قليلةٌ هي العلامات الأدبية الجديدة، التي برزت منذ مطلع الألفية الثالثة. نتحدث عن الأسماء الشابّة التي ما زالت في قمة العطاء، ولديها متّسع زمنيّ لتواصل عملها، لا تلك التي استمرّ بريقها منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وتُوّجت بالجوائز وصار أصحابها عُجّزاً، بل مات بعضهم.الروائي الإسباني كارلوس ثافون (1964) كان إحدى هذه العلامات، قبل أن يضع الموت في حزيران (يونيو) 2020 حدّاً مبكِّراً لتجربته الفريدة، التي مزج فيها بين الروايات الكلاسيكية للقرن التاسع عشر، وروايات التشويق البوليسية، وقصص الحب الخالدة، بالإضافة إلى التأريخ لمدينته برشلونة خلال حقبتَي الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية، مقدِّماً لنا في رباعيته «مقبرة الكتب المنسيّة» ما يمكننا اعتباره ـــ من دون مبالغة ـــــ ملاحم معاصرة.
وفي تجربةٍ مختلفةٍ، آتيةٍ من بيئةٍ أخرى، ومعتمدةٍ على نمطٍ آخرَ من النظر إلى التفاصيل والأحداث والتعامل معها، يبرز اسم الروائي النرويجي كارل أوفه كناوسغارد (1968)، الذي اشتهر عالمياً من خلال سداسيته «كفاحي». الجزء الثالث (جزيرة الصبا) من السداسية صدر أخيراً بالعربية عن «دار التنوير»، بجهدٍ لافتٍ للمترجم السوري النشيط الحارث النبهان.

لا يُحيل عنوان السداسية فقط إلى كتابٍ سابقٍ يحمل العنوان نفسه (سيرة الزعيم النازي أدولف هتلر)، بل كذلك إلى عناوين أجزائها، وطبعاً ليس هذا سهواً، وربّما نستطيع أن نفسّره على أنه نوعٌ من التحدّي الأدبي.
يشيّد كناوسغارد أحداث رواياته الستّ حول يومياته على امتداد سنوات حياته، التي يعرضها بدون تسلسلٍ زمني، وبتفاصيلها الدقيقة، حيث تشكّل هذه الرؤية التفصيلية نهجه في الكتابة، التي تحيلنا إلى الروائي الفرنسي الكبير مارسيل بروست، صاحب سُباعيّة «بحثاً عن الزمن المفقود».
نحن نتكلّم عن نحو 3500 صفحة مكتوبة كقطعةٍ واحدةٍ، من دون تقسيمها إلى أجزاء أو فصول، لكنَّ كل كتابٍ من كتب السداسية يركّز على مرحلة زمنية معينة من حياة الكاتب، وهي تجري مكانيّاً بين بلده النرويج والجارة السويد. وإذا ما تابعنا بلغة الأرقام، يتعيّن علينا أن نُشير إلى إحصائيةٍ لافتةٍ، وهي أن 10% من سكّان بلده النروج، البالغين 5 ملايين، اشتروا روايات سداسيته!
روايات كناوسغارد إذاً توثيقيّة، سِيَرية، لا مكان فيها للتخييل، وفق ما يقول هو نفسه في مقابلةٍ مصوَّرة، مؤكِّداً أنه أخذ هذا المنحى في كتابته بسبب فشله على مدى أربع سنوات في إبداع أيِّ عملٍ تخييليٍّ.
قد يُريب هذا هواة التصنيف، لكن ماذا يهمّنا، حين يكون العمل الذي نقرأه جيداً، إن كان سِيَرياً أو تخييلياً؟ النوعان يتطلّبان شجاعةً وبراعةً، وربّما يكون هذان العاملان مطلوبين أكثر في الأعمال السِّيَرية؛ أن يكون الكاتب جريئاً بما يكفي ليعرض حياته وحياة عائلته على أناسٍ غرباءٍ، وهذا ما أوقع كناوسغارد في مشكلاتٍ تتعلق بحقّه في فِعل ما فَعل، كما أدّى إلى مقاطعة عددٍ من أقربائه له. بل وصل الأمر إلى إقامة دعاوى قضائية تطالب بمنع نشر رواياته ومصادرة النسخ الموزّعة منها، بشكلٍّ خاصٍّ بسبب تصويره سلوك أبيه الصارم معه ومع أخيه، وضربهما ومعاقبتهما بأساليب فظّة، وتعبيره عن مشاعر الكره له وتمنّيه موته وسعادته عندما حدث ذلك. أما من ناحية أخرى، فإنَّ تصوير اليومي والعابر والعادي مما يحصل مع أيٍّ منّا، وتقديمه بطريقةٍ تجذب اهتمام القراء وتحتفظ بهم، فهو أمر يتطلّب قدراً من البراعة لا يقلُّ عن قدر البراعة اللازم للتأليف.
