يوم السبت الساعة العاشرة مساءً، تركتُ بيت صديقي زيد. لم يطردْني عامداً إلّا أنه لمّح لشيء من هذا. قاسمته غرفته الصغيرة لأيامٍ عدة. هو الآخر لاجئٌ ترك مدينته بغداد، وجاء إلى بيروت ليسجّل في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بغرض الهجرة إلى أوروبا. ولكن الفرق بيني وبينه، أنّ لديه عائلة تسأل عنه وترسل له النقود بين حين وآخر. كان عليَّ أن أرحل فليس له ذنب، وليس أمامي خيار آخر. نزلتُ إلى الشّارع وسرتُ باتجاه المنطقة العجيبة. هناك حيث يمكنك أن ترى وأنت تمشي في أحد شوارعها، الفقير والغنيّ، الفنّان واللصّ، المهرّج والسياسيّ. إنّها مزيج من الثقافات حيث ترى سودانيّاً عائداً من عمله على دراجته الهوائية، وآخر شعرُه مجعّد ويحمل حقيبة المثّقفين على كتفه، وترى سورياً يبيع اليانصيب وآخر يُقال إنه مخرج أو ممثل مشهور، وترى سائحاً من جزيرة العرب بلباسه التقليدي الفضفاض، وآخر أجنبيّاً يرتدي الشورت وبيده كتاب صغير عليه خريطة المدينة.
سكانها الأصليّون هم «البيارتة» بلكنتهم الثقيلة وبساطتهم وثراء البعض منهم ثراءً فاحشاً، وأما بقيّة اللبنانيّين فيها فهم موظفون وطلاب جامعات ومثقفون من أنحاء البلاد، تكاد تراهم يومياً وفي التوقيت نفسه وكأن هذه المدينة بيتهم. مسارح ومقاهٍ ومكتبات وفنادق وبارات ومحالّ ألبسة ومشرّدون بلا مأوى ونساء جميلات، حتّى العجائز هناك أنيقات ويعتنين بجمالهنّ. كل ذلك في حيّ واحد: الحمراء.
في ذلك الحيّ الصغير ذاته، وخلال ثماني سنواتٍ خلت، كنتُ قد أسّستُ بيئتي الخاصّة. جنيت أصدقاء ورسمت أحلاماً، وكانت حياتي هادفة قليلاً وممتعة. كان وقتي مقسَّماً على نحوٍ بسيط بين العمل مراسلاً لمجلة «تحوّلات» نهاراً وبين السهر إمّا في مطعم «مزيان» مع الموسيقى، وإما في مكتبة مقهى «تاء مربوطة» مع الكتب.
وها أنا أدخله مجدّداً، بيدٍ فارغة ووجه فارغ. وجيوبٍ فارغة.
سرعان ما بدأ الوقت يمرّ متجاهلاً وجودي تماماً. وربما يجدر بي أن أردّها للوقت وأتجاهله أنا أيضاً. هكذا يمكنني أن أعيش، وهكذا سينتمي قلبي للخرسانة، عندما يطفو على وجهي ذلك الحزن ولا أجد أحدهم إلى جانبي. كل أحلامي تلاشت بلحظة. ومَن أحبّهم ماتوا ولا شكّ أن جثثهم تحلّلت وانتمت للتراب مجدّداً، تراب قريتي البعيدة هناك في الشمال الشرقي لسوريا. أصدقائي الذين جنيتهم هنا بعضُهم سافر والبعضُ الآخر سئم من بؤسي، فلم يعُد يُعِيرني انتباهاً. هكذا، بكل برود وعبثيّة الموقف فقدتُهم جميعاً، بيدَ أنني ولحسن الحظ أشعر أنني لستُ أبالي بشيء، فعلى كل حال لم أعُد مسؤولاً أمام أحد، ولا ينغّص عليَّ هذا الشعور إلا كوني مشرّداً في المدينة. فالحياة في الريف بسيطة لدرجة أن ما تألفه اليوم يحدث لك مراراً حتّى بعد مرور ثلاثة عقود. أما هنا، فالحياة معقّدة لدرجة أنك لن تكون أنت ذاتك بعد ثلاثة أيام. وتلك الكتب التي قرأتُها في حياتي، قد أحتاجُ لوقت يعادل الوقت الذي أمضيتُه في قراءتها كي أستطيع أن أقنع نفسي أنه يمكنني العيشُ هكذا.
جلستُ على مقعد إسمنتي قرب مسرح «مترو المدينة» أول الشارع. كان الجو بارداً، وضعت يديَّ في جيوبي لعلّي أجد بعض الدفء. وبينما كنتُ أحاول أن أستقر في جلستي، شعرت أن برودة الإسمنت لسعت ردفيّ، إلّا أنّني سرعان ما اعتدتها، ولم أعرف إن كان المقعد أخذ الدفء من جسمي أم أن جسمي صار بارداً، وهكذا اتفق أن كلينا تجاهل المسألة. فكَّرت أنني ربما قد أنسى كل هذا بعد عامٍ من التشرّد، وقد أتعوّد عليه لدرجة أنني لا أرى فرقاً بين هذا الشارع أو ذاك، وأسقط نائماً حيث تتعب قدماي.
نعم.. يمكن لأيّ شيء في حياتنا أن يتحوّل إلى إدمان. الحبّ، الحزن، الخوف، الكراهية، الوجع...
عندما نعتاد على نوع من أنواع الضجيج، نحسّ بالفراغ حين يهدأ.
