في ما مضى، طغت نظرة دونية إلى الأدب تَسْتَتْبِعه للواقع، للسياسة، للأيديولوجيا، جاعلة منه مجرد بوق، ناطقاً رسمياً/ جمالياً، كاتباً عمومياً، فاستحوذت على نظرية الأدب مقولات تأثير الواقع في النص، انعكاس الراهن في القصيدة، السرد كمرآة للمجتمع. ولكن، تبين في التنظيرات الجديدة التي طُرحت عنها آليات التحليل الميكانيكي العقيم، أنّ للأدب طاقات أكبر مما يبدو على السطح، من استشراف وتنبؤ وشحنة احتجاجية كثيراً ما تتفوّق، فعاليةً وصموداً أمام الزوال، على الخطاب السياسي. ملفنا هذا الأسبوع عن الأدب الأفغاني، الذي حتمت إنجازَه التطورات الدراماتيكية التي شهدتها آسيا الوسطى في الأسبوعين الماضيين، وخصوصاً الهضبة الأفغانية، ذات التنوّع الديموغرافي والثقافي اللذين شوهتهما وكبحتهما موجات استقطاب تيارات «السلفية الجهادية» خلال الحقبة السوفيتية، وربقة الكولونيالية الغربية في السنوات العشرين الماضية... وعليه، أعطينا الصوت لأولى ضحايا الحروب الاستعمارية وقوى الإسلام السياسي، المتزمّت عقائدياً والمتلبرل سياسياً: النساء بقهرهن، والأطفال بالزج بهم في أتون حمل السلاح. كما هو الأمر في الواقعية السحرية لأميركا اللاتينية، التي انبثقت مع موجة صراع حركات التحرر المحلية مع وكلاء أميركا ومخابراتها، في الأدب الأفغاني الحديث نبرة عالية من التوق للتحرر، وبوح برغبات الجسد واستيهاماته الأيروتيكية، بخروج وجنوح كبيرين عما رسمته تشوهات الكولونيالية وتحريمات الطالبان. اقرأوا واستحضروا سياقاً اجتماعياً/ سياسياً لم يكن ليسمح بذلك، فـ «القصيدة سيف»
ترجمة وتقديم رشيد وحتي

I. مفاتيح للقراءة
الپَشتو من لغات الفرع الهندوإيراني، ضمن مجموعة اللغات الهندوأوروبية. ينطق بها سكان الجنوب والجنوب الشرقي من أفغانستان (حيث تُعتبَر لغةً رسمية، إلى جانب اللغة الدَّارِيَّة، في الإدارة كما في الشأن الديبلوماسي) وشمال باكستان. ويصل التِّعداد الإجمالي للناطقين بها إلى 45 مليون شخص. تُكتَبُ هذه اللغة بالأبجدية العربية المُعَدَّلة والمطوَّرة، وتتفرع إلى لهجتين رئيستين: قندهارية وپيشاوارية. كعِرقٍ، ينتشر الپَشتون في إيران وكشمير وطاجيكستان.
■ ■ ■

تستند حركة «طالبان» إلى العقيدة المَاتُريدِيَّةُ، الجامعة بين التصوف السني والمذهب الحنفي، ما يجعلها في تضادّ مع الحنبلية وفرعها الوهابي الذي يكفِّرُها، رغم أن آل سعود وتنظيم «القاعدة» تقاطعت معهما أيام الصراع مع السوفييت. تمسّكها المحلي بهويتها الوطنية والقومية يفتح لها نوافذ كثيرة للتواصل مع الهزارة (الشيعة الأفغان) والطادجيك الأفغان، وربط أواصر بعيدة عن العداء مع إيران وروسيا والصين.
■ ■ ■

اللَّانْدَايْ شكلٌ شعري شفوي أفغاني يتكون من بَيْتَيْنِ في 9 و13 مقطعاً صوتياً، وغالبا ما يُغَنَّى بصوت مرتفع، ويشاع أن البدو الرُّحَل الهنود هم من أدخله إلى أفغانستان. وتعني هذه الكلمة بالپشتونية: أفعى صغيرة سامة؛ ربما بسبب السخرية والنقد وشحنة الاحتجاج الاجتماعي التي يحويها هذا النوع الشعري. قد يكون اللانداي معزولاً بيتين بيتين؛ وقد يكون، كالغزلية الفارسية، مجموعة أبيات ــــ في قصيدة طويلة ــــ منفصلة نحوياً، متّصلة من حيث وحدة الموضوعة.
بعدسة الفوتوغرافي الأميركي بيت سوزا التقطها جميعاً، في أفغانستان عام 2011

