، تسعى الشمري في كتابها «خطاب الجنون والأدب» الصادر بالإنكليزية تحت عنوان Literary Madness in British, Postcolonial, and Bedouin Women's Writing إلى كشف زيف هذه الرؤية الانفصالية. هكذا تلتقي مجنونات ايميلي وشارلوت برونتي في «مرتفعات وذرينغ»، و«جين آير»، وأرونداتي روي في «إله الأشياء الصغيرة»، وفاديا الفقير في «أعمدة الملح»، وميرال الطحاوي في «الخباء» في فضاء واحد، بصرف النظر عن الجغرافيا الأصلية للكاتبة، كما تتشابه الحبكات في رسم مصائر الشخصيات، سواء أكانت تنتمي إلى الحقبة الفيكتورية أو ما بعد الاستعمار، أو الفضاء البدوي.يظهر الجنون والموت كاستراتيجيَّتين نصيَّتين لإعطاء صوت للمرأة المهمَّشة والمكتومة، بعد أن تصاب الشخصيَّات بالجنون، أو تُباد، أو تموت، في عليّة أو مصحٍ عقلي أو خيمة بدوية، إذ تؤسس هذه الكتابة لتمرد واحتجاج ومقاومة من نوعٍ ما على أنظمة الاضطهاد المتشابكة: السلطة الأبوية والاستعمار وعلاقات القوة الاستعمارية الجديدة، وتالياً التأكيد على التلازم الذي لا ينفصم بين الإمبراطورية وأيديولوجيات السلطة الأبويَّة، والسياسات العرقية والجنسانية. تتحاور النصوص الأربعة وتتعالق في مسألة الجنون من جهةٍ، وأيديولوجيات القمع الأبوي/ الاستعماري، من جهةٍ ثانية. في مرآة أخرى، يسبق التدهور العقلي التدهور الجسدي والموت باستدعاء الحالات العقلية المضطربة والأجساد المعوقة والتشوّه. وسنجد في رواية الهندية أورنداتي روي حالات من التبعية والجنون عن طريق تصادم الحيوات الخاصة مع المجال العام. فالجنون هنا انتجته المستعمرات في المقام الأول، مما يقود الشخصيات المجنونة إلى الطرد والانتهاك والصدمة. بخصوص تموضع الشخصية البدوية في الرواية العربية، سنقع على نماذج من حالات الإخضاع، تبعاً لرسوخ القيم المحلية المتطرفة، لتنتهي مجنونات فاديا الفقير إلى مصحّة عقلية بسبب هيمنة السلطتين الأبوية والاستعمارية. من جهتها، تضيء ميرال الطحاوي في «الخباء» مناطق بكراً في سرد البداوة لتتقاطع قسوة الواقع مع اتساع الأسطورة، بتنظيم وضبط جسد الأنثى، وتقاطع الإعاقة والجنون. هنا مقاطع من الكتاب الذي ترجمته إلى لغة الضاد عهد صبيحة، على أن يصدر قريباً عن «دار نينوى».

