منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، بدا للباحثين أن ثمّة دلائل ما على توقيت، أو على «صناعة وقت» ما في العصور الحجرية بدءاً من العصر الحجري القديم الأعلى (40 ألف سنة قبل الآن). فهناك تكرار لا يهدأ لمجموعات من الخطوط أو النقاط أو الأشكال التي توحي بتعداد وأرقام ما، بروزنامات ما. أي توحي بتقسيم ما للزمن بهدف السيطرة عليه. وأهمية فهم توقيت مجتمعات بهذا البعد الزمني، تنبع من أنها تمثل نقطة البداية لفهم أفكار هذه المجتمعات ومعتقداتها. ذلك أن الروزنامات ليست مجرد تعداد شخصي للزمن الذي مرّ، أو الذي سيمرّ، بل تعكس توافقاً اجتماعياً على التعامل مع الزمن، وتقطيعه، من أجل السيطرة عليه. فليس هناك روزنامة شخصية لكل فرد، بل هناك روزنامات عامة يصطلح عليها الجميع، وتصلح لهم عموماً. ومن دون السيطرة على الزمن، يصعب الحديث عن مجتمع، وعن تنظيم، وعن مستقبل. فليس هناك مستقبل من دون الروزنامة. المستقبل هو الروزنامة. والماضي والحاضر هما الروزنامة أيضاً. بذا فالروزنامة، أي السيطرة على الزمن، هي أساس وجود مجتمع حقيقي.
بالتالي، ففهم نظام التوقيت
الذي كان سائداً في تلك العصور والمجتمعات، هو نقطة البداية لفهمها وفهم معتقداتها الكبرى. وكتابي الذي أعرضه هنا «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية» محاولة لفك شيفرة الروزنامات التي نفترض وجودها. إنه كتاب روزنامات إذاً، لكنه كتاب معتقدات كذلك، فالروزنامات جوهر المعتقدات.
وقد بُذلت جهودٌ لم تنقطع لفهم التعدادات، لكن لم يجر حتى الآن تقديم فرض مناسب يتيح القول إنه قد حصل اختراق ما على هذه الجبهة. لكن يمكن القول إن القمر والشمس يهيمنان هيمنة شبه مطلقة على المحاولات التي جرت حتى الآن لفهم روزنامات العصر الحجري القديم الأعلى والأوسط. والحديث. وهو ما يعني أن جرى الافتراض أن توقيتنا نحن في العصور التاريخية هو الأساس الذي نفترضه لفهم توقيت مجتمعات العصر الحجري القديم الأعلى والأوسط والحديث.
لكنّ الاتجاه الأشد قوة يفترض أن التوقيت الشمسي لم يُطرح إلا مع الزراعة. فالزراعة هي التي تحوج الإنسان إلى معرفة الفصول وانقلاباتها، عبر متابعة حركة الشمس الظاهرية، كي يضبط زراعته على أساسها، حسب الفهم السائد. مع ذلك، فقد ظل هناك دوماً اتجاه يحارب بضراوة، كي يثبت أن التوقيت بالشمس كان هو السائد في هذه العصور.
والنتيجة المنطقية لطرد الشمس من قبل الغالبية من على خشبة مسرح صناعة الوقت فقد صار الافتراض أن القمر هو الأداة المتاحة الرئيسية، بل والوحيدة، أمام ناس تلك العصور لتقسيم الزمن والسيطرة عليه. ويمثل الأميركي ألكسندر مارشاك الأسطوري الاتجاه القمري أفضل تمثيل. فقد نصّب القمر ممثلاً وحيداً على خشبة هذه العصور، إذ هو بحركته المنتظمة الواضحة (روزنامة سماوية) على حد قول أحدهم، بل هو روزنامة الكون وساعته.
لكن فرضيتي المركزية في هذا الكتاب هي أن علينا، لكي نفهم روزنامات العصور الحجرية، أن نترك وراءنا صورة الكون كما عرفناها في العصور التاريخية. أي أن نتخلى عن الشمس والقمر، كأداتين مفترضتين للتزمين في تلك العصور. فالتمسك بهما يعني أننا لن نفهم الكتاب الضخم الذي خلّفته العصور الحجرية، ولن نستطيع التفاهم مع العقول التي خطّته لنا. صحيح أن القمر يبدو روزنامة واضحة وسهلة. لكن من المشكوك فيه أن القمر كان ينفع أداة توقيت رئيسية في العصر الحجري القديم الأعلى. فالتوقيت ليس تعداداً مجرداً للزمن الذي يمر، أو الزمن الذي سيأتي، بل هو تعداد مرتبط بالحياة، وباقتصادها على وجه الخصوص. وكيف سينفع القمر في اقتصاد صيادين وجامعي ثمار جوّالين؟ كيف سينفع القمر هؤلاء الصيادين في تحديد موعد هجرة سمك السلمون، وفي صيده من ثَم؟ وكيف سينفع في تحديد الحركة الموسمية للحيوانات والطيور التي يعتاشون عليها. ثم كيف سينفع في تحديد وقت شحّ المياه، أو تدفقها. وهل كان بإمكانه أن يعينه في تحديد فترة الدفء والبرد، وتحديد وقت اخضرار النبات وجفافه. والإجابة على هذه الأسئلة كلها: لا كبيرة واضحة.
لذا يجب البحث عن مرساة أخرى استندت إليها روزنامات العصور الحجرية غير القمر والشمس. وفرضيتي أن توقيت العصور الحجرية الثلاثة التي نتحدث عنها كان توقيتاً نجمياً- مائياً، إذ رأى أهل تلك العصور أن حركة النجوم كانت تسيطر على حركة الماء العذب في الكون، وعلى الأخص على حركة الماء السفلي. فظهور نجوم محددة كان يثير حركة الماء السفلي الكوني. فحين تظهر نجوم محددة، يخرج هذا الماء مندفعاً من الأعماق إلى سطح الأرض لكي يغذي الأنهار مثل نهر النيل ويجعلها تفيض ويجري ماؤها على وجه الأرض. لكن عندما تظهر نجوم أخرى غيرها، يعود هذا الماء من السطح، ويهبط من جديد إلى الأعماق، حيث يبيت هناك ويسكن من جديد. لذا، فللماء السفلي حركة مثل حركة الحية. فللحية فترة بيات شتوي، وفترة نشاط صيف دفء وصيف. في فترة البيات، تسكن الحية في شقوق الأرض، وفي فترة النشاط تصعد إلى سطح الأرض وتتموّج كما يتموّج الماء الصاعد إلى السطح.
لذا فقد وُعيت حركة الماء من خلال حركة الحية. استعيرت حركة الحية لتمثيل حركة الماء. عليه، يمكن القول إن أديان العصور الحجرية الثلاثة كانت ديانة استعارية لعبت فيها الحية الأهم على خشبة مسرح تلك العصور. وهو ما يعني أن الحية كانت أقدم وأعظم استعارة في التاريخ البشري. إنها أمّ الاستعارات الأدبية والدينية كلها. فقد جرى وعي حركة الكون من خلال الحية وحركتها. كما أن روزنامات تلك العصور بُنيت على غرار ما يمكن تسميته بروزنامة الحية، التي تنقسم إلى فترة بيات وفترة نشاط، أو خروج من البيات.
من أجل هذا، نجد أن الحية تهيمن على رسوم وحفائر العصور الحجرية. فالحيات في كل مكان. وهي تظهر على شكلين: حية متطوّية مترحّية متكعّكة تشير إلى فترة بيات الماء وسكونه في الأعماق، وحية منسابة متموّجة على سطح الأرض تشير إلى فترة صعود الماء من الأعماق إلى سطح الأرض، أي الفترة الفيضية.
الحية كانت أقدم وأعظم استعارة في التاريخ البشري. إنها أمّ الاستعارات الأدبية والدينية كلها


