ديناميّة الترجمة الأدبية في العالم العربي بطيئة جداً، وفي الشعر أكثر بطئاً، لأكثر من عامِل: اعتبار الشعر نوعاً نخبوياً، كتابياً، لا جماهيرياً، إلّا في ما نَدر (مظفّر النواب، محمود درويش). تبخيس الناشرين له، باعتبار إصدار الدواوين الشعرية عملاً غير مربح، بل مثلبةً قد تَسِمُ بعض الدور، خصوصاً لأنّ الشعر بالذات ــ لخصوصيته الأسلوبية والشكلانية، معنًى ومبنًى ــ يتطلب شاعراً لترجمته، وفي أدنى الحالات متخصّصاً في هذا الميدان بعينِه.وفي قائمة الشعر الأميركي المنقول إلى العربية، تكرّست أسماء معروفة بعينها (ويتمن، إدغار بو، جيل «البيت»)، لتتسبّب هذه السّياسة الثقافية المجحِفة في حجب أسماء أهمّ أحياناً، كروبرت بلاي الذي لم تُتَرْجَم له أي مجموعة كاملة لغاية الساعة، وإنما كتاب مختارات يتيمة (ترجمة سامر أبو هواش). كذلك الحال بالنسبة إلى كارل ساندبرغ (1878 ــ 1967)، الذي يُترجم له أسامة إسبر هنا (انظر المختارات أدناه) أوَّل مجموعة شعريّة كاملة في العربية، بعدما كان سامر أبو هواش قد ترجم له كتابَ مختارات شعرية. لم يكن مدخل ساندبرغ للذيوع شعرياً فقط، بل كان سِيْرِيّاً أيضاً، بتكريسه سنواتٍ من حياته لسيرة ضخمة، في ستة مجلّدات، تتناول أبراهام لينكولن، من خلال شهاداتٍ لقيادات شاركت في الحرب الأهلية وذكريات ساكِنَة احتفظت بأحداثٍ من ويلات هذه الحرب وحَوَاسِمِها، بحيث صار هناك تماهٍ، لدى قرّاء النصف الأول من القرن العشرين، بين ساندبرغ ولنكولن، بل صار المؤرخون يؤكِّدون أن الأميركيين لم يعرفوا لنكولن من مصدرٍ تاريخيٍّ آخر غير سيرة ساندبرغ عنه. في سنةَ 1959، حصل على جائزة Grammy لأحسن مادة صوتيّة (پِرفورمانس) من خلال إلقائه نصّ پورتريه لنكولن برفقة أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية. يُضاف إلى هذه الموهبة، المزدوجة في الكتابة شعراً ونثراً، تَعَلُّقهُ بجمع الأغاني الفولكلورية وإنشادِها، وكتابة حكايات للأطفال، كانت في البداية خصّيصاً لبناتِه. ولساندبرغ رؤية خاصة في كتابة الحكاية، ذلك أن مشروعه في أدب الطفل كان يَتَغَيَّى الخلوص إلى حكايات جِنِّيَّات أميركية الطابع، ومخصّصة للطفولة الأميركية: فالقصص الأوروبية مُتْرَعة بالملوك والفرسان البعيدين كلّ البعد عن الواقع الأميركي. لذلك، أثَّثَ حكاياته بمعطياتٍ من واقع أميركا، كناطحات السّحاب والقطارات والجِّنِّيَّات المصنوعة من عرانيس الذّرة وقطع الكعك. بعد فوز إرنست همنغواي، سنة 1954، بنوبل للآداب، أعلن الأخير أنّه كان سيكون سعيداً لو مُنحت لساندبرغ بدلاً منه. سيحصل على الـ «بوليتزر» خلال ثلاث دورات: دورتان في الشعر (1919و1951) ودورة في التاريخ (1940) توَّجت سيرته عن لنكولن. شِعره «العُمَّاليُّ» ليس نابعاً من معاينةٍ اجتماعية فحسب، بل أيضاً من تجربته، منذ بداية شبابه، كعامل جَوَّالٍ مارس حِرفاً يدوية عديدة، في كل منطقة الغرب الأوسط الأميركي، حيث تتبَّع حياةَ أهاليها بعين الشاعر المتفحِّص والدارِس الفولكلوري الذي خَبر الذاكرة الموسيقية والحِكائية للطبقات الشعبية بكامل هذه المنطقة الشاسعة والمتنوعة الثقافات. كان المِحَكُّ الأول لكتابةِ ساندبرغ والتزامه الجمالي/ السياسي اشتغالُه في الصحافة وفي أمانة العُمدة الديمقراطي ــ الاجتماعي لمدينة ميلووكي (Milwaukee) بين 1910 و 1912، لينتسب بعدها للحزب الاجتماعي ــ الديمقراطي لويسكنسن (الاسم الذي عُرِفَ به الحزب الاشتراكي الأميركي في الولاية)؛ وما زالت تنتصب في المدينة، لحد الساعة، لوحة تذكارية تخلِّدُ نشاطَه الحزبي هذا لصالح أهاليها. بعدئذٍ، سيشتغل في شيكاغو محرراً للافتتاحيات في يومية Chicago Daily News. وفي موازاة هذا الاهتمام المزدوج بالسّياسة والصحافة، كَتَبَ ديوانه الشعري الأول «قصائد شيكاغو» (1916)، الذي ستليه مجموعات أخرى، في مسارٍ شعري سَيُتَوَّجُ بـ «بوليتزر» سنة 1951 عن مجمَل قصائده. نقديّاً، ولدواعٍٍ أيديولوجية صرفة، اعتُبرَت قصائدُه الأولى من قبل غالبية المختصّين والمُواكِبين «أدباً من الدرجة الثانية»، لانحيازها الأسلوبي إلى اللغة المحكية للطبقات المستضعَفة. ورغم هذا التناول شبه العدَائي في النقد والصّحافة لمنجَزه الشعري، فقد ذاعت قصائده بسرعةٍ، لبساطة لغتها ونزوع تراكيبها نحو استلهام كلام الناس اليومي، مما سهَّلَ لها الاندراج في المقررات المدرسية الأميركية كُمُعَبِّرٍ عن صوت الفئات العمالية والطبقات المسحوقة. مع ساندبرغ، ستتكرّس صورة الشاعر المنشِد الجوال، في حفلات يحييها أمام الجمهور أو على أمواج الراديو، لا لقراءة وغناء قصائده الخاصة وتلك الفولكلورية التي جَمَعَها فحسب، وإنما أيضاً لإلقاء مقالات شعرية وجيزة يُقَدِّمُ فيها رؤيتَه للشعر ووظيفتِه، وسَبْرَه لأغوار المجتمع الأميركي في أُهْجِيَّاتٍ ساخرة. وربما كان ساندبرغ، بمسلَكه هذا، أول الشعراء المنشِدين بعزفٍ منفرد في تاريخ أميركا، وهو بهذا يحيي تقاليد التروبادور البروڤنسالية التي تعود إلى القرن السادس عشر الغرب ــ أوروبي. سانَدَ ساندبرغ حركة الحقوق المدنية، وكان أول رجل أبيض تشرِّفه «الجمعية الوطنية لدعم الملوَّنين» بالميدالية الفضية باعتباره «رسولاً أساسياً للحقوق المدنية في حقبتنا». بوفاته، في عام 1967، سيصرّح الرئيس الأميركي ليندون جونسون: «كان كارل ساندبرغ أكثرَ من صوتٍ لأميركا، أكثرَ من شاعرٍ لقوتها وعبقريتها. لقد كان أميركا بذاتِها»

