ليست قصص كارلوس رويث ثافون (1964-2020) غريبةً عن أجواء رباعيّته الرائعة «مقبرة الكتب المنسيّة». تشكّل القصص الإحدى عشرة التي تحتويها «مدينة من بخار»، الصادرة بترجمتها العربية عن «منشورات الجمل» (تعريب معاوية عبد المجيد)، امتداداً لمزيج الظلم والقهر والقمع والمطاردة من جهةٍ، والرغبة في الحب والحياة من جهةٍ أخرى. قضايا تطالعنا منذ «ظل الريح» حتى «متاهة الأرواح».

قصص الكاتب الإسباني ظلالٌ للظلال التي تخيّم على مدينة الرماد واللعنات والأرواح المعلّقة بين حياةٍ مرصودةٍ بعينَي الحرب وأعين المُخبرين، وموتٍ مؤجّل. بمعنى أن المشاعر والحوادث وبالتالي المغزى الذي أراد ثافون إيصاله إلينا من خلالها، كلّ ذلك يصلنا مكثّفاً مركّزاً أكثر مما يحدث في رواياته الماراثونيّة الشيّقة.
لكن لا يخفى على القارئ المعتاد على قراءة النوعين الأدبيين، الرواية والقصة، أنَّ هذه القصص مكتوبةٌ بقلمِ روائيٍّ بالفطرة، والمقصود أنَّ زمن القصِّ ليس حَدَثيّاً لحظيّاً أو محدود الزمن، بل هو ممتدٌّ مفتوحٌ ومتتابعُ الأحداث. هي في ذلك تشبه قصص الكاتب الأميركي الكبير ويليام فوكنر، الذي كان يفتتح ببعض قصصه المنشورة سابقاً رواياته الطويلة التي يكتبها بعد ذلك. أما في حالة ثافون، الذي انتقل من كتابة الروايات الموجّهة للناشئين إلى روايات البالغين، فيمكننا اعتبارها مقاطع محذوفة من صفحات رباعيته، كما في قصّتَي «وردة النار» و«بلانكا والوداع» على سبيل المثال، حيث يقدّم الأولى على أنها «من المقتطفات الضائعة من سجين السماء»، بينما يشير إلى الثانية إلى أنها أحداثٌ من طفولة دافيد مارتين، الكاتب والشخصية الرئيسية في جزءَي الرباعية الثاني والثالث.
لا يخفّف من زخم القصص وروعتها عند ثافون أنَّ عناصرها الأساسية، من مكان وشخصيات وزمان، مكرّرة، ومتحركة ضمن هوامش قليلة من التغيير الأشبه بتبادل الأهمية في الأدوار.
المكان دائماً هو مدينة برشلونة بشوارعها الضبابية، وكاتدرائيّاتها الأيقونيّة، وقصورها المسحورة الغامضة التي صمّمها معماريون دهاة، حتى لو خرج السرد إلى مدينة أخرى غير مدريد، عاصمة الـ«رجال باللون الرمادي»، كما حصل عندما حلَّ المعلم الفذّ «غاودي في مانهاتن» لتنفيذ مشروع معماري ضخم، فإنه يرافق الشخصية مضطرّاً، ليعود معها سريعاً.
شخصيات ثافون هي ذاتها، لا كنماذج فحسب بل كأسماء عائلات تتوارث مهنها وطباع أفرادها: الكاتب المتشرّد المعوز جريح القلب بحبٍّ مستحيلٍ لأنثى ليست أقل من منحوتةٍ حيّة، وهو في قصة «أمير بارناسوس» ميغيل دي سيربانتس نفسه، الذي يستغلّه الناشر الجشع كوريلّي ويطارده لإكمال ما بدأ بكتابته. المكتبيّ الطيب سيمبيري المتعاطف مع الكتّاب، الذي يحتفظ دائماً بنسخةٍ أخيرةٍ من كتبهم الممنوعة في «مقبرة الكتب المنسيّة»، وهو يضع في القصة السابقة أحد سيناريوهات تأسيسها، بحيث يشكّل فيها ضريح ثربانتس، غير مؤكَّدِ الموقع في الواقع، الحجر الأساس... بالإضافة إلى القرّاء النّهمين وفي طليعتهم فيرمين راميرو دي تورّيس، المتعطّش دوماً إلى ملذّات الحياة، والأنثى الضعيفة، الوحيدة أو المعرّضة للاستغلال ممن بقي معها من أفراد عائلتها، والتي يقدّمها كصورةٍ نموذجيةٍ لـ«فتاة من برشلونة».
