هناك عدد من العلامات في مقطعية جبيل، التي اكتشفت في نهاية عشرينيات القرن العشرين، متفق عموماً على أصلها التصويري، وعلى القيمة الصوتية لصوامتها لأن قيمتها الصوتية معروفة من قبل في الأبجديات السامية، بدءاً من الأبجدية السينائية. وكمثال على ذلك، خذ هذه العلامات الأربع: الباء، العين، الميم، النون.

ونحن بالطبع لا نعرف الحركة التي تصحب هذه العلامات. فالباء قد تكون: بَ، أو بِ، أو بُ، إلخ. فهذه كتابة مقطعية تمثل العلامة فيها صامتاً وصائتاً معاً. وقد اكتشفت القيم الصوتية لهذه العلامات في الأبجدية انطلاقاً عن طريق المبدأ الأكروفوني. تبعاً لهذا المبدأ، إذا أردت أن توجد علامة لصوت ما، عليك أن تأخذ شيئاً ملموساً يبدأ بهذا الصوت، ثم أن ترسم صورة هذا الشيء لتصير رسمته تمثيلاً لهذا الصوت، أي تصير حرفاً. وعندما جرى في الماضي وضع علامة للصوت «ب»، أخذ البيت الذي يبدأ اسمه بصوت الباء، ثم رسمت صورة البيت، فصارت هذه الصورة حرف الباء.
وفي هذه المادة أنوي أن أقدم اقتراحات محددة بشأن الأصل التصويري لعدد من علامات مقطعية جبيل. فالوصول إلى الأصل التصويري لعلامة ما، يعني في النهاية معرفة قيمتها الصوتية. وهو ما يفتح الباب لفك ألغاز مقطعية جبيل التي ظلت من دون حلّ منذ 90 عاماً.

العلامة الأولى

ويمكن العثور على نماذج لهذا العلامة في اللوحين البرونزيين «سي» و«دي». وأنا أقترح أن الأصل التصويري لهذه العلامة هو الذبابة. بالتالي فصامتها يمثل الذال. وقد وردت هذه الذال في كلمة قصيرة، مكررة مرتين، في السطر الخامس من اللوح (دي).

الصورة أعلاه تمثل جملة تقع بين السطرين الرابع والخامس، وتقول حسب قراءتي: لـ. مدف. دذ. لـ. عتد. دذ.
أما مع الحركات كما أفترضها، فالجملة تقول: «لمداف [أو مديف] داذي. لعتيد داذي».
بذا فالجملة تحوي طلبيات لشخصين هما مداف وعتيد. وهما يطلبان الداذي. لكن لأن الحركات وأحرف العلة لا تظهر في الكتابة، فقد كتبت الكلمة «دذ». والداذي يدعى بالإنكليزية St. John's wort . أما اسمه العلمي فهو: Hypericum triquetrifolium

وهو نبتة طبية شهيرة جداً ما زالت مستعملة حتى اليوم: «الداذي يشبه شجرة الدفلى، وهي قضبان مستوية تعلو خمس أذرع إلا أن أصله واحد. ومن أسفل الغصن إلى أعلاه أوراق متحاذية على السواء وقد اكتنفت جانبي الغصن، كل ورقة بمقدار الأنملة، فإذا كانت أيام الربيع وقع من أعلى كل ورقة نور أحمر، وهو حسن المنظر جداً. وقيل: الداذي يشبه ورقه ورق الصبر، وله طلع كطلع النخل، ورائحته لا يقدر أحد أن يشمه من حدتها وذكائها، وترعف على المكان شدة حرارتها، ولكن يوضع في البيت فتعبق رائحته من جميع البيت ويعبق ما فيه من الثياب» (الحميري، الروض المعطار). ويوضع حب الداذي في النبيذ لزيادة قوته وإسكاره. بذ فمن المحتمل أن طلبات الداذي لها علاقة بالنبيذ، أو بالاستشفاء.

العلامة الثانية

ومن الواضح أنها تمثل طائراً. لكن تحديد نوع الطائر هو الذي يوصلنا إلى معرفة قيمتها الصوتية. ويبدو لي أن العلامة تمثيل لنسر. فرأس العلامة يوحي بمنقار معقوف. ومن المحتمل أنه نسر يشبه النسر الذي يدعى: الرخمة المصرية. واقتراحي أن هذا النسر هو الذي يدعى في العربية: الضريك: «والضريك: النسر الذكر» (لسان العرب). بذا أفترض أن هذه العلامة تمثل صوت الضاد لأنها أول صوت في اسم هذا النسر. وهذه العلامة موجودة ضمن جملة في السطر 13 من اللوح البرونزي دي.