قصائد شيكاغو (*)
ترجمة وتقديم أسامة إسبر
وُلد كارل ساندبرغ (Carl Sandburg) في غيلسبرغ في ولاية إيلينوي في السادس من كانون الثاني (يناير) ١٨٧٨. بدأ العمل في سنّ الـ 11 وتولّى أنواعاً مختلفة من الوظائف: بواب صالون حلاقة، سائق شاحنة توزيع حليب، عامل في مصنع الطوب وحاصد للقمح. تطوّع ساندبرغ في قوة المشاة السادسة في إيلينوي حين نشبت الحرب الأسبانية ــ الأميركية سنة ١٨٩٨. في سنة ١٩١٣ انتقل إلى شيكاغو حيث صار واحداً من مجموعة الكتاب الذين لعبوا دوراً في «نهضة شيكاغو» في الفنون والآداب.
جاء نجاحه الأول كشاعر بعد نشر قصيدة «شيكاغو» في مجلة «بويتري» الشعرية سنة ١٩١٤. في ما بعد، نُشرت هذه القصيدة مع قصائد أخرى في كتاب سنة ١٩١٦ بعنوان «قصائد شيكاغو». في السنوات الستّ التالية، نشر ثلاث مجموعات أخرى: «مقشّرو الذرة» (١٩١٨)، «دخان وفولاذ» (١٩٢٠) و«ألواح الغرب الذي سفعته الشمس» (١٩٢٢). تعكس هذه المجموعات وعي ساندبرغ لأميركا كأمّة مدينية على نحو متزايد. وفي قصائد مثل «شيكاغو»، يحتفي بالدافع والطّاقة لدى السكّان العاملين في الغرب الأوسط الصناعي.
حصل ساندبرغ على جائزة «بوليتزر» في الشعر مرّتين ثم مرة ثالثة عن كتابه حول أبراهام لنكولن. توفي في ٢٢ تموز (يوليو) ١٩٦٧ في فلات روك، في نورث كارولاينا.

