بالنّفي، يبدأ الشاعر عقل العويط كتابه «آب أقسى الشّهور يُشعل اللّيلك في الأرض الخراب» (دار نلسن، رسوم داخلية للفنان حسن جوني، ٢٠٢١) في الذكرى الأولى لانفجار الرابع من آب. نفيٌ يحمل صفة الرفض وكتابة نصّ فوق النص، والخطاب موجّه إلى ت. س إليوت في قصيدته «الأرض الخراب»، إذ يدخل العويط من مقدمة كتابه إلى فضاء إليوت بصيغة اعتراضية: «النفيُ هو اليقين الوحيد، ونيسان ليس أقسى الشهور. ليس صحيحاً أنّ وجع بيروت اكتمل، مثلما يكتمل قمرٌ في قيظ آب. يكتمل وجع الكوكب في منتصف الليل، على منوال الوجع الذي يعتري الذهب في منتصف قلبه. كان ينبغي لليباب الذي يوجع اليابسة ومن عليها، أن يتراءى لك، بعد مئة عام، في مكانٍ من هذا الكوكب يُدعى بيروت، لكن الرؤى لا يكتمل خرابها، ولا الأوجاع تكتمل، وإن ظُنّ اكتملت ذات يوم وفي ذات لحظة. ما يدركه الشِعر ليس هو الشعر كاملاً». لفهم هذا التّضاد، لا بدّ من استحضار المقطع الشهير في قصيدة إليوت (١٩٢٢): «أبريلُ أقسى الشهور/ يُنبتُ الليلكَ من الأرضِ المَيْتَة/ ويمزجُ الذاكرةَ بالرغبة/ ويوقظُ الجذورَ الخاملةَ بمطر الربيع». قساوة أبريل إذن هي «قساوة الإزدراء» كما يقول الناقد الفرنسي كريسوفر بويكس. فعلى الرغم من معاناة العصر بعد الحرب الأولى، كان أبريل لا يزال يحتفظ ببريقه كزمنٍ أخضر يصمّ أذنيه تماماً عن المحنة الإنسانية التي تتصاعد في «أوروبا المتدهورة» وقتئذٍ، وعن الأرض اليباب التي لا تُنبت إلا الموت. قساوة شهر آب من عام ٢٠٢٠ تأتي من كونه لا يحمل هذا الديالكتيك في قلب حضارة بين حيّ وميت، ولا يمكن تمييزه كازدراءٍ افتراضي: حمل آب فِعل القتل البربري الفظّ، قتل بنيترات الأمونيوم، والازدراء المباشر والواضح لمدينة بأكملها، بروحها وإنسانها وبحرها وبرّها وشجرها وهوائها، وهو ما يقوله العويط في بداية النص: «لم نحظَ من الشهور إلا بالحرائق، ولا من الحكّام إلا بالحثالة، ولا من الأنهر إلا بالدّفق من المراحيض، ولا من البحار إلا بالجيف مناظر حتى الطوفان… بودّي أن نتجالس على مرمى أكوام الألومنيوم والتنك، وأن نكون صحبة ما تبقى من نيترات الأمونيوم، هل سمعتَ يوماً بنيترات الأمونيوم يا سيد إليوت؟». قسّم العويط بنية النص على إيقاع حركات إليوت الخمس، واحتلت الحركة الأولى «أرضنا الخراب» القسم الأكبر منه. كان إليوت قد أعطى بعض الدّلائل على الخلفية الأسطورية للقصيدة، حيث تتقاطع التلميحات إلى الملك آرثر وتريستان وايسولت وأسطورة الكأس الذهبية والأساطير التي سجلها جيمس فريزر في كتابه العظيم «الغصن الذهبي»، فأي أسطورة تحملها بيروت؟ أسطورة بيروت هي في الحب، كما يقول العويط في الحركة الأولى، في «النساء اللواتي يفهمن الجوهر، ويسربلن الشعراء بالشعر، اللواتي لم يتركن شاعراً إلا صريع قصائده المترنحة»، وبيروت هي من «المدن التي تهوى مؤازرة الهاوية لكي لا تقع، على مثال الحوريات يتركنَ عريهنَّ في النهر، ويلتحقن بالعشاق والسكارى»: خلقت بيروت الحداثة إذن بسربلة الشعراء بالشعر، وخروج الحوريات من نهر التراث والأسطورة لصناعة المدينة، دخلت بيروت الحداثة شعراً كما يقول عباس بيضون بدون أسطورة، لا أسطورة اللغة ولا التاريخ ولا الغصن الذهبي ولا الفلسفة ولا أسطورة الشعر نفسه. وتجرأت على أن تكلّم مدينة «العشاق والسكارى» بدون وسيط فولكوري أو ترميزي. 