وحتّى الإقلاع عن الإدمان يمكن أن يتحوّل إلى عادة نمارسُها دوماً، فأنا من كثرة ما حاولت الإقلاع عن الشرود الذهني سابقاً، أدمنتُ العادتين، الشرود الذهني ومحاولات الإقلاع عنه، بدليل أنني الآن أتسكّع وحيداً لأنني لم أعد أجيد شيئاً آخر. كلاب شاردة تركض في رأسي، تلهثُ بلا توقّف. تُشعرني أنني سوف أتقيّأ هذا العالم بعد قليل. ولكن إلى أين سأذهب بعدها؟ لا أعرف. واثقٌ بأنني لن أطرقَ ذلك البابَ مجدداً، كما أنا واثق بأنني لا أستطيعُ إغلاق ذاكرتي. أربعة جدران بلونٍ واحد، وضوءٌ معلّق في منتصف السقف، غرفة زيد كانت تشبه الزنزانة، ربّما كان ينقصني الحكمُ بالإعدام، لأنني كنت أحمل تلك الملامح، التي كانت فعلاً تنتظر الموت، كما ينتظر أحدهم إشارة المرور.
قرفٌ... والوقتُ يأخذ شكل المقصلة. لاشيء يستحق المجازفة، الواقع تكرار للقرف ذاته كل يوم. الخيال مادّة لزجة تشبه السائل المنوي، ونشوتُنا جميعاً لا تدوم لأكثر من ثلاثِ ثوانٍ. الجحيمُ عمره أطول.
■ ■ ■
اليوم الثاني. كنتُ طيلة النهار نائماً قرب ذلك الكشك المغلَق، استفقتُ على ركلة شرطيّ المرور، ذلك السّمج، ربما ظنّ بأنني سكران أو مغمىً عليّ، أفقتُ ربما على الركلة الثالثة أو الرابعة لا أدري، استعنتُ بيدي اليمنى كي أنهض، وكان جسمي في حالة تشبه الشلل وعظامي تؤلمني من البرد. رفعتُ ناظري إليه متسائلاً: ما الذي تريده منّي؟ فبادرني بالقول: ما الذي تفعله هنا؟ قلت له لاشيء، نائم فحسب!
عندها ازدادت حدّة نظرته، تجعّد جبينه الواسع والتقى حاجباه قائلاً: لا أريد أن أراك نائماً هنا مرّة ثانية، هل فهمت؟
لم أردّ عليه. نظرتُ في وجهه نظرة فارغة، من دون أيّ تعبير في ملامحي. أنهى كلامه ومضى وأحسست من طريقة مشيه أنه كان يتبختر معلناً انتصاره عليّ.
بقيتُ وقفاً أراقبه وهو ينظّم حركة المرور. انتابني حينها شعورٌ لم أفهم ما هو بالضبط. كانت الساعة الحادية عشرة مساءً بتوقيت اللّعينة بيروت، تلفّتُّ حولي. جدرانٌ قديمة. جدرانٌ حديثة وفخمة، محالّ تجارية، إشارات مرور خضراء وحمراء، عجلاتٌ تدور بسرعة وأخرى واقفة، سيارات.. سيارات كثيرة وملوّنة، أضواء خافتة، أضواء مزعجة، أناس يضحكون بقوة، أناس يبكون بهدوء، أحاديث غريبة تدور بين المارّة، عن الحروب والحانات، عن النساء الجميلات والرجال الأغنياء.
نادرٌ مرور الأولاد الصغار هنا، ما عدا أولئك المشرّدين، صوتهم يتسرّب إلى مسمعي من بعيد. يقولون أحياناً بلهجة سورية مائلة قليلاً إلى العراقيَّة (نصبغلك السبّاط أستاذ؟ بخليلكياه يلمع) (بدّك وردة؟) (اشتر وردة لهالقمر إلّي معك). أتجاهل أصواتهم لعلّي أهدأ، فتمرّ بمحاذاة وجهي الذي لم أغسله منذ أيام، امرأة لها وجه جميل وجسد رشيق متناسق، أردافها بارزة خلف خامة سروال ضيق، وهي كاشفة عن نصف نهديها. صحيح أنّ الأنا العليا تتحرّك في رأسي قليلاً، ولكنني في داخلي أتمتّع بالمنظر. حتى أن الأمر في بعض الأحيان يعدو كونه اشتهاءً ورغبةً في ممارسة الجنس للمرة الأولى، إلى كون تلك المرأة لوحة تسير في الشارع أو شيء مقدّس...
عاودتُ الجلوس بحيث لا يراني الشرطيّ، أشعلتُ السيجارة الأخيرة من علبة التبغ. سحقتُ العلبة بيدي ورميْتها، وبدأ ذلك الصوتُ يتردّد في مخيّلتي: من أنا؟ أسأل نفسي، وأجيب: مَن ينامُ على الرصيف بلا فراش يعزل لحمه عن «الباطون» ولا ثياب تطرد البردَ والذبابَ عن جثّته البالية، ولا شيءَ بين وجهه والبؤس إلا خطى المارّة، لأنه يقضي معظم الوقت ملقىً على الأرض فلا يرى من البشر سوى نعالِهم.
آهٍ أيتها الحمراء.. قلبي الزاني يربض وحيداً، مثل كلبٍ بائسٍ لا يجيدُ شيئاً سوى النباح.

(*) فصل من رواية للكاتب السوري يوسف الخضر، صدرت حديثاً عن «منشورات إيبيدي» في الإسكندرية