II. مداخل
القصيدة سيفٌ (سهيرة شريف: رئيسة الدائرة الشعرية لنساء كابول).
■ ■ ■

اللانداي وقفٌ على النساء. الشعر هو الحركة الحميمية للنساء. (صفية صدِّيقي: شاعرة بشتونية وبرلمانية سابقة).
■ ■ ■

تَعَلَّمنا كنساء خلال العشرين سنةً الماضية، كيف نَشربُ كالغزلان مِنْ بِرْكَةٍ مليئة بالتماسيح. (ويدا ساغري، ناشطة حقوقية نسائية أفغانية).

III. منتخبات شعرية
في معركة مايواند، سنة 1880، عندما انهزمت القوات الأفغانية ضد الإنكليز، يحكى أنّ إحدى البطلات البشتونيات، وكان اسمها مالالايْ، تناولت اللواء الأفغاني من جندي سقط صريعاً، وصرخت بهذا اللانداي:
— أيْ حبيبي، أيْ فتى، إذا لم تستشهد في معركة مايواند، ستبقى، وحق الإله، رمزاً للعار.
■ ■ ■

بِعْتَني، أبتي، لرجل عجوز؛ خرَّبَ الله بيتك، فقد كنتُ ابنتك. (آخر لانداي قرأته زارمينا على أمواج الإذاعة، قبل أن تنتحر).
■ ■ ■

ستكون ذكراها زهرة مُثَبَّتَةً على عِمامة الأدب. كل شقيقة تبكيها في عزلتها. (في رثاء زارمينا).
■ ■ ■

الحوشُ معتم، ليلاً؛ والأَسِرَّة كثيرة جداً. جَلْجَلَة دماليجي، أي حبيبي، سترشدك إلى طريقي.
■ ■ ■

سرّاً أحترق؛ سراً أبكي؛ أنا الپشتونية التي لا تجرؤ على البوح بحبها.
■ ■ ■

تعالَ، حبيبي، قُربيَ، اجلس للحظة؛ فالحياة شَفَقُ مساء شتوي يمضي سريعاً.
■ ■ ■

اليوم، خلال المعركة، أدار حبيبي ظَهره للعدو؛ أحسست بِمهانةِ أنِّي قَبَّلْتُهُ أمسِ مساءً.
■ ■ ■

إذا كنتَ، أيْ حبيبي، ترتجف بين ذراعَيَّ كثيراً؛ فكيف ستفعل عندما تَنْقَدِحُ من صليل السيوف أَلْفُ وَمْضَة؟
■ ■ ■

كجُلجُلة، بكل حِلْيَتِي، سَأَرِنُّ بين ذراعيه حتى أعماقِ الليل.
■ ■ ■

أيها الفراق، أَبْتَهِلُ للإله كي تموت فتياً؛ فأنت مَنْ أضرم النار في بيت العشاق.
■ ■ ■

لتسقط طائرتك، وليمت الربان؛ بسبب القنابل التي تُغيرون بها على أفغانستاني الحبيبة.
■ ■ ■

أنت لا تسمح لي بالذهاب إلى المدرسة، وبالتالي لن أصير طبيبة. تذكر هذا: ستقع ذات يوم مريضاً.
■ ■ ■

العشب ينمو فوق قبر الرجل الأعمى؛ يزعم الطالبان البلداء أنه بَعْدُ حَيٌّ. (في ذم الملا عمر).
■ ■ ■

ضحى حبيبي برأسه من أجل وطننا؛ بِشَعَري سأخيط كفنه.
■ ■ ■

لوعاتي تنمو وحياتي تتضاءل؛ سأموت والقلب مترع بالآمال.
■ ■ ■

جسدي ورقةُ حِنَّاء: أخضر من الداخل، بحمرة اللحم من الخارج.
■ ■ ■

ممارسة الحب مع رجل عجوز: كأنك تنيك مع ساق ذُرة مُتَرَهِّل، سوَّدَته العفونة.
■ ■ ■

هنا، يقاتلون الطالبان؛ وهناك، في السفوح الأُخرى من الجبال، يدربونهم.
■ ■ ■

أصرخُ، ولكنك لا تسمعني؛ ستبحث عني، ذات يوم، ولن أكون من هذا العالَم.
■ ■ ■

أنا كتوليبة في الصحراء. أموت قبل أن أتفتح، وتُبَدِّدُ سَمومُ الصحراءِ بَتَلَاتِي.
■ ■ ■

