عن «دار محمد علي الحامي» في تونس، صدر كتاب «تراجم نشطاء الحركة الشيوعية في تونس زمن الاستعمار الفرنسي وبدايات عهد الاستقلال 1921-1963» بالتعاون مع «مكتب التعاون الأكاديمي لمؤسسة روزا لكسمبورغ». يمكن اعتبار كتاب الباحث الحبيب رمضان، أشمل وثيقة تؤرّخ لولادة الحركة الشيوعية في تونس، وقد كانت بدايتها مرتبطة بالحركة الشيوعية الفرنسية وفي سياق الأممية الشيوعية التي تأسّست في عام 1919. الكتاب الذي قدّم له العميد السابق لـ «كلية الآداب والفنون والإنسانيات» في منوبة الحبيب القزدغلي، يشتمل على 300 شخصية من روّاد الحركة الشيوعية في تونس من جنسيات فرنسية وايطالية ومالطية، وهي الجاليات الأوروبية الثلاث التي كانت مقيمة في تونس لغاية استقلال البلاد في عام 1956.

اختار الباحث الفترة الزمنية الممتدة بين تأسيس أول خلية شيوعية وحلّ الحزب الشيوعي في 1963 بقرار من الرئيس الحبيب بورقيبة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي استهدفت النظام. يقول الحبيب رمضان عن الشخصيات التي اختارها وجمع سيرها: «يندرج هذا المؤلّف ضمن هذا الهدف عبر التعريف بأسماء ونساء ورجال كان لهم دور داخل الحركة الشيوعية في تونس انتسبوا إليها بقطع النظر عن مدّة الانتساب أو ظروفه، ومن دون اعتبار الجنسيّة واللّغة والدين… ففيهم التونسيون والأوروبيون، عمالٌ ومثقفون وصنايعية وفلاحون، مسلمون ومسيحيون ويهود… هؤلاء التقوا حول فكرة الشيوعية». ويضيف رمضان: «سيجد المتصفّح لهذا الكتاب أسماء قيادات، بعضها معروف وراسخ في الذاكرة الوطنية، وبعضها الآخر قد غمره النسيان، وهناك من كان مناضلاً قاعدياً أو إطاراً محلياً أو من الصفوف الخلفية، وتوجد من بين مَن ذكرنا نساء ناضلن وتركن بصماتهن في السياسة والمجتمع».
ومثّل إعلان الجامعة الشيوعية في تونس استقلاليّتها عن الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1929 مساراً جديداً في تاريخ الحركة الشيوعية، تعزّز بتأسيس الحزب الشيوعي التونسي الذي أسهم إلى جانب الحزب الدستوري في الحركة الوطنية والكفاح التحريري الذي تُوّج باستقلال البلاد، وقد تعرّض عدد من قياديّيه إلى السجن والإبعاد والمنفى.
نكتشف في هذا الكتاب مجموعة من الشخصيات من الشيوعيين الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين الذين ساندوا مطالب الشعب التونسي في الحرية والعدالة الاجتماعية، وقد تعرّض بعضهم إلى السجن والطرد من تونس مثل سيرانو أنريكاز الذي اعتقل في أيلول (سبتمبر) 1935 وسلّطت عليه عقوبة مالية وسجنيّة بتهمة توزيع مناشير واحتقار السلطات الفرنسية، ودومينيك أنتونين الذي ساهم في تأسيس الجامعة الشيوعية و«الكونفدرالية العامة للشغل» (سبقت الاتحاد العام التونسي للشغل) الذي تمّ نقله إلى فرنسا بسبب نشاطه الشيوعي والنقابي المعادي للاستعمار الفرنسي وغيرهما. وهناك ليتزا تشيتانوفا وهي فرنسية من أصول إيطالية ولدت في تونس، وطُردت من عملها، واعتُقلت في تموز (يوليو) 1942بتهمة المشاركة في توزيع مناشير شيوعية عبر البريد والانتماء للحزب الشيوعي التونسي.
في هذا الكتاب التوثيقي الهام، لم يكتفِ الحبيب رمضان بسِير المؤسّسين فقط، بل قدّم مجموعة من البيانات والمعطيات وبيبيلوغرافيا الصّحف والمجلات التي كان يصدرها الشيوعيون في تونس، وكذلك عشرات الجمعيات والمنظمات والنقابات التي ساهم الشيوعيون في نشاطها بما يجعل من الكتاب وثيقة أساسية في قراءة تاريخ الحركة الشيوعية في تونس.
هيمنوا على الجامعة وتصدّروا قيادة الحركة النقابية، لكنهم اليوم لا يمثّلون أيّ وزن


نكتشف أيضاً مجموعة من الأدباء والمثقفين الذين كانوا من مؤسّسي الحركة الشيوعية مثل محمد فريد غازي الذي أعد أطروحة دكتوراه في «جامعة السوربون» في باريس بعنوان «النزعة الإنسانية في مؤلفات ابن المقفّع»، وكتاب «الشابي من خلال يومياته»، والدكتور توفيق بكار أستاذ النقد الأدبي في الجامعة التونسية، والدكتور صالح القرمادي أستاذ الإنسانيات في الجامعة التونسية، والمترجم والشاعر البارز والشاعر عبدالرحمن الكافي، والمسرحي محمد بورقيبة والروائي جلبار نقاش وغيرهم.