بينما يُسيِّرُنا كناوسغارد في يوميات حياته المنبسطة والمتشابهة، نجد أنفسنا قد وقعنا فجأةً في حُفَر تأمّلاته النفسية والفلسفية، التي تهبط بنا، من خلال تساؤلاتها، إلى أعماق النفس البشرية. تساعدنا على رؤية ما مرّ به وفهم ما يرمي إليه من تشبيهاته الحاذقة والكاشفة. يطرح أمامنا من خلال هذه التساؤلات عُقَداً ومشكلاتٍ تبحث في معنى حياة الإنسان، والصراع الدائم بين عاطفته التي تظلُّ توقعه في المآزق، ورغباته المكبوتة وطموحاته المؤجَّلة بتأثير تلك العاطفة، بخاصة أنَّ الكاتب النرويجي من الأشخاص الذين يغلّبون مصلحة الآخرين من أفراد عائلته وأصدقائه على مصلحته الشخصية، بسبب معاملة أبيه له في صغره، التي جعلته يشعر بالمسؤولية عن أي حادث يحصل معه ولو كان مجرّد شاهدٍ عليه، أو حتى الضحية فيه. وما ضاعف من مأزقه هذا وزاد مسؤوليته أن زوجته (أصبحت الآن زوجته السابقة)، الشاعرة السويدية ليندا بوستروم، عانت من اضطراباتٍ نفسية في شبابها الباكر، أدخلتها إلى المصحّ وجعلتها تحاول الانتحار. وما بقي من هذه المحنة بعد ذلك هو ضعف ثقتها بنفسها، التي جعلتها لا تطيق بعده عنها، وتكثر من الاعتماد عليه في كل شيءٍ، بخاصّة في ما يتعلّق بأطفالهما الأربعة.
يبدأ الجزء الأول من «كفاحي» بمشهدٍ بين الأب وابنه عندما كان عمر هذا الأخير ثماني سنواتٍ. لكنَّ «موت في العائلة» لا تتناول هذه المرحلة العمرية من حياة كارل أوفه. أراد الكاتب بالمشهد المذكور أن يضعنا في صورة هذه العلاقة المرتبكة، التي طبعت حياة الكاتب وشخصيته، وبالتالي أدبه في مرحلةٍ لاحقةٍ. محاولات الولد للتقرّب من أبيه الذي يأخذ مسافة منه تحددها الصرامة الأشبه بالتراتبية العسكرية، مستغلاً لأجل ذلك أي فرصة، فوالده يشكّل له المثال اللاواعي عن الرجل الذي يطمح أن يصيره عندما يكبر، لتنقلب الحال لاحقاً مع هذا الأب تحديداً إلى المثال الذي لا يريد أبداً أن يصيره، خاصّةً عندما يصير أباً.
رواياته توثيقية سِيَرية، لا مكان فيها للتخييل على حدّ تعبيره


يصوّر الكاتب في هذه الرواية فترة شبابه الباكر؛ مغامراته الغرامية الأولى، دراسته الجامعية، بداية تحوّله إلى شاب مستقلّ، وابتعاده عن البيت العائلي. أمر حدث بالتزامن مع (وساهم فيه كذلك) الانفصال الذي وقع بين والديه، وارتباط والده بامرأةٍ أخرى، منصرفاً عن التشديد على العائلة بعدما انكسرت حلقتها.
الموت في العنوان هو موت الأب، بمعناه الفيزيولوجي لا الرمزي الذي حدث قبل ذلك بسنواتٍ عديدةٍ. اللافت في هذا الموت هو شكله وكيفية تهافت الأب عليه، إذ يبدو أنه تعب من نمط حياته المحدَّد والضيّق، وانتقل لعيش حياةٍ متفلّتةٍ من كل ذلك، حياةٍ كحوليةٍ، ساقه إدمانه إياها إلى حتفه المقرف، الذي يصوّره لنا الكاتب بعدما اضطرّ للتعامل معه برفقة شقيقه إنغفه، وكان مسرحه بيت الجدة شبه العاجزة، وعلى مرأى من عينيها، لتتحطم بذلك الصورة التي نحتها الأب لنفسه طيلة حياته، وأطَّر حياة ابنيه بإطارها، قبل أن يحطّمه خارجاً منه.
في الجزء الثاني، يحدث انتقال مكاني. يترك كناوسغارد زوجته في النرويج ويقرر بدء حياةٍ جديدةٍ في العاصمة السويدية استوكهولم. كان على معرفةٍ بليندا بوستروم من خلال لقاءات أدبية، وكانت بشكلٍ لا واعٍ وبلا أيِّ ضماناتٍ أو وعود، بل من دون أن تكون قد بادلته الإعجاب حتى، وراء قراره بالانتقال.
نجدهما في بداية «رجل عاشق» (صادرة بالعربية في كتابين) وقد كوّنا عائلة كبيرة: أربعة أولادٍ بأعمار متقاربة، يُضاف إليهم بالنسبة إلى الزوج الكاتب، الذي حقّقت روايته السابقة نجاحاً أكبر من المتوقّع، طفلةٌ خامسة هي ليندا نفسها، ذات الظروف الخاصة كما أسلفنا، إذ تنفجر في موجات غضبٍ غير منطقية، تحرّض في مقابلها ثورته هو، التي سرعان ما تمهّد ليسرع بعدها إلى مراضاتها وتهدئتها، متذكِّراً ظروفها الاستثنائية وحاجتها إليه.
