الكتابة بالنسبة إلى أحمد الفخراني (1981) حرفة تقتضي «الاستماع الجيّد لصوت الحكاية وإدراك شكلها وبنيتها الفريدة». ليست وصفة مجرّبة يتّكئ عليها؛ هكذا تتفتّح الرواية أمامه كطريق/ مغامرة يكتب ويُعيد الكتابة حتّى يصل إلى الشّكل الأمثل. تخرّج الروائي المصري من كليّة الصيدلة، لكنّه قرّر دخول عالم الكتابة من بوّابة الصّحافة في 2007؛ العام نفسه الذي أصدر فيه مجموعته الأولى في شعر العامية «ديكورات بسيطة»، ثم هرب سريعاً من الشعر إلى كتابة البورتريه «في كلّ قلب حكاية» (2009). منذ عشر سنوات، قرّر أن «يفتح باب الخيال»، ليصدر مجموعته القصصيّة الأولى «مملكة من عصير التفاح» (دار نهضة مصر ـ 2011) تضمنّت قصّة حملت اسم روايته الأولى «ماندورلا» (2013)؛ كانت هذه البداية الحقيقيّة لتجربته الروائية التي تتضمّن حتى الآن: «سيرة سيد الباشا» (بيت الياسمين ـ 2016)، «عائلة جادو: نص النصوص» (العين ـ 2017)، «بياصة الشوام» (العين ـ 2019) وأخيراً «إخضاع الكلب» (الشروق ـ 2021). اعتمدت عوالم رواياته الأربع الأولى على الفانتازيا والخيال، لكن في «إخضاع الكلب» نجد للواقع مساحة أكبر، فهل نُرجع ذلك للخبرة أم أنه تمرّد على مشروعه ومحاولة للخروج من الثيمة التي تسم الكثير من الروايات الجديدة؟ هذا السؤال وغيره يشكّل محور لقائنا بالكاتب المصري.
أحمد الفخراني: أرجع دوماً إلى «دون كيشوت». أجد فيها التقنية بشكلها البدائي والأساسي


حكاية رجل وكلب... كيف تشكّلت فكرة «إخضاع الكلب» في رأسك؟
ــ تكوّنت الرواية من طبقات كثيرة، آخرها ظهور صورة الكلب في رأسي. على مدار سنة، كنت أكتب عن فكرة تشغلني حول طبيعة العلاقة مع الآخر والشرّ وكيفية التعامل معه. ظهرت تلك الأسئلة مبعثرة في نصوص أو مسوّدات غير مكتملة. كما كتبت قصة قصيرة بعنوان «الرجل الذي محا الشر» محمّلة بتلك الأفكار، لكن كلّ ذلك لم يكن كافياً لكتابة رواية. كنت أحوم حول الفكرة إلى أن ظهرت في رأسي صورة لرجل يضرب كلباً للمرة الأولى، وكانت هذه اللّحظة التي قرّرت فيها كتابة الرواية، ولا أعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. لكنني أدركت أن هذه الصورة كانت بمثابة الحجر الناقص.

يعني أنّك تفاجأت بكثير من أحداث روايتك؟
ــ هناك الكثير من الجمل التي لا أعرف كيف كتبتها. فاجأني أثناء التّحرير مثلاً إحساس البطل بغياب ثقته بجسده كأثر للخيانة، ولحظات وصف شعوره عندما قرّر ضرب الكلب والتحوّل الذي يحدث داخله. وعندما كتبت «الكلبة البيضاء المرقطة»، كنت أسير خلف حدسي دون معرفة إلى أين سيقودني. أثناء الكتابة أيضاً، لم أكن أعرف ماذا يمثّل الكلب، كنت في مرحلة أن أختار الحكاية أولاً. وأظن أن الأهم من الأفكار بالنسبة للرواية هو الحكاية. أما الدّلالات فتتكوّن من الإخلاص في هذه الحكاية. تفاجأت بأفكار تدور في رأسي تُضيف أبعاداً للبطل كونه مصوّراً «رجل يسعى لتصوير الشر»، أيضاً حذفت الأجزاء الخاصة بالعائلة، وقرّرت إبقاء الكلب بدلاً من الصديق. جميعها كانت مفاجآت لخدمة الحكاية بشكل أفضل. عموماً الوعي واللاوعي منطقة مراوغة في الكتابة.

