في روايتها «منزل عائم فوق النهر» (دار هاشيت أنطوان)، تغوص الكاتبة اللبنانية زينب مرعي عميقاً في الواقع لاسترجاع الذكريات من أجل اكتشاف علاقات بين الأشياء. ففي سردها القدرة على النفاذ إلى المناطق القاسية لهذا الوجود لا لكتابته فقط، بل تحليل فكرة الخروج منه كأنه مكان مبهم وغامض رغم وضوحه الشديد. في هذا السّرد أيضاً الرغبة في استنطاق التفاصيل الصغيرة كأنها ليست عصيّة على أن تقول أشياء كثيرة، بل تصبح سخيّة وقادرة على أن تتأمل وجودها من خلال هذا البيت التي تريد أن تتوصّل على أنّه عائم فوق النهر.نكتشف هنا أن الراوية في معضلة ما، وأنها تقف عند مفترق في العلاقة مع زوجها لكن ذلك يفتح السرد على مصراعيه. يبدو أن تاريخ البيت حافل بتلك الصراعات، فالجدة والأم والأخت هنّ في علاقةٍ ملتبسة مع الرجل، والأم فاطمة كارهة الرجال تمسك بزمام تلك الصراعات، فترمي ابنتها بانة المطيعة في النهر بعد انتحارها. ترفض ليلى أن تكون بانة وبينما هي ترفض أيضاً أن تكون فاطمة، ها هي تتحايل عليها. ثمة رجل آخر يظهر في نهاية الرواية كأنه سرّ ما اسمه شيرو. نعتقد لوهلة أن وجوده غرائبي، لكننا نكتشف أنه صناعة الخيال والواقع الّلذين يتناوبان على هدم روح ليلى التي تعود في النهاية إلى بيروت من طهران لتقابل أمها. تلك العودة التي كانت ترويها ليلى على طول الرواية، تصل في النهاية إلى وصول ليلى إلى بيروت. إنها عودة داخلية إذن، لا تبدأ إلّا بالنظر مرة أخرى إلى الخلف ومشاهدة تلك الطريق المعتمة التي كان العنف نهايتها. لا تكثر الكاتبة من تخيل مشهد الغرق كأنّه لوحة سريالية، بل تجعله اللوحة الكبيرة التي تتحرك داخلها مشاهد التفاصيل العنيفة والمؤدية إليه، ولم يجعل ذلك الكاتبة تبحث عن لحظة الإنقاذ بل تحاول أن تقول إنّ وعيها قادر على إنقاذ نفسها من دون أن تذكر ذلك حرفياً. إذن الوعي الذاتي هو حصيلة هذا الانتحار الجماعي والعدائية التي لن يستطيع سوى الحب إدراكها. لا نقع هنا على خاتمة سعيدة، ولكن ندرك أن ما فعلته ليلى ليس عملاً بطولياً بل اقتراح جمالي وخافت في أنها ستقول الحقيقة لزوجها عن شيرو.
استرجاع الذكريات من أجل اكتشاف علاقات بين الأشياء


هكذا إذن يصبح الواقع غريباً، بل شعرياً أيضاً ربما باستدعاء لحظات حية من يوميات ليلى وكذلك يوميات جدتها وأمها. نحن أمام حقائق تكاد تفاجئنا بالقسوة وفي الوقت نفسه تدعونا للنظر من خلالها إلى مواضيع كبيرة وعميقة وهي الحرية والعلاقة مع الأم والعلاقة مع الذات. كأن الكاتبة تحصرنا هنا للنظر عميقاً في هذا العالم الذي يعبّد الطريق نحو الانتحار، ولكن أيضاً فهمه والتعمق فيه يقودان إلى الحرية. نراقب المنزل كأننا نراقب عالماً بأكمله يتفكك، كأنّ أشياءه تسير في الماء أمامنا وتبقى ليلى التي تختار حياتها ووحدتها.
هذا أيضاً ما يذكّر بما قاله الشاعر ريلكه للكاتب الشاب، «احبب عزلتك»، كأن عزلة ليلى هنا لا تزداد فقط بهروبها إلى طهران أو بعدها عن أمها، بل بتلك المسافة التي وضعتها حين قررت أنها ليست أختها بانة وأنها ليست فاطمة كما أنها ليست بديعة.
يذكرني ذلك أيضاً بما قاله الشاعر أنطونيو بورشيا: «نحن ندرك الفراغ حين نملؤه»، فالراوية ليلى تبدو مدركة تماماً لحجم هذا الفراغ داخلها، وهي كمن يملؤه بسرد تفاصيل الأم والجدة لمعرفته جيداً وإدراك ما ينقصه حقاً كي يمتلئ.
فاللغة أيضاً لا ترغب في تعقيد ما، بل تسير بسلاسة ووعي بوظيفة السرد، لا وجود لبلاغة مزيفة ولا جنوح نحو شاعرية مفتعلة، كأن الأشياء بنفسها تسرد وتختار أن تكون شفافة داخل النهر لنرى بوضوح ما يحدث بالضبط. الا أن هذا الوضوح أحياناً يجعلنا نتساءل عن معنى خلق هذه التفاصيل الكثيرة، كأننا نعلم هنا أن ليلى تعود إلى ذاكرتها ونريد للرواية أن تقول لنا أشياء أخرى. لكن في النهاية نقتنع أن هذه السوداوية مؤقتة ومحتملة، وقد تكون ضرورية لنشعر جيداً بتلك الحياة الغارقة والمنتهية ببطء.
تُخفي الكاتبة سرّ شيرو أيضاً عنّا لندرك أننا في النهاية أمام حبكة روائية غامضة تخفف قليلاً من حدة الوضوح وتجعل الأحداث تمرّ وكأنها نافذة لحدث سيأتي. نعلم ذلك ونحن نقرأ أسماء الشخصيات بديعة وفاطمة وبانة وليلى، لكن الشخصية التي تخفيها عنا في محاولة لجعلنا نتابع هذا الذهاب نحو الماضي هي شيرو من دون أن تخصّص له طبعاً فصلاً مستقلاً. النهاية أيضاً أتت غير متوقعة ومفتوحة على تفاصيل مجهولة لا تذكرها إنما توحي إليها بلغتها القريبة من القارئ.
هي رواية لا تقول كل شيء، رغم أنها تغوص عميقاً في الذكريات والتفاصيل لكنها تترك نافذة للولوج إلى السّر، وهو ربما التحليق بعيداً، وهذا ما لا يحدث من دون الغوص عميقاً في الذاكرة. كأنه هو الطريق الوحيد نحو الانعتاق لأن الممرات الأخرى سهلة إذا ما أصغينا لنصيحة الشاعر الأميركي فروست: «اختر الطريق الأصعب». وهنا في «منزل عائم فوق النهر» هي الأطول أيضاً. رواية ليست سوداوية لكنها تفضّل أن تمر من ذلك الممر المعتم كي تبلغ نهاية النفق.