بعد «كاكاو» و«نساء البنّ»، أعادت «دار الساقي» أخيراً إصدار النسخة العربية من رواية جورجي أمادو «عودة البحّار» التي كانت قد صدرت بلغتها الأصلية عام 1961، ونقلها الكاتب والمترجم السوري ممدوح عدوان إلى العربيَّة في التسعينيات، في إطار سعيها إلى تقديم كل أعمال الكاتب البرازيلي الشهير إلى قرّائها العرب. تتألّف الرواية من ثلاثة فصول (أو «أحداث»)، حيث نتعرَّف في الفصل الأوَّل إلى مسرح الأحداث وهو ضاحية بريبري الهادئة التي يسكنها عجائز ومتقاعدون، وتظلّ الحياة فيها رتيبة بطيئة إلا في أيام الصيف، حين يقصدها السيّاح فتدبّ فيها الحياة موقّتاً. ولا يحرّك ركود بريبري سوى مفتش الجمارك المتقاعد شيكو باشيكو كلما عاد من المدينة متحدّثاً عن مستجدّات الدعوى التي رفعها ضدّ الدولة. لكنّ الجمهور يفقد فجأة حماسته لحكايات باشيكو، وينزله إلى المرتبة الثانية بعد وصول فاسكو موسكوسو دي أراغان إلى بريبري ليقيم فيها، فالقبطان المتواضع والودود واللطيف مع الجميع من الأغنياء والفقراء بدون استثناء، وصاحب المغامرات المشوّقة التي لا تنتهي، تحوَّل سريعاً إلى المواطن الأهمّ والأكثر شعبيَّة في بريبري.

وبعد أن ينضمّ القارئ إلى متقاعدي بريبري في إعجابهم بشخصية البطل الأخّاذة التي يمثلها القبطان، يفاجئه الفصل الثاني بحكاية أخرى عن حياة فاسكو وماضيه قبل نزوله على شاطئ بريبري. وإن كان باشيكو الذي كشف الحكاية الثانية مدفوعاً بحقده وحسده، إلا أن لحكايته قدرة جيّدة على الإقناع. هكذا نكتشف أن فاسكو هو حفيد رجل أعمال ثري عاش شبابه في الحانات والمواخير، ونتعرف إلى تفاصيل مشوّقة تتعلق بحصوله على شهادة رئيس البحّارة.
أمَّا الفصل الثالث، فيحمل ملامح حسم المعركة بين أنصار كل من الروايتين. فقد مات قبطان إحدى سفن «إيتا» الكبيرة أثناء رحلتها بين ريو وسلفادور دا باهيا، وتسلم نائبه قيادة السفينة. وأمام القانون الذي يقول إنَّه في أوَّل مرفأ تتوقف فيه، يجب أن يقودها رئيس بحارة ولو كان متقاعداً أو في إجازة، وسجلّات قيادة المرفأ التي تبين أن أقرب قبطان هو فاسكو المقيم في بريبري، لم يكن أمام فاسكو إلا تلبية نداء الواجب. فهل تسير الأمور على ما يرام ويعود إلى بريبري قبطاناً حقيقيّاً بعد معموديَّة «إيتا» مصطحباً معه كلوتيلد عازفة البيانو الرقيقة التي تعرَّف إليها على ظهر السفينة أم تكذّب الرحلة المفاجئة ادّعاءاته؟
«كوميديا مبهجة» وإن ضمَّنها الكاتب أسئلة فلسفيَّة وطروحات فكريَّة ورسائل أخلاقيَّة


«الحقيقة مرميّة في قرارة بئر. هناك يمكن العثور عليها عارية بدون ستار ليغطيها... في قرارة بئر وعارية... البئر ليست بئراً والقرارة ليست قرارة... هذا يعني أنَّ الحقيقة يصعب نيلها... ولكن من واجبنا جميعاً البحث عن حقيقة كل واقعة وأن نغرق أنفسنا في ظلمة البئر لنصل إلى نورها القدسي»، يقول أمادو في مقدّمة روايته، ويختمها بقوله: «هل يستطيع قرّائي أن يقولوا لي ما الحقيقة الكاملة؟ كيف يسمو الإنسان على رحلته في الحياة: بالكيد والغش يوماً بيوم، أم بالحلم المحلّق الذي لا يعرف قيداً ولا حدوداً؟ أين الحقيقة؟ قولوا لي أرجوكم: في الواقع الصغير لكل منا، أم في الحلم الإنساني الكبير؟».
وإذا كانت الرواية قد اختُتمت – كما افتُتِحَت – بالأسئلة، فتركت القارئ في حيرة من أمره حيال صحَّة أيّ من الروايتين، فإنَّ الثابت والأكيد هو توريط الكاتب لقارئه في تعاطف مطلق مع البطل في جميع أحواله، إذ سيميل حتماً إلى تصديقه في الفصل الأوَّل، وسيستظرف كذبته البيضاء غير المؤذية ويتفهَّم أسبابها ودوافعها في الفصل الثاني، وسيحبس أنفاسه أمام احتمالات انكشافها في الفصل الثالث إلى حدّ ابتهاجه بعاصفة مفاجئة تقتلع البيوت وتجرف العربات والسيّارات وتنشر الأوبئة وتُبكي الفقراء وتركّع الرجال والنساء وتنتزع السفن من مراسيها وتخلّف قتلى ومفقودين، فقط لأنَّها ستبرّر قراراً اعتباطيّاً اتخذه قبطانه المحبوب، ليبدو قراراً حكيماً وينصّب صاحبه بطلاً عبقريّاً من جديد!
الوصف الذي أوردته الدار على غلاف الرواية نقلاً عن «نيويوركر» جاء مُنصفاً، فهي تبقى «كوميديا مبهجة» وإن ضمَّنها الكاتب أسئلة فلسفيَّة عميقة وطروحات فكريَّة ورسائل أخلاقيَّة، وهي رواية ممتعة بفصولها الثلاثة (زادتها الترجمة الرائعة لممدوح عدوان إمتاعاً)، وبحكاية الراوي المستقلّة التي تدور في زمن آخر، ولكنها تسير جنباً إلى جنب مع حكاية القبطان. وقد يسأل القارئ نفسه مع المترجم في ختام الرواية: ماذا يعني إذا كان الكاتب يكذب؟ ألم يجمّل حياة هؤلاء الناس؟ ما الذي نخسره مع كذبه؟ ما الذي يكسبه؟ لا شيء. فليكن كذّاباً. وليجمّل هذه الحياة.