أنا، في حُلمي، رئيس الدولة؛ وفي يقظتي، شحاذة العالَم.
■ ■ ■

أَوْلِجْ يدك داخل رافعة نهديَّ؛ داعِبْ تفاحةً رمانةً من قندهار.
■ ■ ■

عانِقني في لألأة القمر الساطعة؛ ففي عاداتِنا، أن نَأْتِيَ الفمَ في جلاء النور.
■ ■ ■

اقفز، أيْ حبيبي، فوق فراشي، ولا تَخَفْ شيئاً؛ وحتى إذا تَهَشَّمَ، فإن الصغيرَ البشعَ [كناية عن الزوج في شعر الپشتونيات] هنا ليُصْلِحَه.
■ ■ ■

كشمعة، احترقتُ، بعيداً عن حبيبي، طوال الليل.
■ ■ ■

تعالَ سريعاً، أي حبيبي، لأعطيكَ فمي؛ فقد رأيتُكَ، في حلمي، الليلةَ، ميتاً، فَجُنِنْتُ.
■ ■ ■

أَسَرَّ لي قلبي: ــــ لا ذنبَ لي في هذا؛ فعينايَ، وهما تنظران، هما ما جعلني أقع في الحب.
■ ■ ■

ثَمْلَانُ، لأني ابتسمتُ لك؛ ستصيرُ، إنْ منحتُكَ فمي، مجنوناً هائجاً.
■ ■ ■

جعلتُ من صدري سريراً، وحبيبي المُنْهَك يَقْفُو طريقاً طويلاً نحوي.
بعدسة الفوتوغرافي الأميركي بيت سوزا التقطها جميعاً، في أفغانستان عام 2011

■ ■ ■

يا للربيع، أشجار الرمان مزهِرةٌ؛ ومِنْ بستاني، سأحفظ لعشيقي البعيد رمَّانَتَيْ نهدَيَّ.
■ ■ ■

يا لِلقبرِ الخَرِبِ، يا لِلْآجُرَّاتِ المشتَّتة، ما عادَ حبيبي إلا رميماً؛ ورياح السهل تَنْثرُه بعيداً عني.
■ ■ ■

عُدْ لي، مُخْتَرَماً بطلقات بندقية غادرة؛ سأخيط جراحَك وأعطيكَ فمي.
■ ■ ■

هاتِ، أيْ حبيبي، يدَك؛ ولنَمْضِ في الحقولِ، لِنَتَعَشَّقَ بعضنا البعض، أو لنسقط معاً تحت ضربات الخناجر.
■ ■ ■

يا لهذا الديك اللعين وصياحه المعلِن عن الرحيل؛ وها حبيبي ينصرف كعصفور جريح.
■ ■ ■

اِطْبَعْ فمك على فمي، ولكن دع لساني طليقاً لأحدِّثَك عن الحب.
■ ■ ■

قطرات دماء الشهداء، على أرض الميلاد، توليباتٌ حمراء في ربيع الحرية.
■ ■ ■

تزيَّنتُ في ملابسي الرَّثَّة، كبستانٍ مُزهِر في قريةٍ خَرِبَةٍ.
■ ■ ■

تعالَ وكُنْ زهرةً على صدري؛ كي أستطيعَ، في كل صباح، إنعاشكَ بقهقهة.
■ ■ ■

أَيْ حبيبي، أي شمسي، استيقظْ على خط الأفق، وامحُ ليالي منفايَ؛ فعتمات وحدتي تغمرني من كل الجُنُباتِ.
■ ■ ■

أيُّهُما سأختارُ، أُحَيْبَابِي؟ فقد حَلَّ الحداد والمنفى معاً ببيتي.
■ ■ ■

إذا لم تُثْخِنِ الجراح صدرك، فلن أكترثَ لك؛ حتى لو اختُرِمَ ظهرُكَ كمِصفاة.
■ ■ ■

تعالَ، أي حبيبي، لأحضنك؛ فأنا اللَّبلابة الغضَّة التي سيعصف بها الخريفُ قريباً.
■ ■ ■

ها قد حَلَّ الليل، ولم تصلني بَعْدُ؛ أرديتي ملتهِبة وتحرقني بكاملي.
■ ■ ■

حبيبي ميَّال للعينين بلون اللازورد؛ ولا أعرف أين أستبدِلُ عينيَّ اللَّتين بلون الليل.
■ ■ ■

