كنت أقول دائماً إن بيروت مدينة عادية، لا يمكن أن تغيّر فينا شيئاً. لكن هذه كذبتي الأكبر في الحياة. الكذبة التي لم أتكبّد عناء جعلها قابلة للتّصديق أو قريبة من الحقيقة حتّى. بيروت لم تكن يوماً مدينتي، لم أملك حتّى القدرة على أن أمون عليها. لا يمكنني مدحها أو ذمّها أو توصيتها بالرأفة بنا، نحن الذين همنا فيها بلا خطٍ للرجعة، بلا حسابٍ لأول حبٍ تحت المطر في الحمرا، وأوّل شتيمة تسمعها أمام النُّصب التذكاري على مستديرة السفارة الكويتية. كنت في العشرين حين أتيت إلى هنا للمرة الأولى. لم تلدني الدّنيا هنا في بيروت. حين ذهبت للمرة الأولى إلى عين المريسة، قالت لي آية: صارت بيروت مدينتنا. كانت فرحة بأنّها صارت تملك موطناً هنا. صار يمكنها القول «أنا من بيروت». أنا لا أقول لبيروت: «أنا بحوبك يا بيروت». أترك الحب لها وحدها. على بيروت أن تحبنا بنفسها، أن تحضرنا إليها، أن تخترع لنا صوتاً نتبعه لنمشي نحوها.
ولكن في 4 آب ركضت ليلى. ركضت ولم تجلس في كوريدور منزلها البيروتي الضيّق، ولم تنزل إلى القبو، ولم تقرأ آيات السدّ ولم تحاول ترك القرآن مفتوحاً عليها، قبل أن تترك المنزل مستسلماً للقصف. أي لم تستعمل كتالوغ الحرب اللّبناني. ولكنّها ركضت، ولم تترك أملاً للعودة خلفها. تركت كلّ الكتب مغلقة ولم تفكّر بالنجاة. ليلى جدّتي السّبعينية التي لم تحسب حساب كل ذلك. عاشت في دوامة الحرب الأهلية، ومشكلتها الوحيدة أنّها لم تمت فيها. هذا ذنبنا البيروتي الوحيد، أنّنا لم نمت. لم تكن تتوقّع بأن ذاكرتها تلك التي دفنتها في قلب الشيّاح ذاتها سنة 1975 ستعود إليها مجدّداً بعد خمسة وأربعين عاماً.

أرا أوشاغان ـــ «مشروع ذاكرة بيروت 56» (طباعة صبغة أرشيفية على ورق فني ناعم ـــ 50.8 × 71.1 سنتم ــــ 2018 ـــ 2021)

في الآحاد، لم أكن أخرج من المنزل، أجلس بوجه المدينة، أتفقّد المارة، يستحيل أن تبقى الوجوه ذاتها في بيروت. كل يوم وجه جديد لوجوه المنطقة نفسها. في الشيّاح، لا يمكن أن يمر وجه جديد دون أن تعرف بالأمر. تلحظ ذلك من تجمهر رجال المنطقة. يقفون متفرّقين، يبصقون ما تبقّى في أفواههم ويخرجون سيف علي ابن أبي طالب من تحت «الفانيلا» البيضاء. وربّما يخرج الحاج علي كركي من ملحمته بعد أن يغرز سكّينه في البفتاك ويقف واضعاً يديه على كرشه بعد أن يلفّ شاربه إلى جانب واحد.
أضع قدميّ الصيفيّتين للغاية فوق درابزين الشرفة وأنظر إلى المنطقة نظرة بعيدة. لو نظرت إليها عن قرب لسقطت فوق نفسها. الشيّاح تحتاج نكزة كي تعود إلى ذاكرتها الوحيدة: الحرب. إذا زاغ نظرك قليلاً عن تلك الذاكرة، ستعيدك إليها صور الشهداء وأعلام الميليشيّات وبقع الدماء التي بقيت على الجدران لتسمعنا صرخة عمران الذي لم يتجاوز السابعة. وقعت يد الصبي أمام الحائط ولكنّ أشلاءه المتبقيّة اختفت. بعد صرخة عمران، عرفت أن الأيدي هي كل ما يتبقّى من الموت هنا.
على أيّ حال، عمران مات في أرض المدينة، والحاج علي كركي لفّ شاربه في أرض المدينة ورجال المنطقة كذلك. انقسمت الشيّاح إلى قسمين بعد الحرب، أعلى وأسفل. في الأسفل هناك وقعت الحرب وما سبقها وما أتى بعدها. هناك أعطت أسمهان طفلها إلى أسعد في القبو، ومرّر عمران طابة الفوتبول إلى أصدقائه أعلى المدينة، في الواجهة وصرخ «غوووول يا م×××ك». هناك حشروا المتاريس. ووضعوا بعدها للشيّاح أفخم أنواع الزجاج على مبانيها العالية، واحدة تنطح الأخرى. زيّنوا شرفاتنا بأحدث أنواع الورد الأزرق، كي يتلهّى المارّة بزرقة بيروت الواضحة، فيتناسوا المجزرة التي وقعت في الأسفل.
