يصعب اختزال شخصية جوديث بتلر (1956) بمرآة واحدة. اعتنت هذه المفكرة الأميركية بقضايا جدلية متنوعة. عدا الجنسانية، خاضت في مسألة اللاعنف، والمثلية الجنسية، وخطاب الكراهية، وسياسة الأداء، وحقوق الفلسطينيين. في منطقة ما من اشتغالاتها الساخنة، تعيد صوغ أفكار فلاسفة ومفكرين في تأصيل ثقافة نقدية قابلة للعيش اليوم. هذا ما نجده في كتابها «الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع» الذي نقلته «دار نينوى» أخيراً إلى لغة الضاد (ترجمة نور حريري). في أبواب الكتاب، تضعنا صاحبة «الذات تصف نفسها» في مهبّ أسئلة جديدة، بالاتكاء على أفكار هيغل وفرويد ونيتشه، وفوكو، وألتوسير... هؤلاء الذين ناقشوا مسألة الإخضاع بعمق، تلك العملية التي يصبح فيها المرء تابعاً بفضل السلطة، بالإضافة إلى العملية التي يصبح فيها ذاتاً، وكيف ترضخ الذات للسلطة على مراحل متتالية من الإخضاع، سواء عن طريق اللغة (الصوت الآمر واستجابة الفرد)، وفقاً لألتوسير في «الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الإيديولوجية»، أو «الوعي الشقي» لدى هيغل عن علاقة السيد بالعبد وكيفية توبيخ الذات، فيما أعاد فوكو صوغ الإخضاع بوصفه ضغطاً على الذات ومحاولة تشكيلها المتمثل في التبعية والارتباط العاطفي بالسلطة.

هكذا تظهر فكرة السلطة المنهمكة في الإخضاع بنمطين زمنيين قابلين للقياس: الأول بوصفه سابقاً على الذات وخارجها بصورة دائمة وفعّالة من البداية، والثاني، نتيجة مقصودة للذات. سنرتطم تدريجاً بأكثر من نظرية للإخضاع، بدءاً من الإخضاع الجسدي، مروراً بـ «دوائر الضمير المثقل بالذنب»، و«الإخضاع، المقاومة، والتدليل» بين فرويد وفوكو، وكيف يصيّرنا الضمير ذواتاً، وصولاً إلى الميلانخوليا. في هذه السياقات المعقّدة، تتأرجح الذات تاريخياً بين عمليتي الترويض والتأديب بسطوة خطاب متسلّط ينتج ذاتاً تابعة، وأخرى منفية خاضعة للمساءلة على الدوام، في مواجهة صريحة بين الذاكرة والعقاب. فالمرء، وفقاً لفوكو، لا يؤسس شخصية مستقلة إلا بخضوعه للسلطة، بخضوع ينطوي على تبعية جذرية. مقاربات متباينة تضعها جوديث بتلر في جديلةٍ واحدة، ليس في ما يخصّ نظريات الإخضاع فحسب، وإنما في تاريخانية الحب والفقد والرغبة، ومحظورات الجنسانية المغايرة، بالتقاط «مفاصل عسيرة في علاقة الذات مع بيئتها المعيارية والتاريخية»، كأنها تستكمل طفولتها البعيدة، حين اكتشفت سبينوزا وكانط ونيتشه وآخرين، في قبو المنزل. وها هي تستكمل إرث هؤلاء بأسئلة جديدة عن الهوية وعلاقتها بالذات، وعن الجسد، و«كيف يمكن أن نعيش حياةً حقيقية ضمن حياة زائفة؟»، باستبصارات مبتكرة، أسئلة تمدّ جذورها نحو معنى «الحياة الهشّة»، بعناوين غزيرة مثل «مواضيع الرغبة»، و«صور الحرب: متى تكون الحياة قابلة للأسى» و«حياة قلقة- مستباحة: قوى العنف والعزاء». تختزل جوديث بتلر أطروحتها قائلة: «يبدو لي أن مهمة كل الحركات الحقوقية أن تميّز بين المعايير والعهود التي تتيح للناس أن تتنفس وترغب وتحب وتعيش، وتلك التي تقيّد أو تسلب شروط الحياة نفسها».