فلأكن لحبيبي، إنْ ماتَ، كفناً؛ هكذا سنتزوج الغبارَ معاً.
■ ■ ■

إِتَاوَتُكِ، أَيْ أرضُ، باهِظَة: تلتهمين الفتوة وتتركين الأَسِرَّةَ قفراءَ.
■ ■ ■

بيدي زهرةٌ تذبل؛ ولا أدري لمن أُنَاوِلُهَا على هذه الأرض الغريبة.
■ ■ ■

في كل مرحلة، في كل اتجاه، أحبك. رغم التقاليد القاتلة، أحبك. أنت ورِع، وقُبَلك صلوات. أنت مختلِف، قُبَلُك احتجاجُك. لستَ خائفاً من الحُب، ولا من الأمل، ولا من الغد. أُقَبِّلُكَ وسط الطالبان، ولا تَرتجِفُ. (رامين مَزهَر).

IV. المصادر
Sayd Bahodine Majrouh: Le suicide et le chant, poésie populaire des femmes pashtounes, adaptée et présentée par André Velter, éd. Gallimard, 1994.
James Darmesteter: Chants populaires des Afghans, Shams bookstore, 2002.
بعدسة الفوتوغرافي الأميركي بيت سوزا التقطها جميعاً، في أفغانستان عام 2011