المطلب الرئيس لكناوسغارد خلال تلك الفترة كان أن يعمل. أن يجد الهدوء والوقت للقراءة وكتابة الجزء الثاني من السداسية، بخاصة أن ليندا كان تتابع دراستها الجامعية مساءً، وبالتالي كان خلال نصف يومٍ مسؤولاً عن تأمين احتياجات الأطفال كافةً: تبديل الحفاضات، إعداد زجاجات الحليب وإعطاؤها لهم، تغسيلهم وتنظيفهم، الطبخ والجلي وغسل الملابس، تهدئة انفجارات بكائهم ومعرفة أسبابها...
انحلّت هذه المشكلة جزئياً باستئجار مكتبٍ يقضي فيه نهاره، بعد أن يستيقظ قبل الفجر، ولا يُعيده منه إلى البيت قبل حلول موعد «مناوبته» مع أولاده إلا اتّصالٌ طارئٌ.
على عكس الجزءين الأولين، اللذين يُحيلان إلى عنوانَي روايتين مشابهتين تماماً لعنوانهما، (رواية الأميركي جيمس آجي، ورواية الألماني مارتن فالزر، على التوالي)، فإنَّ «جزيرة الصبا» الصادرة أخيراً عن «دار التنوير»، كما الجزءين الأولين، تحرّف عنوان رواية الكاتب الروسي أندريه بلاتونوف «بحر الصبا».
ما يحدِّد صِبا كناوسغارد، جاعلاً إياه جزيرةً ضمن بحر الصِّبا المتلألئ واللامتناهي، هو أبوه بطريقة تربيته التي أشرنا إليها سابقاً. هي روايةٌ تحكي عن فترةٍ تأسيسيةٍ إذاً، في حياة كارل أوفه وبالتالي في أدبه أيضاً، تنغرس فيها جذور سلوكه وبذور طِباعه.
ما يميّز هذه الرواية هو غزارة ذكريات طفولة هذا الصبي وكثرتها، إلى درجة أننا نجد أنفسنا نتساءل أمامها: من أين يأتي هذا الشخص بكل هذه الذكريات؟ هل عاش أكثر منا من المغامرات رغم رقابة والده وقدرته على تشمُّم رائحة الخوف لدى ابنه عند اقترافه أحد الممنوعات الكثيرة؟ أم أنَّ ذاكرته أقوى من ذاكرتنا إلى حدِّ أنه لم تفلت منها حتى أبسط الروائح والأصوات والمذاقات؟ وأخيراً يشتغل الشكّ: هل خرج كارل أوفه عن سيرته وانطلق في التخييل؟
يطالعنا عبر صفحات هذه الرواية ولدٌ حسّاسٌ، سريع التأثّر والبكاء، لم يكبر مع الشابِّ الذي صار كاتباً، بل بقي في داخله، يخرج ليجلس في حضنه عندما يشرع الأخير في الكتابة. وهو ولدٌ اضطرَّ لتأليف القصص منذ الصغر، فهو يرسم السيناريوهات ويخطط لكذباته بإتقان قبل أن يكذبها أمام والده، ليلتفَّ بها على الممنوعات الكثيرة.
مشكلةٌ أخرى طبعت طفولته، هي نقص العاطفة. فأمُّه، وإن لم تكن قاسيةً كأبيه وإن كانت تستمع له وتناقشه وتلبّي طلباته، فإنها مع ذلك لم تحِطه بالعاطفة التي يحتاج إليها كطفلٍ، والتي يمكن أن تعوّض بها قسوة والده: «كانت جدتي الشخص الوحيد الذي يلمسني ويلمس إنغفه. كانت الشخص الوحيد الذي يعانقنا ويربّت على أذرعنا. كانت أيضاً الشخص الوحيد الذي يلعب معنا» يعبّر عن ذلك.
تبقى معاملة أبيه له ولأخيه سمة طفولته وحياته الأبرز: «كنت أخافه خوفاً شديداً لا أستطيع الآن إعادة تجسيده كله مهما بذلت من جهد» يقول. ويؤكد أن رعبه من أبيه كان نفسياً لا جسدياً، بتحديده أنَّه لم يكن يخشى الألم الناتج عن ضرب أبيه، بل مظهره الغاضب بكل تفاصيل وجهه وحركاته. «كنت أتمنى الموت بعد تلك المواجهات» يوضح.
وفي انتظار أن يكبر ليحقق انتقامه، يتّخذ من نفسه وسيلة للانتقام من أبيه وممّن حوله ومن العالم أجمع، كما هي حال الضعفاء الذين لا يملكون سوى أجسادهم، حيث تتمثّل وسيلته في الانتقام في تخيُّل جسده الصغير ممدّداً في التابوت، فيما الندم ينهش والده على سوء معاملته له.