نوبويوشي أراكي ــــ «67 إطلاق نار» (طباعة سياكروم فنتادج ـــ 61 × 50.8 سنتم ــــ 2007)


أرونداتي روي
اقترح نقاد ما بعد الاستعمار أنّ تداعيات الاستعمار لا تزال متأصِّلة بعمق في نفسيَّة المستعمَر. يظهر أثر الضرر الذي لحق بالأرض في الضرر الشخصي الذي لحق بالمستعمَرين: نفسيَّات وهُويَّات وأجساد متصدِّعة متعدِّدة. يكرِّر التشويه نفسه ويعيد تأكيد آثاره المدمِّرة من خلال إلحاق الضرر بالمجالين الخاص والعام، والجانبين الشخصي والسياسي، والذهن والجسد، والأهم من ذلك بالفرد والجماعة. رواية أرونداتي روي «إله الأشياء الصغيرة»، هي رواية تحتجُّ بصوت عالٍ، نصٌّ ينعي المستعمَر، ويحتفي به على حدٍّ سواء، ويقدِّم صورة الهند بحسبانها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمرأة الهنديَّة المستعمَرة- في مواجهة الاستعمار والعنصريَّة والتمييز على أساس الجنس- التي يكاد ليس لديها أي فرصة للنَّجاة والمقاومة. إنَّ رواية روي قويَّة في عواطفها الخام، وملاحظتها الدقيقة للتلازم الذي لا ينفصل بين السياسي والشخصي، وشكلها العدواني والحبكة والشخصيات. إنَّ النصَّ بوصفه نصاً «مجنوناً» أو مشوَّشاً، زاخر بثغرات الذاكرة، الارتباك والتخبُّط، والصدمة بلا شك. في «إله الأشياء الصغيرة»، يعدُّ الجنون والاستعمار وعواقبهما علامات مهمَّة للذهن والجسد المستعمَرين. وكذلك النظر في الجنون في الدَّولة المستعمَرة، الجنون بحسبانه نتيجة للاستعمار، والتَّلاعب الإمبراطوريِّ بالسلطة الأبويَّة للشعوب الأصليَّة، والجنون بحسبانه تجاوزاً تمكينيّاً تنطوي من خلاله قدرة الشخصيات النسائيَّة «المجنونة» المفترَضَة على تحدِّي السياسة العامَّة من خلال حيواتهنَّ الخاصة، وأفعالهنَّ البسيطة. «إله الأشياء الصغيرة» عنوان يشير إلى إلهٍ جنسه ذكر، وعلى الرَّغم من ذلك، تشغله على نحوٍ أساسيٍّ شبكة من الشخصيَّات النسائيَّة والتابعة، اللواتي تنعكس حيواتهنَّ الخاصَّة في تدهور الأمَّة.
إنَّ رواية روي ليست قصَّة واحدة منفردة عن الأمَّة، بل تعرض العديد من القصص لأفرادٍ يحكم حيواتهم ماضٍ استعماري مستمر. على نحو أكثر تحديداً، يركِّز النص على قصص نساء هنديَّات مختلفات، أذهانهن وأجسادهن، ووجودهن في مجتمع تحكمه التأثيرات الاستعمارية، والنظام الطبقي، والسلطة الأبوية، والدولة. ولأن الشخصية الأنثوية المستعمَرة تُمثِّل الأرض المستعمَرة والْمُغتصَبة، فإنَّ التطابقات واضحة. وليس من المفاجئ إذاً، أن تخلق روي شخصيات نسائية في حالة حرب داخلية وخارجية على حد سواء، مع العالمين العام والخاص. لا يقتصر دور روي على تصوير الشخصيات المضطربة والمرتبكة فحسب، ما يعكس حالة الأمَّة، بل تستخدم أيضاً النصَّ نفسه كقصَّةٍ رمزيَّة أخرى. إنَّ النصَّ مجزَّأ، جامح وغير مروَّضٍ ومتمرِّد. يهدِّد الحدود والثنائيَّات والتعاريف والفئات، ويقاوم المفاهيم المؤيِّدة لما يشكِّل الأدب الإنكليزيَّ وقواعد اللغة الإنكليزيّة والتَّهجئة والقواعد النحويَّة.
إنَّ الجنون الذي يلوِّث ثقافة الشعب بأكملها، وإحساسهم بالذات، واضحٌ في جميع أنحاء النص، وأسمِّي هذه الحالة «جنون الاندماج». جنون الاندماج هنا هو نتيجة الضغط للاندماج، لتزييف هويَّة مختلفةٍ تماماً، هويَّة ترضي مجتمع السلطة الأبويَّة وتوقُّعات المستعمِر. يخلق جنون الاندماج انقساماً عن الماضي والهويَّة الأصليَّة للفرد، والهويَّة الجديدة أو الحديثة التي يشعر المرء بالضغط لتبنِّيها. من خلال فعل ذلك، يضمن المستعمِر تفاني المستعمَر واندماجه مع قيم وثقافة المستعمِر، بما في ذلك التقليل من قيمة ثقافة الفرد الخاصَّة، وتالياً الذات.