قصة
الشتاء، البرد، الحرب
سِيمَا دَقُّوسْ رَسُولْ (*)
كانت المرأة تفرك يدَيْها الحَرِكتين، لكي تستطيعَ، فيما بعدُ، بِأنفاسِها، تدفئةَ جسد الرضيع الذي وُلِدَ تواً، رضيع أسمته شُجاعاً. هذا الاسم، شجاعٌ، وهبتهُ أمه إياه، لعله يهبُهُ، حسبَ آمالها، الحظَّ في حياة أحسن. وكانت تنظر، في الآن نفسه، إلى ثلاثة أطفال آخرين، خاوِيي البطون. أصغرهم، آريزو، كانت تتحرك برشاقة، مؤَدية رقصةً مبتكَرة، تعرفها هي وحدَها. كانت فريدة تدرك لماذا كثيراً ما تنتحر النساء في بلدها.
زوجٌ ماتَ في الحرب، ونسي الحُكَّام أن يؤدوا له أُجرته ونفقتها، قبل وبعد غيابه. مرةً أخرى، نحو أي جيب ذهبَ هذا المبلغ الزهيد؟ وهل يدُفَعُ للموتى شيء؟ في جميع الأحوال، لم يعد يُحصى عددهم، إذ يُسْتَحْسَنُ أن يكون حضورهم رمزياً. صارت المُتَاجَرَة مغروسة في قلب العالَم كشظية شنيعة. وكثيراً ما بقيت الجثث مُسَجَّاةً هنا، لعدم توفر وسائل النقل، ولا تُسَلَّمُ لذويها إلا بعدَ مُدَدٍ طويلة جداً، قد تصل إلى شهور، في حالةٍ لنا أن نَتَكَهَّنَهَا.
أما هي، فريدة، فكونُها امرأة في هذه الولاية يُعْتَبَرُ قَدَراً حيكَ بخيوط الذَّنْبِ. العمل ممنوع، لأنه يتطلب الخروجَ من البيت. بوسعي التنبؤ بأنكم تفكرون طبعاً في الحجاب، في الدين، إلى آخره، هنا.
لقد كان لسيدة البلاد الأولى مكتبٌ خاص ترعى فيه حقوق النساء. لم تكن تعرف الشيء الكثير عن البلد، لكنها كانت تُلقي خُطَباً مُسَكِّنَةً حول النساء ومكانتهن ودورهن في الأُسرة. ثقافتان ــــ حوارُ طُرْشَان ــــ فالسيدة الأولى لم تكن تعرف حقاً لا أهالي البلد، لا العادات والتقاليد، ولا حتى الأعراف اليومية. السياحة من الأولويات. علينا ألا ننسى أننا في سردٍ متخيَّلٍ.
سردٌ عنيف، ولكن ماذا بوسعنا أن نقول عن الواقع؟ هذا رهن بموقعنا في العالَم. في آسيا الوسطى، كان بلد فريدة يعرف تقاليدَ أرستها الظروف منذ أربعة عقود على الأقل. في الشتاء، كان الناس يموتون من البرد، خصوصاً الأطفال ذوي الأوضاع الأكثر هشاشة.
أما المتحاربون المُسْتَتِرُون، فكانوا يستريحون، ببطونهم السمينة، بفضل أشياءَ لذيذة، مَوَّنَهُمْ بها من يحملون عادةً قناعَ السلام. فلن يغامروا أبداً بمواجهة الثلج والبرد. ما جدوى ذلك؟ في الربيع، مع ذوبان الثلج وتجدّد الطبيعة، يكونون قد استعادوا قواهم، ليتمكّنوا من العودة إلى موجات العنف، دون أن يكترثوا لتقديم أسباب تفجيراتهم التي لا تعفي أحداً، من دون أن يرفّ لهم جفن.
وضع قنبلة في مَهْدٍ، مثلاً، ما المشكلة في ذلك؟ فالطفل يرتقي مباشرة نحو جنة وملكوت الأبرياء. ومن سخرية الأقدار، أن الدينَ أبعد ما يكون عن هذا الأمر. هي مسألة انقضاض على الحُكْم ومكاسب مادية.
ثمة جماعة من أشرار الجِنِّ، وأكثرهم سطوة في جميع بقاع الأرض، يخدّرون العقول ويبرمجونها على تعطيل التفكير. يوْقِعون في شِباكهم الأطفال، في بلد أطفاله مُعْدَمون. يجعلونهم أدوات تنفيذية. يمنعون الموسيقى، لكنهم يقيمون حفلاتٍ خرقاء، موظِّفون رجالاً متنكرين في أزياء نسائية، يرقصون لهم ومعهم. مباحٌ ذلك!
لولا الشبكات الاجتماعية، التي تعجّ بصور في هذا الاتجاه، لما عرفنا عن ذلك شيئاً. يا لِلتَّقدمِ، منذُ تجاربِ غسل أدمغتنا، الموروثة من أزمنة محا عالَمُنا أثرها من ذاكرتنا. هكذا هي أنظمتنا. أما باقي بشرية القرن الـ 21، فهي حيّز للتجارب. ما زلنا لم نغادِر السَّرد المتخيَّلَ.
تدرك فريدة جيداً ألَّا خيارَ لديها. يَتَقَاطَرُ عليها الكذب من كلّ صوب. ثمة نساء في منطقتها يفعلن ما استطَعْنَ في حملات تحسيسية ولحفظ الكرامة، في مجتمع يحتاجهما بيأس.
ولكنها تدرك أكثر أن كلّ هذا سيأخذ وقتاً لا تتوفر عليه هي. فهي في كل لحظة ملزَمة بتوفير القَوْتِ والأمل لأبنائها الأربعة. وقريباً، مع حلول الربيع، سيعود أزيز الأسلحة وعويل المجازر. ستحُلُّ النيران مكانَ البردِ.
وهي ترفض أن تكونَ أيقونة هذه المأساة. ولكن الصغيرةَ آريزو ــــ التي يعني اسمها: رغبة وأمل ــــ، راقصتَها الصغيرةَ في روحِها، ستعرف ربما عالَما آخر.
فقد خارت قوى فريدة على المُضَيَّ قُدُماً. عليها أن تقطع صلتها بكل شيء من أجل سلام تتمناه.
انتصَبَتْ فوق صخرة ضخمة تطل على السهول عند قَدَمِها. الدموع تشوش نظرتَها. كانت ترنو نحو الشمس. ثم لم يبقَ شيء. البقية يلفها الصمت.
(*)كاتبة أفغانية مقيمة في لوزان، تكتب بالفرنسية.

المصدر:
La revue bisannuelle de l’association vaudoise des écrivains, Sillages, n° 93, avril 2018.
بعدسة الفوتوغرافي الأميركي بيت سوزا التقطها جميعاً، في أفغانستان عام 2011