أسطورة بيروت هي في الحب، كما يقول العويط في الحركة الأولى


في الحركة الثانية من نص العويط بعنوان «عمود من نار»، يشبّه الشاعر بيروت بـ «الزيتونة التي ترشح زيتاً كي ترشد الأيقونة إلى صلاتها». وهنا معارضة أخرى لإليوت: الأرض اليباب هي اللغة المدمرة أيضاً، التي تعجز على أن تعبق بأيّ إيمان، أو تخلق أي اتصال أو «مناولة». يزحف الدمار على بيروت، فيصير عدواناً على قاموسها من جبل وشمس وطير وقمر وبحر، يصير عدواناً على اللغة ذاتها وتفتيتاً لرموزها: «كعمود من نار/ تضيئين أمام سفن ضاعت في البحر/ كصرخة/ تذكّرين الجبال/ بأنها نسيَت أن تكون جبالاً/ لا يكلّمك أحد/ وأنت لا تتكلّمين/ تكتفين بعينيك الناظرتين كملاك/ وتلتئمين برموزك/ كأنك حديقة/ تنوب عنها العطور والحساسين/ زهرة ترجّف الهواء/ في مثل هذا الوقت/ زهرة كنجمة هالكة في سماء/ ها هي شمسك تتهاوى/على سطح غيمة/ ها هو قمرك/ يخجل من كونه قمراً/ لأنه يجهل معنى البكاء/ يضنيك أنك لا تعثرين على نبع لتشربي/ يضني النبع أنه لا يعثر على شفتيك ليلثمك». لكن الشاعر يختم حركته الثانية برمزية الزيتونة وما تكتنزه في الآية القرآنية (شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ )، بيروت نور النور في اللغة والإيمان والحب، ينبثق من قلب الألم، من حجر يربض على دمعة: «ثوبك مؤلم/ كسروةٍ/ ترتجف في الحرّ/ إذا كنت تنصتين إلى أغنية/ فاعرفي أنّ ما من أحد/ يزيح حجَراً عن دمعة/ لتفرّ من وحشتها/ كزيتونة/ يرشح زيتها/ لترشدي أيقونة إلى صلاتها». في الحركة الثالثة بعنوان «أسرار»، لا يبدو الموتى في انفجار بيروت مثل موتى إليوت، الذين وصفهم الشاعر برنار نويل بأنّ لهم «أصواتاً تتكلم متقاطعة، لكن تبدو هذي الأصوات زائدة عن نفسها كأصوات أولئك الذين غرقوا في الوقت المناسب. إنهم لا يسجلون الوجود بل حفيف المحو. هم يتحدثون إلينا عن مكان داخل كل حطام السفن، مكان ربما يكون عكس اللغة، وهو عكس لا تكتمل اللغة بدونه، تماماً كما يوجد الكلام فقط مع الصمت: قتلى بيروت «قتَلتُهم لن يبصروا نوراً/ لن يعثروا على فجر»، وفجرهم «لا يستأذن أحداً ولا يطلب السماح من إله/ فكيف من حاكم أو طاغية». إنهم موتى لم يغرقوا «في الوقت المناسب»، بل هم كما يقول العويط «البحارة الذين ضاعوا في البحر، ستعثر عليهم زوارقهم/ستعيدهم بثيابهم مبتلة في الشمس». بعد حركة رابعة بعنوان «دمع وصريف أسنان»، يذكّر فيها الشاعر بتأرجح الإنسان بين قوتين: «الشر الذي لا مفر منه لأنه شر ويستمر» والتعقل الذي غالباً ما يفوت أوانه و«يكون بكاء وصريف أسنان حيث لا ينفع دمع ولا صريف أسنان»، ينهي الشاعر العويط كتابه الثاني عن الانفجار بعد كتابه الأول (الرابع من آب٢٠٢٠، دار شرق الكتاب، ٢٠٢١) بحركة أخيرة «أقسى الشهور عوداً على بدء، «فكما بدأتُ بالنفي، أنهي بالنفي. نيسان ليس أقسى الشهور ولندن ليست بيروت. شرّ الملكات والملوك ليس كشرّ الوحوش إذا تلثّموا وتربّعوا. ما أهون الشرّ الأول هناك أمام بشاعة الشر الثاني هنا. الشعر ليس يقيناً، إنه احتمال. الموت هو اليقين، لكنه ليس الوحيد. آب هو أقسى الشهور». هو نفي تصنع بيروت لنفسها فيه على لسان الشاعر استثناء وحيداً: «وبيروت التي لم تعُد هي إياها، ستعود إياها حتى الشروق، وهي لا تريد يا إليوت أن تموت».