«تركت البلاد أحمل معي ذاكرة ربع قرن. هي ثلث العمر الأهم وسنون التكوين». منذ بداية التسعينات، يقيم الشاعر والروائي والمترجم سنان أنطون (1967 ـــ مواليد بغداد)، في الولايات المتحدة. لكنّ العراق بأساطيره وموروثه وامتداده الحضاري ومآسيه والحروب عليه وفيه، وشخصياته وتفاصيله الصغيرة والكبيرة سكنت أعمال صاحب «إعجام» و«يا مريم»، فيما عمل أستاذ الأدب المقارن في «جامعة بغداد» و«جامعة هارفارد» و«جورجتاون» على ترجمة مجموعة من الشعراء العراقيين مثل سركون بولص، وبدر شاكر السياب، وسعدي يوسف إلى الانكليزية. روائي الآلام والأوجاع والتغريبة العراقية يمتزج السياسي والثقافي والأدبي خلال الحوار معه. حديث عن المثقف شاهداً وضمير مجتمعه، والعراق ماضياً وراهناً، والتجريب والرواية والشعر، ومشروعه الجديد الذي يصدر في نهاية هذا الصيفأجرى الحوار الشاعر والناشر العراقي المقيم في الكويت محمد ماجد العتابي

صراعاتٌ ونزاعات عدّة، سياسية، اقتصادية وحتى اجتماعية تشهدها منطقتنا العربية. وهنا تبرز في الساحة الثقافية إشكاليّة قديمة/ جديدة ـــ إن صحّ التعبير ــــ تتعلّق بدور المثقّف تجاه قضايا مجتمعه، وينقسم المثقفون بين معسكرَي «الكتابة من أجل الجمال» أو «الكتابة من أجل موقفٍ ورسالة». أيّ دور تراه للمثقّف هذه الأيام؟ وهل هنالك نكوص في الحالة الثقافية تجاه تفاعلها مع محيطها العام؟
ـــــ إنها، كما ذكرت، إشكاليّة قديمة، وهي حاضرة في كلّ مكانٍ في عالمنا. فهناك دائماً سلطة وعلاقات قوة، غير متكافئة، وتراتبيّة ما. وهناك نخبةٌ سياسيّة اقتصادية تفرض سلطتها على المجتمع بطرقٍ مختلفة. وتلعب المنظومة الثقافية الواسعة دوراً أساسيّاً في ترسيخ السّلطة وخطابها ورؤيتها وشرعنة روايتها للتاريخ والحاضر. النص، والعمل الفني، والمقولة، كلّها تنبع من رؤيةٍ محدّدة وتمثّل، في نهاية الأمر، موقفاً ما من المحيط الاجتماعي السياسي ومن علاقات القوة السائدة فيه. وبالتالي تشكّل خطاباً قد يُهادِن، أو يشكِّك ويواجه. خيار الكتابة عن الجمال ومن أجله مفهوم والجمال حاجة إنسانية. لكنّ الفصل بين الجماليّات وبين هموم ومحن الإنسان هو موقفٌ له تبعات سياسيّةٌ وأخلاقية. ليس من الضروري أن يضحّي الإبداع «من أجل موقفٍ ورسالة» بالجمال أو يساوم على شروطه ومقاييسه. تحضرني مقولةٌ للفنان فرانسيس بيكون في آخر حوار له قبل موته قال فيها إنّه عاش القرن العشرين بكلّ فظاعاته ومآسيه ومذابحه ويريدون منه أن يرسم باقات زهور ورديّة، هناك من يشكّك ويشاكس ويقول لا، وينتهي به الأمر في السجن أو في المنفى.

