«نفسي مزدحمة/ كثيرون خلّفوا فيها أعماراً منقضية/ وأفكاراً انتهى أوانها/ تجارب، لم تكتمل في منتصفها/ نفسي مزدحمة/ منذ أغلقت المعابر/ منذ توقَّفت الساعات/منذ بقيت سنون تحدث دون انقطاع/ وبدون أن تقبل المزيد/نفسي مزدحمة/ الهاربون إليها قطعوا أعماراً بأكملها/ قطعوا سنين لم يعيشوها/ ولا يزال الوقت ساخناً فيها/ تركوا حياة ما عادوا يتعاطونها إلّا بالكاد/ وطاقة ليست للاستهلاك/ وبالطبع كان الوقت يحدث في الخَلف/ والمواليد يسقطون من الذكريات» إنه شِعر «الوقت الذي يحدث في الخلف» ما يطالعنا به الشاعر اللبناني عباس بيضون في مجموعته الشعرية الجديدة «الحياة تحت الصفر» (دار نوفل/ هاشيت أنطوان ٢٠٢١) في عشرين نصّاً تبدأ بـ «منفيٌ إلى غرفتي» وتنتهي بـ «العاصفة»: خروج الشعر من الوقت ليحدث في الخلف، يذكّر بجملة شهيرة لأحد أشهر سائقي السيارات بداية القرن العشرين، ستيرلينغ موس: «ثمة نقطة حاسمة لا يمكن للمرء أن يتخطّاها دون أن يجازف المرء بحياته، وبالمقابل لا يكون السباق حيوياً فعلاً إلا إذا تخطّيناها».

في «الحياة تحت الصفر»، يبدو عباس بيضون وقد تخطّى هذه النقطة التي في هذا السياق هي خارج الطريق، وبالاشتقاق الفيزيائي خارج السرعة وخارج الوقت. إنها بالضبط حياة تحت الصفر، كثّفتها العزلة وحجر «الكورونا» لتصير قابلة لأن تتجمَّد، كما لو حُبِست في مرآة لا قرارَ لها  للصور الاستعادية التي تستفزّها وتحبسها من الشارع والمقهى وصوت الحياة ليضع الشاعر أعيننا عليها عند نقطة «الصفر» على طريقة رولان بارت، عند شيء أشبه بنيغاتيف الصورة في الكتاب الآخر لبارت «الغرفة الواضحة»، صفر يعكس مجيء العبث، والتنصل من الغائية، أو الفراغ: يصبح الغياب من الوقت الهدف المباشر للكتابة. فكما البعد الانبعاثي للفوتوغرافيا يجعلها محفزاً لتصبحَ مجازاً للسيرة عند بارت، يبدو النص والحياة في «الحياة تحت الصفر» لعباس بيضون في علاقة متوازية عكسية، أحدهما نيغاتيف للآخر: «فقط سقط الصفر علينا/ نحن فقط ما يمكن جمعه من أمسيات العزلة/ وما يمكن أن يكون بقي على المائدة/ ما أهملته الذاكرة/ وما يكون قد عرّاه النسيان/ قد يكون أيضاً نصباً من دقائق/ أو مجرّد وقت مركوم/ من أعمار متباينة تسوّلت الحياة/ وحصلت منها على وقت إضافي/ وربّما على وحل طري وعناوين».
لكنه صفر ضروري، لأنه أحياناً، في غمرة كل ما يتنفّس أو ما يُعبّر عنه من الأشياء، في تضاعيف الاكتمال المغمور بالضوء الناصع، يحدث أن تلمع برقة للهشاشة والفراغ، شيء لا محيص عنه وأساسي يتمخّض، يصنع شكله بنفسه، في الكلام أو الصمت، ويصبح مثل وحي مرافِق للشاعر ووجوده وبدونه لا تصبح الحياة حقيقة: هذا «البرق» نلمحه مباشرة في النص حابسين أنفاسنا، ولو كان على هيئة الصفر: «كان ذلك الصفر كروياً/ ولم ينطفىء إلا بعد جهود/ أحضرناه من الحديقة حيث كان يضيء/ بالطبع كنا فخورين لأننا أوجدناه/ لكن لم نعرف متى يكون سيّداً/ ومتى يستولي على الظهر/ لم نعرف أن جائزتنا كانت هناك/ وصلت إلى رأس النصب/ حيث صعدنا أيضاً/ ولم يتكرّر الأمر/ كان ثمّة حقيقة وحيدة ولم نبالِ/ حقيقة مكوّرة لم يجازف أحد/برفعها عن الأرض/ لقد عاد هذا الصفر إلى الوجود/ وكان بالطبع هائلاً حين قابل الشمس/ وحين جثم فوق الحديقة/ كان هائلاً أيضاً/ حين أخلى الضوء/ وأخلى الوقت».