سؤال الشرّ واختبار المبادئ حاضر في الرواية، لماذا اخترت الخيانة كخطيئة حاضرة تنوب عن كل الشرور؟
ــ لم أختر أي نوع من الخيانة، فالخيانة الزوجية مع صديق تجمع الكثير في دلالتها سواء في الحب أو الصداقة أو الأبوّة. والكلب في الناحية الأخرى معادل لهما.
لكن الأشياء لا تأتي بهذا الشكل المنطقي المرتّب، أكتشف ذلك أثناء الكتابة. ومع التّحرير أختبر صحّة خياراتي. لا أخطّط للعمل قبل الكتابة، ولكنّني أخطّط أثناء عملية الكتابة نفسها، وهذا ما تعلّمته من تجربتي في «بياصة الشوام»؛ فأنا أكتب وأعيد الكتابة، ما يجعلني أستعيد الخطة في ذهني وأعدل الطريق بينما لا يزال يتشكّل عبر مئات من القرارات الصغيرة السابقة على عملية تحرير المسودّة الأولى.

عندما نضع رواياتك جوار بعضها، نجد أنه بجانب هواجسك الشخصية وأسئلتك التي تطرحها خلالها، فإن طريقة تناول الحكاية وشكلها يشغلانك دائماً
ـــ في كلّ عمل، أشعر باختبار الكتابة وسؤال الشّكل للمرة الأولى، حتى يتولّد الشكل من الحكاية نفسها وبنية النص وتشكّل الشخصيات. وفي رأيي أن أزمة الرواية في العالم كلّه أنها أصبحت وصفة محفوظة لأنها أكثر شيء تمّ شرحه. وهذه الوصفة يمكن أن تخرج منها رواية ناجحة. لكن الأمر مخيف. الجمهور يذهب الآن إلى رواية سهلة وغير متعبة، وصارت هناك جوائز لهذا النوع من الروايات. فكيف سننتج أدباً جيداً وسط كل هذه المعايير والوصفات الجاهزة؟

لكنك مشغول بالكتابة كـ«صنعة» وهو ما ظهر أخيراً من حلقات «استكشاف النمط الفريد» التي تنشرها على موقع «مدى مصر». ألا يمكننا اعتبار ذلك استحضاراً لوصفة أو تأثيراً على تلقائية الكتابة؟
ــ أكتب سلسلة من المقالات عن فنّ القصة القصيرة، والغرض منها ليس القول بأنّ هناك قواعد للكتابة؛ لكن كي أُظهر أنّ لكل قصة نمطاً خاصّاً بها. كيف أكتشف ذلك النمط وأتعلّم منه عندما أحتاج؟ وكيف أخلق النمط الخاص بي؟ هذا عكس استحضار وصفة بعينها للكتابة باعتبارها الأكثر نجاحاً وانتشاراً بين الجمهور. وبالمناسبة الحرفة عكس الوصفة، فالحرفة هي الاستماع الجيّد لصوت الحكاية وإدراك شكلها وبنيتها الفريدة. وليس إدخال نظريات عنوةً على النص من دون أن تتولد من داخله. منذ روايتي الأولى «ماندورلا»، تولّدت لديّ أسئلة عن كيفية تجسيد ذلك العالم بشكل أوضح وأفضل، وكانت الحرفة هي الإجابة. والحرفة هنا تتحوّل إلى عملية أشبه بالصلاة؛ نوع من الطقوس الذي يساعدك على اكتشاف نفسك بشكل أفضل.

بالحديث عن الرواية التي يحبّها القارئ، ماذا عن تصوّرك لقارئك أثناء الكتابة؟
ــ أنا فنّان، هدفي الأساسي تقديم حكاية مرويذة بشكل جيّد مقنع وممتع للقارئ. أما اكتشاف طبقات وأفكار العمل، فهذا أمر يختلف من شخص إلى آخر. وأتخيّل أنّ قارئ الأدب ذكيّ، يقرأ بهدوء. ولثقتي فيه، لا يُمكن أن أقدّم له معنى الرواية بالكامل. وفي ظنّي أنّ الكاتب الذي ليس لديه شيء يُخفيه يستهين بالقارئ.

الفلسفة جزء مهم وحاضر بقوة في مشروعك. تختار دوماً حكاية تختبر من خلالها الأفكار الكبرى وتسخر منها وتتهكّم عليها أحياناً.
ـ الفلسفة بالنسبة إليّ محرّك مهمّ وأحد روافد الكتابة لديّ. لكن الأفكار لا توضع في النص بليّ ذراعها. كتبت أخيراً مقالات عن الفلسفة واكتشفتُ أنني غير مستمتع لأنني لا أستطيع اللّعب مع تلك الأفكار أثناء عرضها في قالب المقال. الإبداع يعطيني مساحة اللّعب والمناورة مع تلك الأفكار. الفلسفة في رواياتي مصدر وليست غرضاً، أداة تساعدني على الرؤية.