وكنت سابقاً قد قدمت قراءة لهذه الجملة كالتالي:
«لـ . مطعم . ضريك»
أي: «لمطعم [ال] ضريك».
عليه، فهناك شخص يدعى «مطعم الضريك» يطلب شيئاً. وهذا الشيء يفترض أن يسمّى في السطر التالي. لكن من الواضح أن أل التعريف في الاسم (الضريك) لم تكتب. وهذا راجع في ما يبدو أن أل التعريف مع الحروف الشمسية تتحول إلى تشديد للحرف الذي يليها. ونحن نكتبها الآن رغم أننا لا ننطقها.
ولدينا في المصادر عن الجاهلية شخص شهير يحمل الاسم: «غيث الضريك». وهو قتادة بن مسلم الحنفي. وقد ضرب فيه المثل، فقيل: أقرى من غيث الضريك. والإقراء هو: الإطعام. كما أن الغيث هو الإطعام. بالتالي، فلقب قتادة يعني عملياً «مطعم الضريك». أي مطعم نسر الضريك. وهذا هو الاسم ذاته في مقطعية جبيل.
ويمكن فهم هذا اللقب بتذكر أنّ هناك شخصية أخرى في الجاهلية تدعى «مطعم الكبش الرخم». وهو منصور بن سلمة الزبرقان. وكان قد أقرى ضيوفاً وأطعمهم، ثم التفت فوجد طيوراً رخمة تحوم في المكان، فذبح لها كبشاً وأطعمها، فلقب بهذا اللقب: مطعم الكبش الرخم. لقد أطعم نسور الرخمة. والرخمة هي نسر الضريك بناء على اقتراحي. بذا فهو «مطعم الضريك» أيضاً.
وهذه الأسماء تشبه لقب عبد المطلب جد الرسول: «مطعم الطير». وقد لقب بذلك لأنه فدى ابنه عبد الله بجمال ووضع لحمها على رؤوس الجبال، كي تأكل منها الطير. وكل المؤشرات تشير إلى أن هذا لقب ديني. ذلك أن هناك صنماً كان منصوباً على المروة يدعى «مطعم الطير». ويبدو أن عبد المطلب كان كاهنه.
على أي حال، فالعلامة الثامنة في الجملة علامة تخصيص تشير إلى أسماء الآلهة حتى لو كان بشرياً هو من يحملها.

وهي علامة لا صوت لها. بذا فالنص يحدثنا عن إله يدعى «مطعم الضريك».

العلامة الثالثة

وفي العادة يقدر أن هذا العلامة تمثل صوت حرف العين لأنها تشبه حرف العين في الأبجديات السامية، ومنها أبجديات شمال الجزيرة العربية. لكن العين موجودة في الجملة ذاتها. وهي تقريباً عين بشرية واقعية.


بذا من المستبعد أن تمثل العلامة التي نتحدث عنها صوت «ع». أما أنا، فقد قرأتها على أنها «راء» في الجملة أعلاه. واعتقادي أنها تمثل تصويراً لحدقة العين لا العين ذاتها، وأن الاسم الأقدم لحدقة العين في العربية هو الـ «رأراء». لذا يسمى ارتجاف حركة الحدقة، أو المرض الذي يسمى الحدقة الراقصة، باسم الرأرأة: «رأرأ الرجل: حرّك الحدقة أو قلبها وحدّد النظر» (الزبيدي، تاج العروس). يضيف لسان العرب: الرأراء «تحريك الحدقة وتحديد النظر».

العلامة الرابعة

وأنا أعتقد أن الأصل التصويري لهذه العلامة هو الخيمة. والشبه بينها وبين الخيمة واضح في ما يبدو لي. لذا فهي تمثل صوت الخاء. وقد وردت في اللوح البرونزي «دي» كلمة تبدأ بهذا الحرف- المقطع بين السطرين 15- 16.

وقد قرأتُ الكلمة هكذا «خينة». والكلمة اسم علم لأن العلامة المخصصة التي تشير لأسماء الآلهة تتبعها. وهذا الاسم يذكر بالملك الهكسوسي الشهير «خيان»، ولعله «خين». ولعل اسمه أخذ من اسم الإله.

* العلامة الخامسة

وتقديري أن الأصل الصوري لهذه العلامة هو رأس المكحلة، أي سدادتها: «أَبو عمرو: اليُؤْيُؤُ: رأْسُ الـمُكْحُلة» (لسان العرب). وما زالت رؤوس بعض المكاحل تأخذ هذا الشكل حتى الآن. وقد وردت هذا العلامة في السطر الأخير من اللوح البرونزي «دي».

وهذا السطر يتكون من أربع علامات: ب، ي، م، ر. والعلامات تشكل كلمة واحدة تسبقها الباء. وقد قرأتُ الكلمة هكذا: بـ يمر.
ومن الواضح أن الحديث يجري عن توقيت كتابة النص. وعادة ما تنتهي النصوص القديمة بالتوقيت. ويبدو لي أن الأمر يتعلق بالشهر الذي كتبه فيه النص، وهو يدعى «يمر». يؤيد هذا أن لدينا شهراً في النصوص الصفائية في الصحاري العربية يدعى «يامر، يأمر». ومن المحتمل أن النص يتحدث عن هذا الشهر بالذات.

* شاعر فلسطيني