خرَّب جهاز الإنذار، ودخل من نافذة المطبخ. رجلٌ من الإسكيمو، يرتدي بزّة من فرو الدببة البيضاء، ويحمل زجاجةً حارقة. قال إنه يحتاج إلى مساعدتي ليعود إلى مخيّمه، وأنه لا يعرف كيف جاء إلى هنا. طلبت منه أن يهدأ قليلاً، أشرت إليه بالجلوس على الأريكة. قال إنه يبدو كحيوانٍ وقع في الشّرك. رفعت إبريق القهوة، وصببت له فنجاناً. كان يرتجف، وكنت أرتجف. كنت أعرف أن شيئاً غريباً قد حدث. الرجل غائر العينين، ربّما في الخمسين من عمره، له نظرةٌ تقطع كالسّكين، وفي يده اليمنى المرتجفة زجاجة حارقة.
كوليتُّو: الإسكيمو الصغير (مواد مختلفة على قماش، 2020).

وضع الزجاجة على الطاولة وأخذ الفنجان وهو مطرِق. لم أرفع بصري عنه. خلع برنيطته ببطء ووضعها على يمينه، وقال: «أريد العودة. تركت زوجتي وابنتي في الإيغلو منذ يومين دون زاد. خرجت لأصطاد السمك. لكني لا أعرف كيف تبدّد كل شيء، ولماذا أنا هنا. كل ما أذكره هو تصاعد دخانٍ أبيض كثيف من حولي، ثم لا شيء. أشعر بأني مشوّهٌ وغريب. قالوا لي إنّك الوحيد القادر على مساعدتي. رجاءً، أريد العودة إلى الثلج.»
أعطيته سيجارة «فافوريت»، أمسكها وتركها تسقط على نحوٍ مفاجئ، كأنّ يده ليست يده. اقتربت منه وساعدته على الوقوف، ومضيت به إلى غرفة النوم. كانت رائحته مثل رائحة الجلد المسلوخ، وكان عليَّ أن أقنعه بالاسترخاء على السرير ريثما يسترجع أنفاسه. فكّرت أن هذا الرجل لا يتحاذق على الإطلاق، وأنّه ربما هارب من «الترانت سيس». ما الذي سيأتي برجلٍ من الإسكيمو إلى مدينة الدار البيضاء؟ لا بدّ أن رجال الإسكيمو يتغطون الآن بلحوم زوجاتهم السمينات ويمضغون السمك المجفف والنقانق بالتذاذ.
هل هذا الرجل النائم في غرفتي حقيقي؟ سمعته يشخر كمحرك دراجة نارية من النوع الخفيف. قررت أن أخرج وأعود بسرعة. ربما يتعين علي أن أضع خطة طوارئ. لا بد أن هذا الرجل خرج من رأسي. لم يحدث أن فكرتُ في رجلٍ بارد. ثم ما سبب ارتعاش الأضواء في المنزل؟ أنا ابن رجلٍ من الشمس، وليس بمقدوري أن أتخيّل أنّ رجلاً من الإسكيمو يخرج من جوفي الحارّ. يساورني الشك في هذا الطراز من الرجال؟ ربما خرج من كتاب «الجحيم الأبيض» لجوليا هاريس، أو «نداء الثعلب الأبيض» لويليس لاندكيست أو «العائلة غلاغلا» لصوفي سوشارد وفرانسوا دولاكور. ماذا كان يفعل بالزجاجة الحارقة؟ هل ألحق الأذى بأحد؟ الإسكيمو صيادون مهرة ولطفاء، ينبهرون بفراء الثعالب والدببة القطبية وفيلة البحر وحيوان الرنة. وزيوت الحيتان يغمرون بها أجسادهم لتلمع وتتحمل حروق البرد، ولا يتوهون عن مخيماتهم بآلاف الكيلومترات كما فعل هذا الرجل ذو الشعر الأسود النائم في غرفتي. من الواضح أنه يخفي شيئاً، ومن الواضح أن ما من أحد رآه غيري. انتعلت حذائي وخرجت. انتصبت الأشجار على طول الشارع، وكان الناس كالقرود يقفزون من رصيف إلى آخر. يضحكون ويصفرون، ويغرقون في كل خطوة. وجدت الأمر مسلياً، فبدأت القفز. قفزت لمدة نصف ساعة، لكن رجل الإسكيمو اتّقد في رأسي حارقاً وكثيفاً، كأنني ممتلئ بِلُعاب الشيطان. ما كان ينبغي أن أسمح له بالبقاء؟ ربّما لو قاومته لكان رماني بالزجاجة الحارقة، ولكان البيت قد احترق الآن عن آخره. استدرت عازماً على استدراجه إلى الخارج. ولن يستغرق ذلك مني وقتاً طويلاً. يقول إنه من جزر بحر بيرنج التي لم يسبق لي أن سمعت بها، وأنه كان يمتطي زلّاجةً تجرّها كلابٌ بيضاء حين ارتفع الدخان ووصل إلى هذا المكان.
أدرت مفتاح الباب وأصخت السمع. لا بد أنه ما زال نائماً. سأنتظر ريثما يستيقظ. انتبهت إلى أن زجاج النوافذ مضبب باللون الأزرق القاتم، وأنني انخسفت بشكل كلي ومفاجئ. وجدت نفسي في قبو تتطاير رغوة بيضاء من أركانه، وصوت ياسمين ليفي يطفو كقطعة مرجان نادر على المسافة الفاصلة ما بين مغطس الحمام وغرفة النوم التي كان بابها مفتوحاً على مصراعيه. لا أحد في الحمام، ولا أحد في الغرفة، ولا أحد في المطبخ. مجرد بقعة دم داكنة متيبسة على الأرض وبرنيطة فرو ملقاة على الأريكة.
لا أعرف لماذا تذكرت دون فيناثيو في «أفواه الزمن» وأنا أسترجع ملامح رجل الإسكيمو الذي اختفى. لماذا اختفت الأفعى؟ من أخفاها؟ إدواردو غاليانو؟ الثعبان؟ الغريزة؟... وهل ستعثر الأفعى على رجل الإسكيمو لتعيده إلى الإيغلو؟ أعترف. إنني حذرٌ للغاية، ولكن أؤمن باستحالة أن تلد الشمس رجلاً من ثلج.

(*) من مجموعة قصصية، صدرت حديثاً، بعنوان «قبو إدغار ألان بو»، عن «مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر»، القاهرة.
(**): الدار البيضاء/ المغرب