وعن الخط العام للحركة الشيوعية التونسية، قال الحبيب رمضان إن «وحدة الخط السياسي العام للحزب لا تنفي وجود مواقف وقراءات فردية داخل صفوف مناضليه قد تبقى في حدود الفرد أو تتشكل في تيّار متبلور؛ لكن بين الكوني والخصوصي، وبين الأممي والوطني… كان تأرجح تاريخ الشيوعيين في تونس وفق ظروف موضوعية، وطنياً وعالمياً، تتجاوز رغباتهم وتعاكس تطلعاتهم أحياناً». ويضيف: «لكن هذا لم يمنع من وجود هيمنة مكوّن من مكونات ذاك الخليط لأسباب ليست بالضرورة كمية بقدر فاعليتها أو لدواعي إيديولوجية».
وكان الحزب الشيوعي التونسي قد دخل في مرحلة العمل السري بين 1963و1981 عندما سمحت له السلطة بالعودة إلى النشاط، وشارك في أول انتخابات برلمانية تعدّدية سنة 1981. وفي مؤتمر 1992، تم تغيير الحزب ليصبح «حركة التجديد والتخلي». وفي مؤتمر 2011، تحوّل اسمه مرة أخرى ليصبح «حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي»، وهو موجود في المشهد السياسي لكن من دون تأثير يُذكر.
بعد حلّ الحزب الشيوعي، شهدت تونس ظهور تنظيمات أخرى مثل «حركة الآفاق» التي تمّ الزجّ بقياديّيها في السّجن سنة 1968 و«حركة العامل التونسي» مطلع السبعينات التي لقيت المصير نفسه. وبعد حقبتي الستينات والسبعينات لغاية أواخر الثمانينات، كان الشيوعيون يهيمنون على الجامعة التونسية ويتصدّرون قيادة الحركة النقابية، لكنهم اليوم لا يمثّلون أيّ وزن سياسي في البرلمان بسبب التشتّت وحرب الزّعامات بينهم.
يمكن اعتبار هذا الكتاب وثيقة أساسية لا غنى عنها في الاطلاع على تاريخ الحركة الشيوعية في تونس وهوية مؤسسيها من تونسيين وأوروبيين من مسلمين ويهود ومسيحيين. حركة دافعت عن كرامة الإنسان وانخرطت في الكفاح من أجل الاستقلال بما في ذلك عدد كبير من الفرنسيين الذين أدانوا الاستعمار الفرنسي. والمعروف أنّ الحركة الشيوعية التونسية ضمّت عمالاً وحرفيين وفلاحين وتجاراً آمنوا بفكرة العدالة الاجتماعية والاشتراكية، إلى جانب طبعاً المثقفين والجامعيين.
والاستنتاج الثاني هو ارتباطها العضوي بالحركة النقابية، فمعظم روّادها كانوا أساساً نقابيّين في «الكونفدرالية العامة التونسية للشغل» التي أسّسها محمد علي الحامي والطّاهر الحداد وغيرهما، وكانت أول تجربة في التنظيم النقابي قبل تأسيس «الاتحاد العام التونسي للشغل».
ويقول الحبيب قزدغلي في تقديمه للكتاب: «سيكتشف القارئ من خلال هذا الكتاب أن مسيرات الأفراد متعدّدة ومتنوعة، وهي ليست نمطيّة أو مسطرة سابقاً أو محكومة بإيمان عقائدي يقيني لا يدخله الشك ولا أي شكل من أشكال النقد. فنحن أمام مرويّات لبشرٍ تتخلّل تجاربهم ومساعيهم محطات فيها شكّ وضعف وتراجع وفيها تصحيح كما فيها «محاكمات رأي» و«تفتيش» حيث وصل الأمر إلى تعرّض عدد من المناضلين إلى قرارات طرد من طرف قيادة حزبهم تبيّن في ما بعد أنّهم هم الذين كانوا على صواب واضطرت القيادة للقيام بنقد ذاتي».
«تراجم نشطاء الحركة الشيوعية في تونس زمن الاستعمار الفرنسي وبدايات عهد الاستقلال 1921-1963» مرجع يحتاجه الباحثون في تاريخ الحركة الشيوعية واليسار العربي عموماً الذي كان التعبيرة السياسية الأولى في الجامعة التونسية إلى حدود منتصف الثمانينات وهيمنة الإسلاميين على الجامعة والشارع على حدٍ سواء. وهو يعدّ تتويجاً لكتب عديدة صدرت في تونس حول اليسار والحركة الشيوعية، لكنّه أوّل كتاب توثيقي بهذا الحجم وقد تطلّب إعداده سنوات طويلة من التنقيب في المراجع المتفرّقة.