في روايته الأخيرة «المأدبة السنوية لأخوية حفّاري القبور» الصادرة عن «دار آكت سود» الباريسية (2020) والمترجمة أخيراً إلى العربية عن «منشورات الجمل» (2022، ترجمة الزميل محمد ناصر الدين)، يأخذنا الروائي الفرنسي ماتياس إينار (1972) إلى قلب «فرنسا العميقة»، فرنسا الداخلية التي قلّما يعرفها السياح ليبث الفوضى المبهجة في ريف مقاطعة الدو- سيفر المنسي. العمل يشبه إلى حد ما الوجه الخفي لماتياس إينار، الروائي الأكاديمي وأستاذ ومترجم اللغة العربية، الحائز جائزة «غونكور» عن روايته «بوصلة» عام 2015. بعدما حملنا بين محطات التاريخ العاصف لحوض المتوسط والمسكون بدوامات العنف المتعاقبة في «زون» (2008)، ثم انتقل بنا إلى أجواء القسطنطينية في القرن السادس عشر في رواية «حدّثهم عن المعارك والملوك والفيلة» (2010)، وإلى أجواء الربيع العربي وتداعياته من المغرب إلى برشلونة في «شارع اللصوص» (2012)، يعود إينار في عمله الروائي السابع إلى «المنزل» إذا جاز التعبير. نوع من العودة إلى الجذور للكاتب الذي ولد ونشأ في هذه المنطقة من غرب فرنسا: «لأنها منطقة تركتها قبل ثلاثين عاماً وكل كتبي تتحدث عن وجهة ما بعيدة، أردت أن أعود إلى هناك من باب الأدب، وبعد ذلك أدركت كروائي أنه حقّاً مكان شديد الغرابة، منطقة ذات جغرافيا غير متوقعة وممتلئة بقصص غير متوقعة أيضاً، ويمكن للمرء أن يجد هناك أرضاً خصبة تنتج كل الأشياء التي تسحرني: التاريخ العميق للمنطقة واللغة والأدب»، يقول إينار المستقر في برشلونة منذ 2001 واصفاً الرواية.

نسافر إذن مع إينار إلى الحد الفاصل بين مقاطعتي بواتو والدو-سيفر الفرنسيتين، على خطى بطلها ديفيد مازون، طالب الأنثروبولوجيا الباريسي المعتدّ بنفسه كثيراً، والمقتنع بالسير على هدي أبطاله في علم الأعراق البشرية، كلود ليفي شتراوس ومالينوفسكي، من أجل أطروحة الدكتوراه المكرسة لـ «الحياة في الريف في القرن الحادي والعشرين». يستقر في قرية تقع في مدار مدينة نيور أو «العاصمة العالمية للتأمين المتبادل كما يصفها»، فيطلق على البيت الذي يستأجره في جزء من مزرعة زوجين مزارعين اسم «الفكر البري» في إحالة إلى كتاب شتراوس الشهير. ويركب دراجة بخارية قديمة متهالكة يجوب بها الريف، ويبدأ التواصل مع السكان لإجراء مقابلات أطروحته انطلاقاً من «مقهى الصيد»، المتجر الوحيد في القرية، حيث يلتقي عمدة القرية ومتعهد الموتى فيها، وهي المهنة التي يصفها الراوي بأنها الأقدم في التاريخ «حتى قبل المهنة الأخرى»، إلى جانب زوجين من الإنكليز المتقاعدين، ورسام بمخيلة جنسية شبقة، وبستانية مناضلة من أجل البيئة ومناهضة لخطط الحكومة لإنشاء السدود الاصطناعية في الناحية المليئة بالمستنقعات الطبيعية. يتعرف مازون إذن إلى جيرانه وعاداتهم في الصيد ولعب الورق (يفرد صفحات كاملة لتفاصيل لعبة البيلوت بين رواد المقهى) والمعيشة والترفيه، لتبدأ المركزية الباريسية الباعثة على الاعتداد بالتراجع في داخله. يترك عالم الإناسة موضوعه الأكاديمي شيئاً فشيئاً حين لم يعد ينجح في الحفاظ على مسافة الحياد الضرورية الخاصة بأي دراسة ميدانية، وتدفعه المغامرة إلى تغيير علاقته بالعالم والطبيعة ومشاريع حياته وتتحول إقامته الدراسية إلى تجربة تمهيدية ستتخذ شكل العودة إلى الأرض.