إنه شِعر «الوقت الذي يحدث في الخلف»


يوجّه عباس بيضون نصّ «النحّات» إلى آدم حنين، في مينيمالية أقرب إلى جماليات جياكوميتي، وكأن بيضون يصف كلماته برفق لئلّا تنكسر التماثيل: «انتظرت عبثاً أن أوجد مع التماثيل القصيرة/ التي صفّها فوق نافذته/ سيكون صعباً أن تُدفن معه/ في ضريحه الصغير/ إذ ستعود إلى حجمها الحقيقي/ لمجرّد أن تلامس الأرض»: اللغة هنا لا تبدو مزينة بعنف انفجارها، ولا تلامس الكلمة الاهتزاز الميكانيكي للكلمة التالية التي تنقرض على الفور، كأنها كلمات تستثني الأشخاص، وترافقهم إلى غيابهم: «كيف نقلت حياتي إلى باريس/ وأودعتها في مصحّ/ كثيرون حملوا أيامي/ ونقلوها كالأكاذيب/ من منزل إلى آخَر/ وحده النحّات الصغير/ رحل بدون أن يصنع تمثالاً لي». وهذه اللغة بدأنا نألفها عند عباس في مجموعاته الأخيرة سواء في «ميتافيزيق الثعلب» أو «الحداد لا يحمل تاجاً»، لغة الخسارات المروَّضة مثل ثعلب سانت اكزوبيري في «الأمير الصغير» التي تتخذ القلب صديقاً، لغة الأقدار الصغيرة: «أقلّب وجهي على الوسادة/ أترك جسدي عائماً فوق سريري/ لقد افترقنا كصديقين/ لكن لا أريده لهذه الليلة/ ولن أتزوّجه لعام إضافي/ فمن ثقب في الفضاء/ تنقط فوق البلاط/ رغبات مطرودة/ مشاعر جرى تعقيمها/ تنزّ أيضاً نفوسٌ صغيرة/ منظّفة/ وجائعة كالبكتيريا».
في الأسطورة الإغريقية، كان نزول أورفيوس إلى الجحيم لاستنقاذ يوريديس، يستوجب عدم الاستادرة إلى الوراء والتخلّي عن اللغة البشرية، أي لغة عند الدرجة الصفر: أعطى أورفيوس لنفسه استثناء القيثارة، فمن اضمحلال اللغة البشرية وتجاوزها وتكسّرها، يُخلق اللحن الذي ما هو إلا الشعر، الاستثناء والقربان والقيثارة. هكذا تماماً يعطي عباس بيضون هو الآخر لنفسه استثناء في قلب «الحياة تحت الصفر» في لغة الشعر التي لا يتخلّى الشاعر عنها في قلب «مصفوفة الفراغ» بتعبير بارت، وإنما تصنع انتصاراته الصغيرة رغم محاولاته التنصل منها: «هذه القصيدة التي لا أطمع/ في أن تسمّيني شاعراً/ هي فقط معركتي/ وسأكون وحيداً معها في الحُجرة/ وربما تكون وداعاً للشعر/ أو مجرّد يأس منه… آخذ أدويتي الكثيرة/ لأنتصر على قلبي/وأعود إلى سريري/ الذي أعانيه/ بدون أن أستطيع/ اقتلاع نفسي منه/ وحدي مع كتاب/ وحدي على الشرفة/ وحدي مع ألم القريب/ وهذه كلّها/ انتصاراتي الصغيرة على نفسي». وكما يستدير أورفيوس في لحظة ما إلى يوريديس، لتكون لحظة الخسارة هي لحظة المشاركة أو لحظة الشعر، يلتفت عباس بيضون عبر لغة الشعر نفسها إلى الكائنات من حوله، كالحمامة التي يُناجيها في أحد نصوص المجموعة: «ألمكِ ينتقل إليّ/ إنها أيضاً عدوى/ إذ نرتعد من هذه الحمامة/ التي لم تحمل رسالة من أحد/ رميتَ قفَّازيك في وجهها/ وتحاربها بمظلّتك/ وربما بثياب النوم السميكة/ أو أحذية الصقيع/ لم يكن هناك شيء آخر/ لنقف في ظلّه/ ولا موسم ثانٍ للجليد/ لنبيعه/ إنك فقط أمام الفلاة/ التي لا تصلح للزيارة/ ولم تقدّم عبثاً صفحتها الملساء/ ليزيلوا عنها/ مرّة بعد مرَّة/ ما تركه الزمن والخيول وآثار الأقدام».