«أكتب حتى لا ننسى العراق»، قلتها في أحد لقاءاتك، هل هذا هو السبب والدافع وراء أنّ رواياتك كلّها تتمحور حول العراق والتحولات التي عاشها في مختلف المجالات، أي هل تمارس الكتابة حفاظاً على الذاكرة؟
ـــ ولدت في العراق وعشت السبعينيات والثمانينيات فيه. وشهدت ترسيخ الدكتاتورية الشرسة والحرب الضروس مع إيران (1980-1988) وآثارها وتبعاتها على المجتمع وغزو الكويت، ثم حرب 1999 والقصف الذي دمّر البُنى التحتية. تركت البلاد بعدها أحمل معي ذاكرة ربع قرن. هي ثلث العمر الأهم وسنون التكوين. هناك دائماً عمليّة محوٍ وتحويرٍ وتنظيم تمارسها السلطة للسيطرة على الذاكرة الجمعيّة وعلى رواية التاريخ. حدث هذا في زمن الدكتاتورية في العراق الذي سيطرت فيه الدولة على كلّ المؤسسات والفضاءات الثقافية وطُوّع الإنتاج الثقافي للمجهود الحربي ولتعظيم القائد. لم أنشر نصاً واحداً داخل العراق آنذاك رغم رغبتي الشديدة في أن تُقرأ نصوصي. لكنّي لم أكن مستعداً للاشتراك في «المهرجان» وبقيت خارج البرنامج. جُنّدت مئات النصوص لإنتاج الخطاب الرسمي والرواية الرسمية التي زيّفت تاريخ البلاد والناس ومعاناتهم. وهناك محوٌ جديد، لا يقلّ خطورة، بدأ بعد الغزو والاحتلال عام 2003، حيث يفرض النظام الجديد، عبر مؤسّساته، روايته التاريخية التي تمحو وتمسخ كما تشاء. الكتابة هي، في أحد وجوهها، نقيض المحو، ويمكن أن تكون حراسةً لذاكرةٍ ما، فرديةٍ وجمعيّة، من النسيان والمحو. هناك أكثر من عراق يجب أن نتذكّره ونتخيّله.
الفصل بين الجماليّات وهموم الإنسان هو موقف له تبعات سياسية وأخلاقية


في «فهرس» (منشورات الجمل ـــ 2016)، هنالك مستوى مختلف من التجريب، هل تعتقد بأن التجريب بحدّ ذاته كسرٌ للنمط السائد، أم أنّ النص هو الذي يفرض التجريب من عدمه؟
ـــ التجريب غوايةٌ ورغبةٌ مفهومة من أجل البحث عن أشكال وبُنى مختلفة. لكنّي، شخصياً، لا أحبّذ التجريب كغايةٍ بحد ذاته، من دون أن يكون مرتبطاً بشكل عضوي وجدلي بالنص وبعالمه. ودعني أضيف البُعد الآخر في التجريب الذي يهمّني وهو محاولة كتابة نصٍ يستثمر التراث السردي العربي الغنيّ، بدلاً من استنساخ السائد والرائج عالمياً. وهذا ما حاولت أن أفعله في الروايتين الأكثر تجريبيّة من بين أعمالي. في «إعجام» (2003) كانت الثيمة الرئيسيّة هي الكتابة ضد السلطة التي تقمع وتحتكر المعنى وتفسيره. يحاول سجينٌ أن يحافظ على ذاكرته في الزنزانة، فيراوغ الرّقيب والرّقابة ويتلاعب بالمعاني ويسخر منها. وهكذا كانت فكرة كتابة مخطوطةٍ بدون نقاط يُعثر عليها في ما بعد. وبوضعها النقاط على الحروف في ما بعد تُدين السلطة نفسها. أمّا في «فهرس»، فواحد من الهواجس الرئيسية هو البحث عن الشكل أو الإطار الأنسب لكتابة تاريخ آخر من منظار الأشياء والضحايا وإنقاذ التاريخ من غياهب المحو. وهناك تساؤلاتٌ عن معاني البدايات والنهايات وعلاقة الإنسان بأرشيف من الخسران الذاتي والجّمعي. مناخ الرواية يتطلّب بُنيةً مختلفة وقد استفدت فيها من مدوّنة التراث السردي العربي.

لسنان أنطون علاقة شعرية غير اعتيادية مع الشاعر العراقي الكبير الراحل سركون بولص، ما التّجربة التي حملها لنا سركون؟ وأيّ أثرٍ تركه في سنان الشاعر والإنسان؟
ــــ سركون ظاهرة فريدة في الشعر العربي الحديث. لا في منجزه الشعري المتميّز فحسب، بل في سيرته العجيبة وهجراته وفي إخلاصه للشعر وإيمانه به. الشعر غاية، لا وسيلة لأي شيء سواه. عالمه الشعري مدهش وآسر، تجد فيه ثمار البحث المُضني عن إيقاعٍ مختلف ولغة صافية. أتعلّم منه كثيراً كلما أعدت قراءته وكلّما ترجمته. وأعدّ حالياً دراسةً عنه بالانكليزية مع مختارات من أشعاره. حين أقرأ سركون بولص يُخيّل إليّ أحياناً أنّني على قاربٍ سومري، في نهر سحري. تنبع روافده الأولى من الأساطير الرافدينيّة، يجري في أرض الشعر الواسعة وعبر أزمنته ولغاته، تلتقي فيه أمواه العالم ويجلس على ضفّتيه شعراء يهمسون بكلّ اللغات، تترجمها أمواج النّهر إلى العربيّة. يُبهرني حواره الشعري مع التراث الرافديني ومع الشعر العربي القديم وعلاقته باللغة العربية التي قال عنها «الحبل السُرّي الذي يربطني بشعبي وتاريخي والوطن الحقيقي الوحيد الذي أملكه». وهذا يأخذنا إلى القصائد التي كتبها سركون في العقدين الأخيرين من حياته عن العراق ومآلاته وأوجاعه، من منفاه في الولايات المتحدة. والتي بلورت كل شيء. تهزّني هذه القصائد كلما قرأتها أو سمعتها. وهي موجودة بصوته على الساوندكلاود واليوتيوب. اذهبوا واستمعوا إلى «جئت إليك من هناك» أو «بورتريه للشخص العراقي في آخر الزمن.»