تكشف الرواية قبل أي شيء أعمال الجنون في سياق ما بعد الاستعمار. لكنَّ التركيز هذه المرَّة، لم يكن على امرأة مجنونة في العليَّة (رواية «جين آير» لشارلوت برونتي) أو في مصحة عقلية (رواية «أعمدة الملح» لفادية الفقير) أو في خيمة (رواية «الخباء» لميرال الطحاوي). لا يقتصر الجنون على مساحةٍ معينة، ولا يصيب شخصاً واحداً أو امرأة واحدة، بل الجنون موجود في كلِّ مكان في رواية «إله الأشياء الصغيرة». تعاني الشخصيَّات من صدماتٍ نفسيَّة، كما يعاني الرجال من أضرارٍ استعماريَّة لحقت برجولتهم، وتتحمَّل النساء عواقبَ الأيديولوجيَّات الاستعمارية والعرقيَّة والمتحيِّزة جنسياً، التي ترسِّخ اضطهادهنَّ المستمرَّ عبر عدد من الأجيال. تنسج روي موضوعات الجنون والطرد والصدمة معاً، ولا تسمح لنا أبداً بنسيان الصدمة الأوليَّة للإمبراطوريَّة والاستعمار.
إنَّ رواية «إله الأشياء الصغيرة»، هي بمنزلة عملية مستمرة للتعمق في القرية السيميائية، وتخلق مكاناً جديداً بين الجنون/ والعقل، النصِّ الأصليِّ/ والظاهريِّ، الغرب/ والشرق، اللُّغة الإنكليزية/ والمحلية، الشخصي/ والآخر. شخصيات مجنونة، بالطريقة عينها التي يؤكِّد بها النصُّ نفسه كنصٍّ مجنون، وهو نصٌّ يتعدَّى دائماً على الحدود والحواجز، نصٌّ يحاول إحداث ثورةٍ في اللغة والمعنى. هناك دائماً جنونٌ يحوم حوله، «كان ثمَّة جنون ذلك الصباح... لم يكن ذلك مجرَّد استعراض. تمكَّن كلٌّ من إستا وراحيل من تعرُّفه». يصبح الجنون هنا موقعاً للثورة النصيَّة، لتفكيك أنماط التفكير الغربيَّة ثنائيَّة التفرُّع، وللتغيير على المستويين الشخصيِّ والسياسيِّ، للفرد والجماعة. على عكس البطلة الفيكتوريَّة المجنونة، يجب أن تثور البطلة المجنونة في مرحلة ما بعد الاستعمار بالضرورة ضدَّ كلٍّ من الشخصيِّ والسياسيِّ معاً. يجب عليها إعادة التأكيد ليس فقط على ذاتيّتها، وإنَّما أيضاً على هويَّتها «الأصليَّة»، هناك عمليَّة إنهاء استعمار مزدوج. في «إله الأشياء الصغيرة»، تؤثِّر القصص والصدمات الفرديَّة في المجال العامِّ الأكبر، ويتمكَّن الإله الصغير عينه من تدمير قوَّة الإله الكبير؛ لم تعد الأشياء الكبيرة متفوِّقة على الأشياء الصغيرة. إنَّ التواريخ والقصص المعقَّدة، التعدُّديَّة والمواقع المتعدِّدة للصدمة والجنون تتَّحد معاً لتشكيل ثورة، واستعادة كلٍّ من ذهن المستعمَر وجسده، على المستويين الفرديِّ والجماعي.

فاديا الفقير
رغم أنَّ «أعمدة الملح» لفاديا الفقير تستجوب بعض الافتراضات الثقافية والأيديولوجية والاستشراقية المتعلّقة بالسلطة الأبوية، حتى اللغويَّة، إلَّا أنَّ بطلتيها لا تنجحان في الهرب من الضغوط التي أدَّت إلى نفيهما وفنائهما. إنَّهما مطرودتان من المجتمع فقط لدخول المصحِّ العقليّ الذي يعكس المجتمع الخارجي. تعمل المؤسَّسات العامَّة، والمجال العام، ضدهما لتدمير وتشويه حياتيهما الخاصة.
