يمكن اعتبار العلّامة السوري محمد كرد علي (1876 ــ 1953) أحد المفكّرين القلائل ممّن روّجوا في بداية العصر الماضي إلى نوع من العلمانيّة الإسلامية المعاصرة، بشكلٍ عضوي ومركّز كما يقول الباحث الفلسطيني سليم تماري. انخرط في هذا المشروع مع المجموعة الطليعيّة المتنوّرة التي جمعته بها مجلة «المقتبس» (1908 ــ 1914) الصّادرة في دمشق في مطالع القرن العشرين. مجموعة ضمّت إليه رفيق العظم من سوريا، أحمد زكي باشا من مصر، جرجي زيدان، وشكيب أرسلان، وعيسى اسكندر المعلوف وأحمد رضا من لبنان، ومحمد رضا الشبيبي من العراق وغيرهم.

ولدَ محمد كرد في السليمانية في شمالي العراق لأب كردي وأم شركسيّة، وتعلّم في الكتّاب القراءة والكتابة والقرآن، وأتمّ تعليمه الثانوي في «مدرسة الراهبات العازريات» في دمشق، حيث أتقن اللّغتين الفرنسيّة والتركية، إلى جانب العربيّة. وكان لا بد لمن سيصبح أول وزير للمعارف والتربية في سوريا، ورئيساً لمجمع اللغة العربية في دمشق أن ينهل من خزانة التراث العربي الغنيّة، فتتلمذ على يد الشيخ سليم البخاري، والشيخ محمد مبارك، والعلّامة طاهر الجزائري، فقرأ كتب الأدب واللغة والبلاغة والفقه وعلم الاجتماع والتفسير وعلم الرجال والأسانيد والفلسفة.
استهوت الصحافة محمد كرد علي باكراً، ليُعهد إليه تحرير جريدة «الشام» الأسبوعية عام 1897. لكنّ القاهرة شغفته لاحقاً، وكانت تجربة محمد علي باشا في الإصلاح والتحديث لم ينقض ذكرها بعد، فسافر كرد علي إلى القاهرة سنة 1901 لابثاً فيها حقبة قصيرة في تحرير جريدة «الرائد المصري»، ليعود أدراجه إلى دمشق بعد تفشّي الطاعون في القاهرة، وتبدأ فترة من الاضطرابات والملاحقات من البوليس التركي. إذ إنّ كرد علي لم يوفّر الأتراك وولاتهم من النّقد اللّاذع في مقالاته كافة. يعود محمد كرد علي إلى مصر عام 1906، وينشر «المقتبس» المجلة الأشهر في حينها بعد جريدة «الجوائب» التي أنشأها أحمد فارس الشدياق في الأستانة. كما تولّى في الوقت ذاته تحرير جريدة «الظاهر» اليوميّة. ولمّا أُغلِقَت، دعاه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد» ــ وهي يومئذٍ كبرى جرائد العالم الإسلامي ــ إلى التّحرير فيها، فعمل هناك حتى سنة 1908، حين غادر القاهرة إلى الشام بعد الانقلاب العثماني. في دمشق، تابع حتى سنة 1914 إصدار مجلة «المقتبس» التي كانت ترصد أخبار الولايات العثمانية واحتكاكها الصعب مع الحداثة في مطالع القرن العشرين، وبعين أخرى الضوء القادم من الغرب. إذ إنّ باريس كانت قبلة لعلاّمة الشام الكبير، التي زارها مرّتين هي وكبريات العواصم الأوروبية، مدوّناً رحلاته في «غرائب الغرب» (1922) ثاني أهم كتبه بعد «خطط الشام» (1925) وهو السفر الضخم الذي أفرده للشام ومحبوبته دمشق في تاريخها وعمرانها ومللها ونحلها وأحوال السياسة فيها.
بعد هزيمة تركيا في الحرب الأولى، استطاع محمد كرد علي أن ينتزع من حكومة الملك فيصل قراراً بتغيير ديوان المعارف بأعضائه ورئيسه، واستبداله بأوّل مجمع علمي عربي في دمشق عام 1919، والذي سيرأسه كرد علي حتى وفاته. لئن ذاع صيت محمد كرد علي كمؤرّخ، وكصحافي، ووُصفت جريدته «المقتبس» بأنّها «معتدلة في السياسة، وطنيّة بلا تحفّظ، ناقدة للسلوك الإداري العثماني في الحكم»، فإن الإطلاع على مؤلفاته الأخرى التي بدأت «دار الرافدين» (بيروت/ بغداد) بإعادة طباعتها في حلّة جديدة ضمن سلسلة «استعادات» (تحقيق الزميل محمد ناصر الدين) من «غرائب الغرب» و«في تراث العرب والمسلمين» و«في الأدب والفن واللّغة» و«مطالعاتي في الكتب»، تطرح تحديات جدية على كل من يصرّ على إخراج محمد كرد علي من خانة «المفكّر» وإدراجه في خانة الصحافي أو المؤرخ حصراً. تشكّل نصوص «الإسلام والحضارة العربية» أول محاولة جدية من عقل عربي لنقد الاستشراق. كما أنّ مراجعات محمد كرد علي لصفحات إشكاليّة من التراث وإبراز جماليّتها وإمكانية استخدامها في حداثة ممكنة، شكّلت صلة وصل بين ما بدأه رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعبد الله النديم في القاهرة كمحاولة لمصالحة الإسلام مع المدنية ومشروع كبير سيشرع به مفكرون وشعراء ومثقفون كبار أمثال حسين مروة، ومحمد عابد الجابري، وأدونيس وجورج طرابيشي وغيرهم في ما بعد في التفكير في «الثابت» و«المتحوّل» في هذا التراث وبنية العقل العربي ومناطق قوّته وضعفه وهرطقاته ونزعاته المادّية والروحية.