وقد قُسمت سنة تلك العصور بناءً على ذلك إلى فترتين: فترة بيات، وفترة نشاط.
فترة البيات تساوي 243 يوماً، وفيها ينام الماء السفلي ويتطوّى ساكناً في الأعماق كما تتطوّى الحيات في بياتها الشتوي.
أما فترة النشاط، فتساوي 81 يصعد فيها الماء السفلي من الأعماق ويتدفق على وجه الأرض متموجاً كالحيات في فترة الدفء.
لذا فمجموع الفترتين يساوي 324 يوماً. لكنّ هناك شهراً آخر مشتركاً على الحدود بين الفترتين، ويساوي 40.5 يوماً. لذا فسنة تلك العصور تساوي 364.5 يوماً مقسومة إلى تسعة أشهر، في كل شهر 40.5 يوماً. وهي بذلك سنة تشبه السنة السلافية القديمة التي تتكون من تسعة أشهر في كل شهر منها 40 أو 41 يوماً.

إذاً، فسنة العصور الحجرية أقل بنصف يوم من سنتنا الشمسية المكوّنة من 365 يوماً. لكنها ليست سنة شمسية، بل سنة نجمية- مائية استعيرت الحية لتمثيل تحولاتها. لذا يمكن القول إنها «سنة الحية» لا سنة الشمس ولا سنة القمر.
وحين بدأتُ هذا الكتاب، فقد بدأت من قطعة محفورة من ناب الماموث عُثر عليها عام 1929 في قبر طفل في موقع مالتا Malta في سيبيريا، ويبدو أنها كانت معلقة في عنق الطفل، وتعود إلى فترة ما بين 20-23 ألف سنة من الآن.
على الوجه الأمامي للقطعة ثمانية لوالب، أو في الحقيقة ثماني حيات متطوّيات. الحية المركزية منها مشكّلة عبر 243 ثقباً، وهي تمثيل فترة بيات الماء. أما على الوجه الخلفي فهناك ثلاث حيات منسابات متموّجات تمثل فترة الانسياب والخروج من البيات.
عليه، فقطعة مالتا هذه مختصر مدهش لروزنامات العصور الحجرية الثلاثة ومعتقداتها. ويمكن القول إنها الإنجيل المختصر لتلك المعتقدات.

* شاعر فلسطيني