يدير الطبيب الإنكليزي العقوبة الجسديَّة في المصحّة العقلية، حيث تُنقل أساليب التعامل هذه مع المجانين من الإمبراطوريَّة. إنَّ المصحَّة العقليَّة هي اختراع حديث، الأدوية والأدوات المستخدمة للسيطرة الجسديَّة وإسكات النساء المجنونات. فالطبيب الإنكليزي، والممرِّضة سلام، والبوَّاب كوكش، جميعهم يعملون كقوى تأديبيَّة تهدف إلى إسكات النساء المجنونات وإخضاعهنَّ. تروي مها روتين حلق رؤوسهنَّ، الذي يستخدمه الطبيب الإنكليزيُّ إلى جانب الممرِّضة، وبمساعدة من البوَّاب:
«هذا ما يفعلونه للسيطرة علينا... لمَّا توقَّف أزيز الأداة، ولمَّا أُغلق الباب، ولمَّا تنهَّدت أمُّ سعد أخيراً تنهُّدةً طويلة، أدرت رأسي وفتحت عيني. مرَّرت يديها على رأسها الأصلع. قفزتُ من السرير، ودفعت يديها بعيداً، والتقطت الحجاب الورديَّ ثمَّ ربطته حول رأسها، مع التأكُّد من أنَّني غطَّيت الجمجمة الصلعاء تماماً... بدأت تبكي مثل مبارك عندما كان يبلغ من العمر أسبوعاً، حين كان مختوناً للتوّ... وضعتُ رأسها على صدري وتناثرت حرارة دموعها... تقلَّصت حلمتاي. كنت أرغب في إرضاع ابني».
إنَّ الحداثة والاستعمار هما اللذان أبقيا الحيازة على هذه المؤسَّسة العقليَّة، وهذه هي الأداة التي لا تفهمها مها، الأداة التي تصدر صوت «أزيز»، التي تُستخدم لحلق رؤوسهنَّ، وتركهنَّ مجرَّدات من الإنسانيَّة، ومجرَّدات من الأنوثة قدر الإمكان. في البداية، ترفض أمُّ سعد خلع حجابها، لأنَّ الرجال يجب ألَّا يروها، هذا جزء من تراثها ودينها. في مواجهة الحداثة، يُنبذ التراث، يجري التنصُّل منه ورفضه، ويمتلك فرصة ضئيلة لمقاومة الوضع الراهن المهيمن، وقوَّة التحديث والعولمة. ما الذي يمكن فعله غير توسيع التضامن الأخوي، شفاء الآخر، والعودة إلى الأمومة؟ لا تجد مها وأمُّ سعد الراحة إلَّا إحداهما مع الأخرى، في التضامن النسائي، وفي الأمومة. وصلت فاعليَّة مها الاجتماعية والسياسية إلى أعلى مستوياتها وأعمقها في أثناء إقامتها في مصحَّة الأمراض العقليَّة. تتواصل مع أمّ سعد، محتضنة إيَّاها كما يفعل المرء بغية تهدئة طفل، وتكتسب القوَّة من دون قصد من الأمومة، من سيميائيَّة جوليا كريستيفا. يظهر هذا التمزُّق في النظام الرمزي وقوانين السلطة الأبويَّة للمجتمع والمؤسَّسات والاستعمار، في أوضح صوره، في الفقرة المذكورة أعلاه. تمكَّنت مها وأمُّ سعد من فهم فوضى النظامين العالمي والرمزي، وهيمنة السلطتين الأبويَّة والاستعماريَّة، اللتين تسودان عليهما، فقط عندما تتقبَّل إحداهما الأخرى، وقوَّة الأمومة. إذاً، إنَّ جنونهما يهدِّد كلّاً من داعمي السلطة الأبويَّة في الوطن، والمستعمِرين. إنَّ بناء البطلتين، مها وأمّ سعد، اللتين تنحدران من خلفيَّتين مختلفتين، هو أمرٌ ضروريٌّ لنقاش القواسم المشتركة والأخويَّة في النضال ضد السلطة الأبوية والاستعمار. إنَّ مها وأمَّ سعد، كلتيهما، مجنونتان تعملان كعوامل تجسيد للمقاومة السياسية والثقافية، وتستطيعان إيجاد القوة من خلال الأمومة والأنوثة. إنَّ جنونهما مدمّر في وجوده، وفي قدرته على إثارة الخوف وإهانة كلّ من المستعمِر وداعمي السلطة الأبويَّة.