أسلوبياً، لم يلتزم إينار بالشكل التقليدي للرواية من تمهيد لحبكة تتصاعد فصولها وتنحل شيئاً فشيئاً في نهايتها. لكن يمكن تقسيم الرواية إلى محطات ثلاث، تبدأ بمذكرات مازون حول محاولات تأقلمه مع بيته الجديد والمنطقة الريفية ومراسلاته الإلكترونية الإيروسية مع صديقته الباريسية. والمحطة الوسطى هي المأدبة السنوية لأخوية حفاري القبور التي يتولى عمدة القرية تنظيمها هذا العام في الدير الذي سكنه رابليه لفترة من حياته. يتنادى كل متعهدي دفن الموتى في فرنسا إلى وليمة مادية عامرة بكل أنواع اللحوم والأسماك والمقبلات والحلويات والفطائر والخمور، بحيث يمكن اشتقاق معجم إيثيمولوجي فعلي من الرواية لكل نوع منها، لكنها كذلك مأدبة وفكرية. إذ يتوجب على وجهاء الحفارين استحضار الموت كمادة للضحك والحب والحداثة ولبيئة وحقوق النساء في الانتساب للأخوية والفكاهة والفلسفة كخطابات مطولة في أيام المأدبة الثلاثة حيث تُعقد هدنة مع الموت، «راعي الأخوية وشفيعها».
المحطة الثالثة والأخيرة هي وقوع مازون في غرام المناضلة البيئية وهجره لصديقته الباريسية للانتقال مع «لوسي» لاستثمار ملكية مهملة لوالدتها ومشاركتها إنتاج بقول وفواكه ومنتجات عضوية صديقة للبيئة. في ثنايا السرد، يعود ماتياس إينار ــ وأحياناً عبر لوحات منفصلة يطلق على كل واحدة منها عنوان «أغنية» ـ إلى التاريخ المضطرب والمتضارب للمنطقة، من خلال تصوير قصص الفروسية في الماضي البعيد، مروراً بمذابح الكاثوليك والبروتستانت والمعارك مع عبد الرحمن الغافقي، وصولاً إلى جرائم الشرف والمذابح النازية.
ضربة المعلم التي استخدمها إينار للسفر في الزمن بسلاسة في ثنايا الرواية، تتمثل في توظيف مسألة التقمص أو الاستنساخ التي يسميها «العجلة». يقول في أحد حواراته إنه اطّلع عليها من الفكر الشرقي القديم واحتكاكه ببعض الموحدين الدروز في سوريا. إذ عندما تترك «الروح» جسداً عند الموت، تجد على الفور «وعاءً» آخر، في الحاضر أو الماضي، في الإنسان أو الحيوان أو الحشرات التي يراها مازون في حوض الاستحمام في منزله. وهو ما يمكّنه من الانتقال بسلاسة في الرواية تقديماً وترجيعاً بين الشخصيات والأحداث، وما يسمح باستعراض تاريخ المنطقة على مدى القرون الخمسة الماضية، كما لو كنا نفتح كتيباً رائعاً أمام أعيننا ولا يفوتنا أن نعثر في خلفية العمل على روح الدعابة والذكاء للكاتب. نرى الظلال الصغيرة لأسلاف من يلتقيهم، وهم ينزلقون بالتناسخ كخنزير أو قطة أو كبقّة الفراش التي تغرز إبرتها، في الأول من تموز (يوليو) عام 1815 في ساق نابليون بونابرت في فندق «في نيور». هذا التلاعب بالزمن قد يجبر القارئ أحياناً على التنازل عن ردود أفعاله كقارئ عقلاني، إلا أن الرواية تظل حتى السطر الأخير مشحونة بالمعنى والمتعة: من الملاحظات الساخرة حول التضاد بين الحياة المركزية الباريسة والأنماط الريفية الاجتماعية والثقافية، مروراً بالعمق التاريخي الذي يغني القارئ، انتهاءً بالمرح والعمق الفلسفي في تشريح الموت على مأدبة حفاري القبور السنوية. النقطة الأخيرة هي ما تعطي رواية إينار كل فرادتها، إذ نادراً ما نعثر في الأدب الحديث - في السنوات الأخيرة على الأقل - على كتاب مبهج حول الموت. لذلك يستثمر إينار كثيراً في التراث الأدبي الإغريقي والفرنسي القديم، من أدب سينيكا وخطابات بوثيوس وأدب الحروب الصليبية وشعر فرانسوا فيلون وأنشودة رولان، إلى قصص الكرنفال التي تقاوم آلام الموت من خلال الاحتفال بالضحك والحياة، إضافة إلى استحضار فانتازيا غارغانتوا التي يوظفها أحد الحفارين في خطابه في فرحة فاضحة ومجون فاقع في وجه محدودية الإنسان كجسد والموت الذي كان رابليه كطبيب يواجهه يومياً كطبيب. لا يواجه القارئ أي عسر هضم عند قراءة «المأدبة»، وإن سال لعابه عند المعجم الهائل لقائمة الطعام التي يفصّلها إينار في الجزء الأوسط من الكتاب، وقد بذل المترجم جهداً ملحوظاً لمقابلتها بنظيرتها العربية، إضافة إلى الوليمة الفكرية المتضمنة لأشعار كاملة من التراث القديم توجب نقلها بعناية، بحيث يجد القارئ نفسه بسرعة يشارك الحفارين متعتهم خلال الأيام المكرسة للمّ الشمل حيث لم تعد العجَلة تدور، ولا أحد يموت ولا أحد يطالب بدفنه.