دائماً ما تصرّح بأنّ جميع أعمالك على مسافةٍ واحدة منك، ولكن ما تفسيرك لتفاعل الناس مع «وحدها شجرة الرّمان» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــــ 2010.) بشكلٍ مختلف ومفارق أحياناً؟ هل مردّ ذلك ربّما لشخصيّة جواد «جودي»؟
ــــ ذكرّني سؤالك بمقولة لميلان كونديرا عن أنّ الرواية ليست إلّا شركاً لاصطياد البطل. ولعلّ الرواية تصطاد القرّاء أيضاً. أنا متحيّز جداً بالطّبع وأحبّ جودي وافتقدته كثيراً بعدما أنهيت كتابة الرواية. ولشدّة اشتياقي له ولعالم الرواية، ترجمتها بنفسي إلى الانكليزية كي أظلّ في عالمها. تختلف أسباب حدّة التفاعل، الذي يُفرحني بالطّبع، باختلاف القرّاء وما يحملونه إلى النص. لكنّ هناك ثيماتٌ وأسئلة واستعارات، تتقاطع وتصبّ في عالم متكامل يغري القارئ بالتماهي معه. فصراع الإنسان مع حتميّة الموت والفناء، وبحثه عن الجمال والإبداع ليكونا جناحَين يسمو بهما ويحلّق عالياً، هي ثيمة قديمة، نجد جذورها في الأدب الرافديني. ونجد أصداءها وتنويعات على تساؤلاتها في كل العصور، وصولاً إلى الأدب الحديث. الرواية الدينيّة للكون تقدّم أجوبةً شافية لمن يؤمن بها، وتنظّم الطقوس والشعائر المرتبطة بها إيقاع الوجود وتُضفي عليه معنى متماسكاً يدرأ عنه العبث والشّك. لكن ماذا عن جواد وأمثاله ممن تسكنهم رغبة في التمرّد والتحرّر من القيود الاجتماعية ومن الأبويّة، لكنّهم يصطدمون بواقعٍ خانق، اقتصادياً واجتماعياً وسياسيّاً، ويُصدر عليهم التاريخ أحكامه الجائرة ويُصادر أحلامهم ومستقبلهم؟ لعلّ هذا بعض ما يُغري بتقمّص شخصيّة جواد، أثناء القراءة.

سركون ظاهرة فريدة في الشعر العربي الحديث. لا في منجزه المتميّز فحسب، بل في سيرته العجيبة وهجراته وفي إخلاصه للشعر وإيمانه به


ما أثر الدّراسة الأكاديميّة والتدريس على المُبدع؟ بعضهم يرى أن النهج الأكاديمي قد يؤثّر في المبدع لوجود ضوابط وقيود متعدّدة في المجال؟ كيف ترى تجربتك من خلال هذا المنظور؟
ـــ في الماضي، كنت أشعر بمرارةٍ لأنّ الدراسة الأكاديميّة ومتطلباتها أخذت منّي سنواتٍ طويلة لم أتمكّن أثناءها من العثور على أي فسحة للكتابة. فتأجلّت مشاريعي الأدبيّة وبقيت خارج الساحة الأدبية العربية. كما أن الخطاب والمناخ الأكاديمي عموماً قد يخنق الحسّ الإبداعي. وبعد إنهاء الدراسة وكتابة الأطروحة، جاءت متطلبات التثبيت الأكاديمي من حيث واجبات التدريس ونشر كتابٍ أكاديمي ودراسات في مجلاّت محكّمة وغيرها لتفرض ضرائبها. لكنّي تمرّست أيضاً في اقتناص الوقت واستغلال الفرص التي تسنح للتعويض عمّا فاتني وللكتابة. وأدرك الآن، بعدما تخلّصت من تلك المرارة وتصالحت مع ماضيّ الأكاديمي، أن تلك السنين أعطتني خزيناً معرفياً وأفادتني كقارئ. وهذا القارئ ما زال يغني الكاتب. كما أذكّر نفسي بأني لجأت إلى الحقل الأكاديمي، مع كلّ إشكاليّاته، لكي لا أضطر، ولأني لا أصلح أصلاً، للعمل في أي مجال آخر قيوده أقسى ونظامه أكثر صرامة.