في مجموعتك القصصية «مملكة من عصير التفاح»، كان الخيال والفانتازيا حاضرين بقوة، لكن توظيفهما اختلف عندما اتجهت إلى الرواية. حين تحوّلت قصتك «ماندورلا» إلى رواية، صار الخيال وسيلةً تطرح من خلالها أسئلتك، ولم تعد خيالاً خالصاً. هل كان ذلك نتيجة اختلاف القالب؟
ـــ معك حق. في «مملكة من عصير التفاح»، كنت أفتح باب الخيال فقط. أكتب النصوص بشكل يومي ولم أكن محمّلاً وقتها بأسئلة كبيرة أو هواجس واضحة. وأظن أن الغرض من تلك المجموعة القصصيّة كان فقط فتح تلك البوابة داخلي بدون رقيب، وأفدت منها لاحقاً. في «ماندورلا»، اختلف الأمر، لكنها لم تكن لتُكتب إلا بهذا الترتيب. ورواياتي التالية أفادت من ذلك كثيراً، كأنني أدخل طريقاً أكتسب خلاله خبرات إيجابية وسلبية «بنصلح أخطاء ونرتكب أخطاء جديدة».
في «ماندورلا» وصفت الكتابة في سياق ساخر بأنّها «الفعل الأكثر وقاحةً في العالم لا يجيده إلا السفلة والغرباء»، ماذا عن تطور مفهوم الكتابة بالنسبة إليك عبر أعمالك المختلفة؟
أظنّه نَضَج. فمعنى الجملة أن الكتابة تحتاج عملية من الشكّ، والنّشر جزء منه وقاحة. لكنّنا نحاول أن نكون أقل وقاحة من خلال إعادة الكتابة والتحرير. لا أتذكر الظروف التي أنتجت فيها هذه الجملة؛ لكنني من وقت إلى آخر أعود لـ«ماندورلا» بكل ما بها من مزايا وعيوب، فأكتشف أنها النص الذي يحمل أغلب أسئلتي وهواجسي الرئيسة التي أعمل عليها حتى رغم تطورها وتقديمها بشكل أفضل في الأعمال التالية.
الكتابة تأتي من الجزء غير الناضج فينا، ومن الفضول الذي يحمله تجاه العالم


كيف تتعامل مع السؤال الذي طرحته في النص نفسه: «ماذا تعرف عن العالم لتضيف إليه الكلمات»؟
ــ الكتابة تأتي ممّا لا نعرف وليس ما نعرف. وقتها لم تكن هذه إجابتي، والسؤال لم يكن له إجابة أصلاً. لكنني أكتشف أن الكتابة تأتي من الجزء غير الناضج فينا، ومن الفضول الذي يحمله تجاه العالم، وليس الجزء الذي يحمل معرفة مسبقة. هناك جملة أخرى في «بياصة الشوام» تحمل ذلك الصدى: «قلبي مجروح، هذا كل ما أعرفه عن العالم».

تقول إنك بالرّجوع لروايتك الأولى، تجدها محملة بالكثير من أسئلتك وبالفعل نلاحظ أنّ هناك الكثير من الأسئلة المشتركة بين رواياتك الخمس.. هل تقتنع بمقولة إنّ «الكاتب يكتب نصاً واحداً بأشكال مختلفة»؟
ــ أقصد أن الرواية الأولى تفاجئني عندما أظن أن هناك أسئلة اكتسبتها من الثقافة، فأجدها كانت أسئلتي الأولى، ودور الثقافة والخبرة هو تعميق تلك الأسئلة. وفي رأيي هناك الكثير من الجمل المتعلقة بالكتابة والتعميمية بالذات هي جمل كيتشية. لا أظن أنه نص واحد أُعيد كتابته، يمكن أن يحدث ذلك لبعض الحالات وتعميمها هو المشكلة.
يكون عندي هاجس أو سؤال حول الشكل والحكاية، فأكتب مثلاً «إخضاع الكلب» فلا أجدها مشبعة لأسئلتي أو أشعر بأنني لم أجب على السؤال بالشكل الأمثل وبالتالي يمكن أن أعيد السؤال نفسه بشكل آخر. نجيب محفوظ مثلاً كتب حكاية السقوط من الجنة بطرق كثيرة وفي صور مختلفة، فـ «الحرافيش» لا يمكن أن تُكتب من دون ما حدث مع «أولاد حارتنا»، وهما روايتان مختلفتان تماماً، لكن سؤال الشكل مشترك: الواقعية أم الرمزية.. فنجد أن شخصية عاشور الناجي خرجت في صورة تمزج بين عدد من الأنبياء بدون أن يكون غرضه إظهار أنه نبي، إذ أفاد من المرات الأولى والهواجس الأولى. أحياناً يكون السؤال في داخلك غير مكتمل، يعني أنا أحاول في روايتي القادمة الإجابة على سؤال الشكل غير المكتمل في «سيرة سيد الباشا» لأنني ما زال عندي قلق تجاه ذلك الشكل من الكتابة وعندي أمل أن أطوّره. لكن يظل كل نصّ مغامرة مختلفة.