ميرال الطحاوي
في رواية «الخباء» لميرال الطحاوي، العلاج الوحيد المتاح للمرأة المجنونة هو إبقاؤها محبوسة في غرفة، على أمل ألا تتعرَّض للإجهاض مرة أخرى. يُنظر إلى قيودها الجسدية بأنها تشويش، وضغط الأمومة، وتحديداً إنجاب الأبناء، يزيد في إبادة نفسها والجنون المزعوم.
تواجه الراوية مزيداً من التهميش والرفض عندما لا يعمل جسدها كما هو متوقَّع منه. أوَّل حادثة من التهميش تحدث عندما كسرت فاطمة ساقها. تنخرط فاطمة باستمرار في نشاطات خطِرة، وتحديداً تسلُّق الأشجار: «أظلُّ أتسلَّق حين يغيب أو يخرج إلى القنص، فأرى من خلف الفروع واجهة البيت، الدوَّار المقابل، مبرك الجمال والمضيفة...كنتُ قد وجدت أخيراً شيئاً أفعله». إنَّها قادرة على الوصول إلى العالم الخارجيِّ من خلال تسلُّق الأشجار، وهذا يمنحها إحساساً بالحريَّة والاستقلال خارج جدران الخيمة. ما إن تكسر ساقها، تتأثَّر قدرتها الجسديَّة على الحركة على نحو كبير: «أزحف من غرفة إلى أخرى وألواح الخشب المصقول بها قاع الحجرات تخربش في جلدي وتترك علاماتها». تصفها الجدَّة حاكمة بأنَّها «خلفة الشؤم تتسلَّق على الحوائط حتَّى أصبحت عرجاء، بنصف قدم، والله لأكسر ساقك الأخرى حتَّى تتعلَّمي الحياء يا ملعونة».
يشير اختيار الكلمات إلى أهميَّة أن تكون عاملة كشخص، كجسد، وأيّ شيء آخر يجري التنصُّل منه، يعدُّ نمطاً من أنماط الجنون. في مثل هذا المجتمع، يُعدُّ المعوقون جسديّاً، وكذلك المجانين، أقل فاعلية، مخجلين، يحتلُّون أجساداً مخزية، وكذلك يشكِّلون عاراً على الفرد والجماعة. كما تربط الجدة حاكمة أفعال فاطمة ليس فقط بالجنون، بل الأهم من ذلك، بالافتقار إلى الحياء. من خلال بناء بطلة معوَّقة ومجنونة، تزيح الطحاوي الدلالات الثقافية السلبية والقمعية للإعاقة والافتقار. لقد جرى تجاوز الحياء المرتبط بالحشمة على نحو لا ينفصم. إنَّ جسد فاطمة المعوَّق وجنونها، يجعلانها مهمَّشة، إنَّما في الوقت عينه يضفيان عليها قوَّتها. إنَّها مختلفة عرقيّاً وجسديّاً، وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ هذا الاختلاف بالذات هو الذي يضعها في موقف غامض من القوَّة والعجز، على حدٍّ سواء. تستعيد فاطمة بعض القوَّة في جسدها، على الرغم من أنه يُعرّف بأنَّه جسد معوَّق، جسد ناقص وغير متوافق. إن وكالتها هي واحدة من التجسيدات، ترتكز على نحو خاصّ على تجربتها مع الاغترابَين الجسديِّ والعقليِّ.