ما تقييمك للساحة الثقافية في العراق؟ هل تجد أنها متجهة لمزيد من التحرّر من القيود؟ أم أنّ هنالك إعادة إنتاج لإشكاليّة علاقة المثقّف بالسّلطة؟
- هناك قيودٌ جديدة وهناك كواتم تغتال المثقّفين والصّحافيين والناشطين الذين يتجاوزون الخطوط الحمر ويجاهرون بالنقد ويواجهون نظام الميليشيات والفساد الممنهج. وهناك، بلا شك، إعادة إنتاج لعلاقة المثقف بالسلطة التي كانت سائدة في الماضي. ولكن، بدلاً من دولة الحزب الواحد والقائد الضرورة ووزارة الثقافة التي كانت تنظّم عملية تدجين المثقفين وتوظيفهم، لدينا أحزاب وميليشيات وتكتّلات وقادة، وكلٌّ لديه طاقمٌ من المثقّفين والأبواق ومؤسسات إعلاميّة تبثّ خطابها اللاوطني. والكثير من هؤلاء لديهم سجلٌّ مخزٍ من الدور الذي لعبوه سابقاً في زمن البعث، لكنّهم استبدلوا الأقنعة والمفردات والمرجعيّات. وهناك من يراكمون سجلّاً جديداً بعملهم مستشارين لدى هذا السياسي أو ذاك، سرّاً وعلانية.

ألا ترَ أن السّاحة الثقافية العراقيّة يصعب معها إفراز الصوت العالي؟ هل للغة الكواتم دورٌ في هذا؟ أم غياب دور المؤسسة الثقافية؟ أم حالة الارتباك التي تعانيها الساحة الثقافية؟
- العراق، للأسف، بلدٌ عانى من خراب الدكتاتورية والحروب والحصار الاقتصادي القاتل، وكل هذه أضعفت المجتمع واستنزفته. وفي عام 2003، قام نظامٌ جديد على أنقاض دولة. وما ينتجه هذا النظام ويشيعه في كافة الحقول هو الخراب والفساد والرّثاثة. نظامٌ لم يبنِ شيئاً، بل تخصّص في تفكيك وتخريب ما كان يعمل. والساحة الثّقافية عموماً، ليست بمعزل عن الفساد والرّثاثة والخراب. والأمثلة في كل مكان. هناك، بالطبع، أصوات شجاعة ومستقلّة وهناك حالاتٌ فرديّة تسير عكس التيّار. وهناك جيل جديد يحاول النهوض والإبداع واستعادة معنى العراق، لكنّ معركته شرِسة وطويلة.

كيف ترى دور الصحافة الثقافية في العراق والعالم العربي؟ هل تلمح عودة للحراك الثقافي الذي كان ناشطاً حتى نهاية التسعينيات وبدأ بالأفول مع بداية الألفية؟
- هناك أزمةٌ عالميّة تعصف بالصحافة الثقافية (الورقية) بسبب التغيّرات التكنولوجية وتسيّد الفضاء الإلكتروني. فقد ألغت الكثير من كُبريات الصحف ملاحقها الثقافية الأسبوعية أو قلّصتها. وقد رأينا تأثير هذه الأزمة وتمظهراتها بوضوح في العالم العربي أيضاً. في العراق، وضع الصحافة الثقافية عموماً بائس للأسباب التي ذكرتها في جوابي على سؤال آخر أعلاه. في الساحة العربيّة عموماً، هناك مواقع و «جزر» هنا وهناك تنشر بعض المواد القيّمة، لكنّ هناك فوضى هائلة أيضاً. وعلى المرء أن يبحث كثيراً في الأكوام كي يجد ما يغني. لست متفائلاً.

سمعنا بأن هنالك رواية جديدة لك في مراحلها الأخيرة؟ ما ثيمتها الأساسية ومتى تتوقّع أن تكون متوفّرة بين يدي القرّاء؟
- الثيمةُ الأساسية هي محنة اللجوء وتقاطعات الذاكرة وتناقضاتها في تجربة لاجئَيْن عراقيّيْن من جيلَين وطبقتين مختلفتين في الولايات المتحدة. أتمنى أن تصل إلى القرّاء نهاية هذا الصيف.