الحروب تحدث هكذا أساساً في أسفل الأرض بينما يتلهّى أصحاب المساكن ببناء أجمل مساكن الأرض أعلاها، فلا تبقى للحرب ذاكرة سوى الستائر المخطّطة التي ظلّت مفتوحة على وسعها، والجدران التي تركت عليها الحرب ثقوباً هائلة. من الخارج تبدو مثل لوحة هادئة. وقف فيها الزمن. ولكن من الداخل هي ليست سوى فلاش باك للمجزرة برمّتها. بعد هذا كلّه، بعدما حشروا الموت في الشيّاح، لم يبقَ سوى يد عمران وهي تُشير إلى مكان ما في السّماء، من فوق أكياس الإسفلت المكوّمة لإعمار أعلى الشيّاح بأجمل البيوت البيروتيّة التي لم يعرف زجاجها المترف كيف يعكس الموت المحشور داخلها.
في كلّ مرّة أنظر فيها إلى صور الضحايا، ينتابني شعور بأنّني أعرف وجوههم جميعاً. كما لو أن أحدهم مرّ في ذاكرتي أو التقيت بهم دفعةً واحدة في زمنٍ آخر. كما لو أنّ كل ما حدث هو تكرار لقصة واقعة مسبقاً بيننا، ولذكراها المهولة لم ننسها. في كلّ مرّة أنظر فيها إلى صور الضحايا لا أرى إلا تكراراً للتاريخ. هذا ما لا يُنسى أبداً. لم يبقَ شيء في ذاكرتي من ذلك النّهار غير ذلك. لم أعد أذكر المشاهد جيّداً، غباش يسود على ذاكرة المجزرة.
بعد الانفجار بساعات، بدأت الأصوات تُمحى من رأسي. لم أعد أسمع البكاء الذي أتى من مستشفى الخوري، ولا صوت الطائرة التي راحت تحوم حول المرفأ في دوائر وكأنّها تقوم بمراسم التّطهير الاعتيادية. ترشّ الماء على الضحايا رشّاً. ولم أعد أسمع صوت انهدام كنيسة الجميزة، وقف المسيح بلا يده في الكنيسة، حملها عامل البناء مثل عبدٍ ضائع. كل شيء بدا ضائعاً في بيروت، ليس فقط الأماكن بل الناس أيضاً. ولا أعرف، صدقاً لا أعرف كيف كانت لنا هذه القدرة الهائلة على تحمّل كلّ هذا الألم. حتّى الصّور والمشاهد صارت غباشاً. إلّا صورة واحدة أرسلها لي صديق من أمام «مسرح المدينة». كانت يد في الأرض، على زاوية مدخل المسرح. أرسلها مسرعاً، وكتب لي عليها «يد عمران».
إذا فكّرنا في البلد وفي حالنا، سنصل إلى نتيجة واحدة، أننا ورثنا الحرب والموت والهزائم وأن الأزمان كرّرت ذاتها بذاتها. لا شيء تغيّر. سنعيد الخسائر ذاتها ولكن بهيئة الوقت والزمن الذي نعيش فيه. الحرب في 1975، ثورة 15 مارس، اتفاقات الهدنة في مصر عام 1949، غزو 2003 في العراق، حتّى الأنظمة التي أسقطناها وتلك الّتي كبرت على حسابنا ستعاود حالها.
أشاهد بيروت في «همسات» الفيلم الذي أخرجه مارون بغدادي عام 1980، وأنظر إلى بيروت الآن. لا فرق في المشاهد والدّمار. هذا تكرار مخيف للأحداث، وتكرار لذات النّظام. النّظام الذي قتلنا واحداً تلو الآخر، قتل آباءنا وصنع منهم زهوراً، لنعبر فوقهم بخفة ونعيد الكرَّة.
منذ أن لم يسقط النّظام بعد الحرب الأهليّة، كان علينا توقّع كل الحاصل. ومنذ أن لم يسقط النظام بعد انفجار المرفأ، كان علينا توقّع كلّ الحاصل والمجازر الآتية بعد. بيروت مدينة الفانتازيا، ليست مدينة عاديّة بالمرّة. هذا صدقي الأكبر في الحياة. صارت بيروت مدينتنا يا آية. لذا، بالأمليّة يا مدينة ارأفي بنا.
الآن، بعد مرور سنة صرت أتذكّر الأشياء دفعةً واحدة. كان كل شيء تروما مؤجّلة. الحمرا، الشّيّاح، حديقة الصّنايع. أتذكر الشوارع التي لففتها في ليالي الخميس وكل الزجاجات التي تركناها فارغة على رصيف الجميزة. أتذكّر الحبّ الذي وقعت فيه في بيروت ولم يحدث مثله في مكان آخر. أتذكّر الآن كل شيء دفعةً واحدة، وأصدّق أن بيروت لم تعد صالحة لكل هذا. بيروت فقط، لتكرّر الأزمان الرديئة.
* بيروت/ لبنان