أداء فاطمة كمجنونة وامرأة معوقة يعرقل النظام؛ إنها المنبوذة، الجسد المرفوض، والذات المخالفة التي يجب طردها. إنَّ جنونها وعجزها مدمِّران ومقاومان. جدَّتها تخافها، دوابة تخافها، ووالدها يتخلَّى عنها. يصبح جسدها موقعاً للمقاومة، وكذلك ذهنها؛ ثمَّة لعبة مزدوجة على قدرة الذهن والجسد على المقاومة. لا يثبت جسدها أنَّه متمرِّد ومختلف وخطِر فحسب، بل يبدأ ذهنها أيضاً في افتراض طريقة مختلفة للتمرُّد تماماً. تقول: «استهوتني لعبة الصمت، ماذا لو كففت عن الكلام!». جسديّاً، تقرِّر التخلُّص من عكَّازها و«أزحف... فقط سأحبو في صحراء ساخنة تكوي ساقي التي أجرجرها»، على هذا النحو، تتَّخذ فاطمة الخيارات. تختار أن تؤدِّي دور المرأة المعوَّقة، وكذلك دور المرأة المجنونة. إنَّها لا تقع ببساطة فريسة للإعاقة والجنون، ولا تستسلم للجنون في حدّ ذاته. تلعب فاطمة دوراً، إذ إنَّها عامل نشط في أدائها التخريبيِّ. تصبح فاطمة نسخة طبق الأصل من والدتها: «أنا الآن أدخل صومعة نشيجها وصمتها، وعينيها المتورِّمتين. هل لهذا تخاف الصغيرات منّي... هل لهذا كفَّ أبي عن المجيء؟». لأن فاطمة توصف الآن بأنها مجنونة ومعوقة جسدياً، فقد رُفضت، ونبذها مجتمعها. على عكس مها وأم سعد في «أعمدة الملح»، لم تُوضع فاطمة في مصحَّة عقليَّة. مثل آمو في «إله الأشياء الصغيرة» لروي، و بيرثا/ أنطوانيت في «جين إير» و«بحر ساركاسو الواسع»، نُبذت فاطمة وأُفردت من مجتمعها وتُركت وحدها ونُفيت. لقد أُجبرت على النفي، ذهنياً وعاطفياً وجسدياً. إنَّ فاطمة غير قادرة أن تعثر على وطنها الحقيقيِّ، منطقة الراحة الخاصَّة بها، ومكان الأمن والأمان الخاصّ بها، لذلك تخضع بحالتيها العقليَّة والعاطفيَّة، للتدهور والتفكُّك على وجه التحديد. تُقرِّر الانتقال إلى غرفة والدتها القديمة، الغرفة الصفراء، وتروي: «قلبي أصبح بحيرة متيبِّسة على ملح جافٍّ يترقرق من بعيد، لكن لا موجة ولا حياة. الشقوق تملأ الحوائط التي انفلق طينها". على هذا النحو، فإنَّ وضعها المنفيَّ يتركها في حالة دائمة من التدهور العقليِّ والبدنيِّ. في الوقت نفسه، لأنَّها تحتلُّ مكان الـمُبعدة، حالة المنفيَّة، خارج حدود ما يُعدُّ مقبولاً وطبيعيّاً، فهي قادرة في الأقلِّ على تهديد النظام المهيمن من خلال وجودها في حدِّ ذاته، وفضح كلِّ ما هو متبرّأ منه ثقافيّاً.
من خلال بناء بطلة معوَّقة ومجنونة، تزيح الطحاوي الدلالات الثقافيَّة السلبيَّة والقمعيَّة للإعاقة والافتقار. لقد جرى تجاوز الحياء المرتبط بالحشمة على نحو لا ينفصم. إنَّ جسد فاطمة المعوَّق وجنونها، يجعلانها مهمَّشة، إنَّما في الوقت عينه يضفيان عليها قوَّتها. إنَّها مختلفة عرقيّاً وجسديّاً، وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ هذا الاختلاف بالذات هو الذي يضعها في موقف غامض من القوَّة والعجز، على حدٍّ سواء.