نادراً ما نعثر في الأدب الحديث على كتاب مبهج حول الموت


يقول إينار في أحد أحاديثه الصحافية: «حتى سن العاشرة، نشأت في قرية ريفية صغيرة، وذهبت إلى المدرسة سيراً على الأقدام، وكنّا أحراراً تماماً. كان آباء العديد من زملائي مزارعين أو رعاة. عندما ننظر إلى هذا الكون من مسافة كافية للتأمل، يمكننا أن نرى بوضوح كم فقدنا رؤية الروحية، والعلاقة مع الطبيعة، والانتباه إلى التنوع البيئي والحيواني. بعدما عشت في المدينة لبقية حياتي، نسيت أن هذه الأرياف لديها أيضاً قصص تروى، وكلما نقبت في تاريخها وحاضرها، قلت لنفسي إنها كانت أرضاً رومانسية بشكل لا يصدق». نجح إينار إذن في العودة إلى جذوره من رواية تختلط فيها المتعة بالأدب ولو من باب الموت الذي يبدو أليفاً حين يردد الحفارون مثلاً، في أحد طقوس المأدبة، أسماءه التسعة وتسعين في قالب طريف للغاية. لكن الموت في المقاطع التي يعطيها الكاتب عنوان «أغنية» يخرج أحياناً من تجريديته ويغرز خنجره في القلب، كما في قصة إستير التي تعود بعد سنوات من الحرب الثانية لزيارة القبو الذي أعدم فيه النازيون أطفالها الثلاثة: «لم تقدر إستير أن تمنع نفسها من أن تتبَع الشاب إلى داخل المسلخ. مربّعان قديمان وقذران من الخزف، أرض محدّبة من الأسمنت، مع أخاديد وبوابة شبك صغيرة. عوارض من معدن، وحواجز كما في السيرك أو الملعب. رأت بما فيه الكفاية. تريد الخروج. تختنق. ما من هواء هنا. ما من ضوء. صرخات فرح. هتافات فرح، ماما، ماما، وجسمها فجأة ممسوك بستّ أيادٍ، ست أذرعة، ثلاثة وجوه تلتصق إزاءها، الحرارة الخانقة للسعادة، المتعة البسيطة للمستحيل في وضوح المعجزة، الأول الذي يقول، ماما، لقد نمتُ جيداً، والآخَر الذي يضيف، ماما أنا أيضاً نمتُ جيداً، ظننتُ أنّي في الفردوس، همس الثالث، وما أجملهم وإستير تبكي، تبكي من الفرح، وكيانها كله هو الذي يبكي من الفرح في هذا المسلخ المتحوّل بفعل حضور نيكولا، بفعل النور العظيم للحاضر. بالطبع لم تعد تسمع شيئاً آخر، لم تعد تسمع ما في الخارج، لم تعد تسمع الجندي، لم تعد تسمع الطبيب، ورأسها اصطدم بشجرة الكستناء بقوة جعلتها تقضي على الفور، لم تعد تسمع الجندي، لقد كنت محظوظة بأن سقطت فوق العشب، لم تعد تسمع المزارع الممزق بالزجاج الأمامي المتداعي، نعم، محظوظة، هي لا تسمع، ولا تتكلّم؛ وجدوا في جيب قميصها صورة شمسية بقياس خمسة سنتيمترات، بحواف مدببة، منقوشٌة الخلفية بكتابات طفولية. لا أحد على الإطلاق يموت من ساعته».