ماذا عن تفاصيل روايتك القادمة؟
ــ حكاية تدور في بار انتهيت من مسودتها الأولى تحت اسم «بار ليالينا»، وأتمنى أن تكون جاهزة للنشر في أيار (مايو) المقبل. يمكنني أن أصفها الآن بأنها أكثر خفّة من «إخضاع الكلب» و«بياصة الشوام» على مستوى اللغة والبنية وطريقة السرد.

من الواضح أن الكتابة جزء مهم من يومك، فهل لك روتين أو طقوس معينة؟
ــ يومي الطبيعي قراءة وكتابة، هكذا أحس أنّه مشبع بالنسبة إليّ. أكتب الكثير من المسودات والأفكار العشوائية يومياً. أفضل الكتابة في الليل لأنه الوقت الذي أشعر فيه بصفاء ذهني وأقدر أن أكتب بشكل أفضل. وهذا ما أحاول الحفاظ عليه في أغلب الوقت.

انتقلتَ أخيراً إلى مدينة ذهب، جنوب سيناء، وهي مكان حكاية «إخضاع الكلب». كيف تتعامل مع البُعد عن القاهرة، خصوصاً أنك تعتبرها مدينتك الملهمة؟
لا تزال القاهرة مدينتي الملهمة، وأرى ذهب من عين القاهرة كأنها مرآة لها. النسبة الأغلب من السكان هنا قادمون من المدن الكبرى، ويتحركون حاملين نفس أزمات تلك المدن من دون التخلص منها. كأنني قادر على رؤية القاهرة بشكل مكثف وواضح، خصوصاً الأنماط الأولى من العلاقات لصغر المدينة. لم أكن أنوي أن تكون حكاية «إخضاع الكلب» في ذهب، لكنني رأيت هارون كانعكاس لابن مدينة كبرى. أما قرار الانتقال، فسببه الرئيس هو أن تعيش عائلتي بشكل أفضل.

لا يمكن تجاهل مشوارك في الصحافة وتأثيره على مشروعك الروائي.
ــ اخترت العمل بوعي لأن له علاقة بالكتابة، ونجحت سريعاً في الصحافة ما جعلني أعمل في مناصب إدارية فيها، أو أن أكون مشغولاً بفكرة ما طوال اليوم ولا أستطيع أن أقوم بشيء آخر، وبالتالي لم يكن العمل في الصحافة مقتصراً على كتابة نص فقط، إذ تداخلت الكثير من المهام الأخرى التي تعطلني عن القراءة والتطوير في الكتابة. ساعتها قرّرت التراجع لكنني ما زلت إلى الآن أنشر مقالات مختلفة. فهي في النهاية جزء من عملية الكتابة.

كروائي ومشتغل في الصحافة، كيف تقيم الصحافة الثقافية في مصر الآن؟
الصحافة الثقافية تحتاج لمساحات أكبر في المواقع والصحف لأنها أثبتت نجاحات كبيرة على مستوى الكتب. نجد أنّ «سيرة الرواية المحرمة» لمحمد شعير حقّقت نجاحاً وانتشاراً، فضلاً عن كتب أحمد خير الدين، وتحقيقات الصحافي محمد رياض، وكتاب «محمود درويش في مصر.. المتن المجهول» لسيد محمود أو «حرز مكمكم» لـ أحمد ناجي، وجميعها أعمال خارجة من قلب الصحافة الثقافية وقادرة على الاشتباك مع المجتمع والسياسة بطرق سرد جديدة. بالتالي الصحافة الثقافية تحتاج إلى إعادة نظر من رؤساء تحرير الصحف والمواقع واختيار صحافيّين أفضل، لأنها في ظنّي أحد الحلول لنجاة الصحافة من أزماتها.

ماذا تقرأ الآن وما الكتب التي ترجع إليها بشكل دائم؟
ـ أرجع دوماً إلى «دون كيشوت». أجد فيها التقنية بشكلها البدائي والأساسي، بالإضافة إلى «المعلم ومارغريتا» لميخائيل بولغاكوف، و«فاوست» لغوته. حالياً أقرأ «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» لإيتالو كالفينو للمرة الثالثة وأظن أنه سيكون نصاً أرجع إليه كثيراً، إلى جانب «إفلات الأصابع» لمحمد خير.