يرى الموت شيئاً مساعِداً، عطوفاً، مضيافاً ومحقِّقاً للأمنيات


الزمان الصاخب والغني بالأحداث معلّقٌ أيضاً؛ إنها سنوات الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية التي تلتها مباشرةً، من دون أن تترك للمدينة المدمّرة وسكانها المنكوبين فرصةً لالتقاط الأنفاس، ما جعل الأولاد المتروكين الذين ولدوا في تلك الفترة، والفتيان اليتامى الذين شبّوا، أبناءً أوفياء للحياة خلال الحرب بكلٍّ قسوتها التي أرضعتهم إياها. فصبي محلّ الرهونات يدع «أليثيا عند الفجر» متجمّدةً مزرقّة، ليسلب الفتاة الفقيرة الجوهرة الثمينة التي رفض صاحب المحل إعطاءها أكثر من عُشر ثمنها الحقيقي، وطلب من صبيّه أن يتبعها ليعرف عنوان سكنها، فظنّته الفتاة متشرّداً مثلها وآوته في القصر المهجور الذي تأوي إليه، قبل أن يعود إلى طفولته ويُعيد إليها ما لم تعد بحاجةٍ إليه. أما أمُّ فيرمين، شخصية ثافون الحكيمة الشهيرة، فتبقى «بلا اسم» بالنسبة إليه لأنَّ من انتشلوا الفتاة القاصر والحبلى من الثلوج التي انهارت فوقها عند باب بيتهم، وساعدوها على الوضع فوق طاولة المطبخ، نزعوا وليدها من بين ذراعيها بينما هي تحتضر من دون أن يسمحوا لها بإلقاء نظرة عليه، قبل أن يلقوها في إحدى قنوات المجاري التي حملتها إلى البحر لتصير طعاماً للأسماك، فربّما تكون هذه العائلة قد فقدت بدورها طفلاً أو أكثر.
يحافظ ثافون على زخم قصصه من خلال اعتماده تقنية القصة داخل القصة، وبها يُمدِّد الزمن ويتنقّل بين الأماكن، خاصة في «أمير بارناسوس»، أطول قصص المجموعة. كما يوظّف الأساطير في المناخات البرشلونية التي نُسجت منها، ليس فقط في «أسطورة من أجواء الميلاد» بل كذلك في «وردة النار»، التي حملت بذور اللعنة إلى المدينة المتوسطيّة.
يجدد صاحب «لعبة الملاك» التأكيد على أهمية الخيال كطريقة حياة. فإن كان الاستغراق به في الحالة الطبيعية إلى درجة اختلاط حدوده مع الواقع، يُعَدُّ مرضاً نفسياً بالنسبة إلى ذوي الظروف الطبيعية، فهو شفاء بالنسبة إلى من ليسوا كذلك، كالمعتقل السياسي الذي يقع في الحب ويمارسه، ويعرف وحده أنه لم يفعل ذلك مع «امرأة من بخار» كما يدّعي الجميع.
تتمايز «القيامة في دقيقتين» عن بقيّة قصص المجموعة. نشعر أنّها الأحدث في زمن كتابتها، وهي الأقصر، إذ تتألف من صفحتين فقط. موضوعها هو الموت الذي يأتي فجأة ومن دون مقدّمات، كما فعل مع ثافون الذي رحل عن عالمنا في شهر حزيران (يونيو) من العام الماضي وهو في قمّة عطائه. يحبّ ثافون أن يرى الموت شيئاً مساعِداً، عطوفاً، مضيافاً ومحقِّقاً للأمنيات، هو الذي أمهله أشهراً خلال إصابته بالسرطان لينتهي من تجميع قصصه في هذه المجموعة، ويضع لمساته السحرية الأخيرة عليها.