١. قمر الطفلة
تتعجّبَ الطفلة
من القمر القديم
في اللّيل.
تشير بإصبعها
إلى شيء أصفر صامت بعيد
يتوهّج بين الأغصان
ويرشح بين الأوراق رملاً ذهبيّاً،
صائحة بلسانها الصغير: «انظروا القمر!»
وفي سريرها تغرقُ في النوم
وثرثرات القمر على فمها الصغير.

٢. شيكاغو
يا قصّابة لحْم الخنزير للعالم
يا صانعةَ الأدوات، وجامعةَ القمح،
أيتها الخبيرة في السكك الحديدية، ومُعالِجَة الشحْن في الوطن،
أيتها الجامحةُ الفظّةُ المشاكسةُ
يا مدينة الأكتاف الكبيرة:

قالوا إنك شرّيرة فصدّقتُهم، ذلك أنني رأيتُ نساءك المتبرّجات
يغْوين عمّال المزارع تحت المصابيح الغازيّة.
قالوا إنّك مخادعة فرددتُ: نعم، هذا صحيح لأنني رأيتُ المجرم يقتلُ وينطلقُ حراً كي يقتل من جديد.
قالوا إنك متوحّشة فأجبتهم: رأيتُ علامات جوع لا يرحم على وجوه النساء والأطفال.
وبما أنني أجبت هكذا التفتُّ مرة أخرى إلى الذين سخروا من مدينتي، ورددت لهم السخرية قائلاً:
هيّا أروني مدينةً مرفوعة الرأس تغنّي فخورة
بأنّها حية وفظّة وقوية وماكرة.
هنا ثمة شخص جبّار طويل وأصلع يقف قويّاً ومشرقاً إزاء مدن صغيرة ناعمة،
يقذف لعنات ساحرة وهو يكدح مكوّماً عملاً فوق آخر
شرساً ككلب لسانه متدل يركض لاهثاً من أجل العمل، ماكراً كبدائيّ
تستفزّه البراري،
عاري الرأس
يجرف
يهدم
يخطط
يبني، يحطّم، يعاود البناء،
تحت الدخان، فيما الغبار يغطّي فمه، ويضحك بأسنان بيضاء،
يضحك تحت العبء المريع للقدر كما يضحك
الشابّ،
كما يضحك مقاتلٌ جاهلٌ لم يَخسرْ معركةً واحدةً،
يتباهى ضاحكاً أنّ تحت رسغه النبض، وتحت أضلاعه
قلب الناس،
يضحك!
يضحك الضحك العاصف، الأجشّ الهادر للشباب، نصف عار،
متعرّقاً، فخوراً بأن يكون قصّاب لحم خنزير، صانع أدوات، جامع قمح، متقناً لأعمال السكك الحديدية ومعالجَ الشحن للوطن.

٣. ضباب
يغمر الضباب
أقدام القطة الصغيرة.
أول الشعراء المنشِدين بعزفٍ منفرد في تاريخ أميركا، وهو بهذا يحيي تقاليد التروبادور التي تعود إلى القرن السادس عشر


يجلس ناظراً
فوق المرفأ والمدينة
على كفلين صامتين
ثم ينطلق.

٤. ضوء أبيض
تُضيءُ الصقيع الليلة بضوئك الأبيض
يا قمرَ اللون الأرجواني والغرب الصامت.
تذكّرْني كأحد عشّاق الأحلام الذين منك.

٥. حديد
مدافع،
مدافع طويلة، فولاذية،
مسدّدة من السفن الحربية،
باسم إله الحرب.
مدافع مستقيمة، لامعة، ومصقولة،
يتسلقها أستراليون محليّون في بلوزات بيضاء،
مجد الوجوه السمراء، الشعر الأشعث، الأسنان البيضاء،
أشخاص رشيقون ضاحكون في بلوزات بيضاء،
يجلسون على المدافع وينشدون أناشيد الحرب، ترانيم الحرب.
مجارف،
مجارف عريضة، حديدية،
تحفر مدافن مستطيلة
وتسوّي الأرض العشبية.
أطلب منكم
أن تشهدوا:
إنّ المجرفة شقيقة المدفع.

٦. ويطيعون
دَمِّروا المدن.
حَطِّموا الجدرانَ إلى قطعٍ.
حطِّموا المصانعَ والكاتدرائيات، المستودعات والمنازل
إلى أكوام مبعثرةٍ من الحجارة والأخشاب والفحم الأسود المحترق:
أنتم الجنود ونحن نأمُركم.