حكاية
مِنْ غوانتنامو، ابن يعين أبَاه على غرس الخضروات (*)
كان رجل عجوز، في بلاد أفغانستان، يعيش وحيداً، ويرغب في غرس خضروات في بستانه، ولكن تلك المَشْغَلَةَ كانت مرهِقة له، إذ كان يتوجب عليه تقليب كل مساحة الأرض.
كان أحمد، ابنه الوحيد، الذي عادة ما يساعده في هذه المهمة، معتقلاً في غوانتنامو.
كتب العجوزُ رسالةً إلى ابنه، يشكو إليه فيها وضعيتَه الصعبة:
«بُنيَّ العزيز،
أنا في غايةِ التعاسة، إذ يبدو لي أنني لن أستطيعَ، هذه السنة، غرس الخضروات في بستاني. بلغ بي العمر أشُدَّهُ، ولم أعُد أقوى على حفر مُرَبَّع البستان وتقليب تربته. لو كنتَ هنا لانحلَّتْ كل مشاكلي. فأنا متيقنٌ أنك كنتَ، من أجلي، ستحفر أرض المربع وتقلب تربتها.
مع كل حبي.
أبوك».
أياماً بَعْدَئِذٍ، وصله الرد من ابنه:
«أَبَتِ العزيز،
بحق السماء، أبت العزيز، لا تحفر في البستان، ففي تربته دفنتُ قِطَعَ كلاشنيكوف.
مع كل حبي.
أحمد».
مع الرابعة صباحاً في اليوم الموالي، وصل جيشٌ عَرَمْرَمٌ من عملاء الـ «اف.بي.آي» والجنود الأميركان؛ مدجَّجين بالسلاح، والمِجْرَفَاتِ والمَعاوِلِ؛ وشرعوا في الحفر وتقليب تربة مربع البستان، ولكنهم لم يعثروا على أيَّة قطعة كلاشنيكوف. فغادروا المكان مَغيظينَ.
أياماً بَعْذَئِذٍ، وصلتِ العجوزَ رسالة أخرى من ابنه:
«أبت العزيز،
تَفَضَّل، الآنَ؛ بوسعك غرس الخضروات. هذا أحسن ما يمكنني أن أقدمه لك في ظرفي الحالي.
مع كل حبي.
أحمد»
(*)حكايةٌ شفوية، مجهولة المؤلِّف.

المصدر:
La revue bisannuelle de l’association vaudoise des écrivains, Sillages, n° 93, avril 2018.

* لينبعثوا من داخل الانكسار التاريخي..
محمد الشركي *

لولا أرتال المرتزقة ومموليهم الإقليميين والدوليين، الذين تعاقبوا على الأرض الأفغانية، لكان الشعب الصبور والأبيّ لهذا البلد الزاخر قد تدبّر أمره مع صراع مكوناته الإثنية على السلطة، ولكان أنجب من قلب مخاضاته الداخلية الأليمة قيادة فهيمة لمصيره. والآن، غداة السقوط الثاني لكابول في أيدي طالبان، ترتفع المناحات الإعلامية المنافقة في مشارق الأرض ومغاربها، كمن يقتلون القتيل ويمشون في جنازته. دعوا مصير أفغانستان للأفغان خارج الوصايات الإجراميّة، ودعوا لهم أن ينبعثوا من داخل الانكسار التاريخي والرجة الاجتماعية والشح الاقتصاديّ وأن يحوّلوا الآلام الوطنية إلى مشروع انعتاقيّ وتحديثيّ للمجتمع والدولة معاً.
* الرباط/المغرب

* إدواردو غاليانو: العار
ترجمة عبد النور زياني

3 مايو.
في نهاية عام 1979، غزتِ القوَّات السُّوڤيتيَّة أفغانستان.
كان التَّبرير الرَّسميُّ هو الدِّفاعُ عن حكومةٍ عَلمانيَّةٍ تحاولُ تحديثَ البلادِ.
كنتُ أحَدَ أعضاءِ المحكمةِ الدَّوليَّةِ الَّتي تولَّتِ القضيَّة في اسْتُوكْهُولم عَامَ 1981.
لَنْ أَنسَى أبداً الذُّروةَ الدراميَّة لِتلكَ الجلساتِ.
كانتْ هناكَ شخصيَّةً دينيَّة قيَّاديَّة، تُمثِّلُ الأُصوليِّين الإِسلاميِّينَ المعروفينَ في ذلك الوقتِ بِاسْمِ «مُقاتِلي الحرِّيَّة»، وَالَّذينَ تُطْلَقُ عليهم الآنَ صفة «إرهابيِّينَ»، تُدْلِي بِشهادتِهَا، وَتصرخُ:
«لقد لطَّخَ الشُّيوعيُّونَ شرفَ بناتِنا! علَّموهُنَّ القراءةَ والكتابَةَ!»

المصدر:
Eduardo Galeano: Children of the Days: A Calendar of Human History. Translated By Mark Fried. Nation