ابْنوا المدنَ.
شَيِّدوا الجدران مرة ثانية.
حوِّلوا المصانع والكاتدرائيات والمستودعات
والمنازل، مرة ثانية
إلى أبنية للحياة والعمل:
أنتم عمّال ومواطنون: ونحن نأمركم.

٧. حروب
في الحروب القديمة طقطقةٌ للحوافر وخبطٌ للأقدام المُنْتعلة.
في الحروب الجديدة هَمْهَمةٌ للمحرّكات وخَطْو عجلات مطّاطيّة.
في الحروب القادمة عجلاتٌ صامتةٌ وأزيز مسدّسات لم يُحلم بها بعد
في رؤوس الرجال.

في الحروب القديمة قبضاتُ سيوفٍ قصيرة وطعناتٌ في الوجوه بالرماح.
في الحروب الجديدة مدافعُ بعيدةُ المدى وجدرانٌ مهدّمةٌ، مدافعٌ تُطلقُ بصاقاً معدنيّاً
ورجالٌ يتساقطون بالعشرات والعشرينات.
في الحروب القادمة ميتاتٌ صامتة جديدة، وقاذفاتٌ جديدة صامتة
لم يُحْلَم بها بعد في رؤوس الرجال.

في الحروب القديمة ملوكٌ يتنازعون وآلاف الرجال يتبعونهم.
في الحروب الجديدة ملوك يتصارعون وملايين الرجال يتبعونهم.
في الحروب القادمة ملوك يُرْكَلون ويُرْمَون تحت التراب وملايين الرجال
يسعون وراء قضايا عظيمة لم يُحلم بها بعد في رؤوس الرجال.

٨. من أنا؟
رأسي يلامس النجوم.
قدماي على قمم الهضاب.
رؤوس أصابعي في أودية وشواطئ الحياة الكونية.
إلى الأسفل، إلى الزبد الصاخب للأشياء البدائية، تصل يداي
وألعبُ بحصى القدر.
ذهبتُ إلى الجحيم وعدتُ منه مرات كثيرة.
أعرف كلَّ شيء عن الفردوس، ذلك أنني تحدّثتُ مع الله.
أتبلّل في دم وأحشاء المريع.
أعرف الأسْر الهيامي للجمال
والتمرّد المدهش للإنسان على كلِّ اللافتات التي كُتبَ عليها: «ابتعد».
اسمي هو الحقيقة وأنا الأسيرةُ الأكثر مُراوغةً في الكون.

٩. جماهير
تجوّلتُ في الجبال ورأيت الضباب الأزرق والجرف الأحمْر شديد الانحدار
فذُهلت،
على الشاطئ حيث يناور الدفع الطويل تحت المدّ اللانهائيّ، وقفتُ صامتاً،
تعالى في رأسي صخب الأفكار تحت النجوم في السهب وأنا أراقب طائر الغطّاس يتمايل فوق أعشاب الأفق.
لمستُ جميع الرجال العظام، ومواكب الحرب والعمل، والجنود والعمّال، ونساءً يحملْن أطفالهنّ شاعراً بإثارتهم المقدّسة.
و في أحد الأيام حظيتُ بنظرة حقيقية إلى الفقراء، ملايين الفقراء، الكادحين الصابرين، الأكثر صبراً من الصخور والمدّ والنجوم، الصابرين كظلمة الليل لا يُحصى لهم عدد،
وجميع الأنقاض المتحطمة، المتواضعة للأمم.
١٠. من الشاطئ
طائرٌ رماديٌّ وحيد،
يغطس في الأعماق، يُحلّقُ بعيداً،
وحيداً في الظلال والمشاهد الخلابة واضطرابات
الليل والبحر
والنجوم والعواصف.

في الخارج يرتعشُ ويرفرفُ في الظلام،
في الخارج يتأرجحُ وينحدرُ داخل الظلمة،
في الخارج في الريح والمطر والمسافة،
في الخارج في حفرة عالمٍ كبير أسود،
حيث الضباب يتقاتل، مدفوعاً من السماء، ومنتفخاً من البحر،
حبّ الضباب وغبطة الهرب،
أمجاد الحظّ ومخاطر الموت
على جناحيه المتلهّفين الخافقين.

في الخارج، في عمق العالم الكبير المظلم،
وراء الحدود الطويلة، حيث الزّبد واندفاع
الأمواج المنشطرة ضائعان ومتلاشيان
في المدّ الذي يغوص ويرتفع ويتفتت.

(*) مقتطفات من كتاب مختارات شعرية، صدر حديثاً بالعنوان نفسه، عن «دار خطوط» (عمان ـ الأردن)