بعد قطيعةٍ طويلةٍ بينهما لخلافات إيديولوجية، تمكّن الصحافي أورلاندو بارون أن يجمع بين قطبَي الكتابة في الأرجنتين: خورخي بورخيس (1899- 1986)، وأرنستو ساباتو (1911- 2011). سبع جلسات شهدتها أماكن مختلفة في بوينس آيرس، تحاورا خلالها في شؤون مختلفة: القصة والرواية، الحلم، اللغة، النسيان، الموت، وبالطبع رواية سرفانتس «دون كيخوته». سيعترف بورخيس بأنه لم يكن متحمساً لأيقونة السرد الإسباني، لكنه أُعجب بالرواية لاحقاً. أمرٌ أبهج أرنستو ساباتو بوصفه أحد ورثة سرفانتس. مُنع كتاب الحوارات الذي صدر منتصف سبعينيات القرن المنصرم طويلاً، قبل أن يُفرج عنه في العام 1996، مع انتهاء حقبة الديكتاتورية. عوقب بورخيس لموقفه المضاد للجنرال خوان دومنيغو بيرون، بنقله من عمله في المكتبة الوطنية إلى وظيفة مفتّش للدواجن في الأسواق. سينظر بورخيس إلى هذه الإهانة كذكرى عابرة، فيما سيمحو ساباتو ما كتبه عن «العمى الأخلاقي» ردّاً على مقالٍ لبورخيس. في سلسلة حواراتهما، ستتراجع نسبة الخلافات بين صاحب «كتاب الرمل»، وصاحب روايات «النّفق»، و«أبطال وقبور»، و«ملاك الجحيم»، فيما سينهمك أورلاندو بارون بصلاحيّة آلة التسجيل، إلى درجة أنه سوف ينسب كلام الأوّل للثاني وبالعكس، وفقاً لملاحظة ماريا كوداما أرملة بورخيس ووريثته الشرعية. سُجّلت هذه الحوارات أيام السبت من كل أسبوع إلى أن أغلق الكاتبان القوس على سجالاتهما وإجاباتهما المرتجلة عن أسئلةٍ جوهريّةٍ تتعلّق بالأدب في المقام الأول، ما جعلها تشكّل اليوم مرجعاً نقدياً ملهماً. يقول ساباتو: «الحلم يقي المرء من أن يصبح مجنوناً في الحياة اليومية، فيما يفيد الفن في إنقاذ الآخرين من الجنون». ويرصد بورخيس فكرة الموت بقوله: «لا نعرف أنّنا متنا حتى نتأكد في أن المرآة لا تعكسنا. أنا لا أرى المرآة». جرعةٌ إضافية من الأفكار تستدرج «الصديقين» إلى خرائط الكتابة المفتوحة على احتمالات لا تُحصى. سوف ينكر بورخيس معرفته بأدب أميركا اللاتينية متجاه لاً عشرات الروايات المؤثرة بما فيها روايات ساباتو نفسه. وسيعلن الأخير بأنّ «سقراط فيلسوف مقهى لا أكثر» قبل أن يلخّص صورة بورخيس بقوله «إليكم، بورخيس، هرطقة ضاحية بوينس آيريس، مجموع أمناء مكتبات أقنوم غير محدود، مزيج نادر من آسيا الصغرى، وباليرمو، ومن كافكا، ومارتن فييرو. تعسّفي، عظيم، صانع ساعات، ضعيف، منتصر، مجازف، خائف، فاشل، رائع». من جهته، سعى أورلاندو بارون إلى تبديد لحظات الصمت بسؤال أو اقتراح أو رأي، كما سيمهّد لهذه الأمسيات بمقدمات توضح تطوّر لعبة الشطرنج الأدبية بين اللاعبين. هنا مقاطع من الكتاب الذي قام بترجمته إلى العربية عبد السلام عقيل، وسيصدر قريباً عن «دار نينوى» في دمشق
محاولة للتذكّر
بورخيس: متى تعارفنا؟ دعنا نرى. لقد فقدت القدرة على حساب السنين. ولكن أعتقد أن ذلك كان في بيت بيوي كاساريس حين صدر كتابك «الفرد والكون».
ساباتو: لا، يا بورخيس. صدر ذلك الكتاب في العام 1945، ونحن تعارفنا في العام 1940.
بورخيس: (يفكر) نعم، يا تلك الاجتماعات! كان بوسعنا أن نخوض طيلة الليل في الحديث عن الأدب والفلسفة، كان ذلك العالم مختلفاً.
ساباتو: أودّ أن أقول، كنّا، بالأحرى نتحدث في تلك الاجتماعات عن المشترك الذي يستهوينا، أنت، وبيوي، وسيلفيا، وأنا. أعني الأدب، والموسيقى، لأن السياسة لم تكن تهمنا. أنا على الأقل.
بورخيس: أعني يا ساباتو أننا لم نكن نهتم كثيراً بالأخبار اليومية العابرة.
ساباتو: نعم، حقاً، كنا نتناول موضوعات تتسم بالديمومة. أما الأخبار اليومية، فهي بصورة عامة، غالباً ما تذروها الرياح. سواء الجديد منها الذي تكتبه الصحف، أو القديم، كله يذهب هباءً في اليوم التالي.
بورخيس: طبعاً. لا يفكر أحدٌ بأنه يجب أن يتذكر ما هو مكتوب في جريدة. أقول، ما يُكتب في جريدة، يُكتب لكي ينسى، يكتب عن عمد لكي يُنسى.
ساباتو: لعله سيكون من الأفضل نشر جريدة كل سنة أو كل قرن. أو عندما يحدث شيء يتسم بالأهمية حقاً كأن يتصدر الجريدة عنوان على ثمانية أعمدة كالتالي: «ها قد اكتشف السيد كريستوفر كولومبوس، أميركا».
بورخيس: (مبتسماً) نعم... أعتقد ذلك.
ساباتو: كيف يمكن أن تقع أحداث فائقة الأهمية كل يوم؟
بورخيس: فضلاً عن ذلك، لا يعرف أحد مسبقاً ما هي؟ اكتسب صلب المسيح أهمية في ما بعد، وليس في حينه، عندما حدث. ولذلك فإنني لم أقرأ أي جريدة قط، متّبعاً نصيحة إمرسون.
ساباتو: مَنْ.
بورخيس: إمرسون، الذي كان ينصح بقراءة الكتب، لا الجرائد.
بارون: أستميحكما العذر. وفي ذلك الحين عندما كنتم تجتمعون في بيت بيوي.
بورخيس: عجباً. إنك تشير إلى تلك الأيام كما لو أنها كانت حقبةً بعيدة جداً. (يبدو أنه يستحضرها) نعم، واضح، إنها وفق التسلسل الزمني بعيدة. ولكن، مع ذلك، أشعر بها وأفكر فيها كما لو أنها معاصرة. فضلاً عن أننا قلّما كنا نجتمع.
ساباتو: ليس للزمن وجود، أليس كذلك؟
بورخيس: أودّ أن اقول، كأنني ما زلت موجوداً عقلياً في تلك الحقبة، كما أن كوني أعمى يساعدني على ذلك.
تسود فترة صمت طويلة.
ساباتو: أتذكر يا بورخيس، فضلاً عن الأدب والفلسفة، أنه كان لديك أنت وبيوي، نزوع إلى الرياضيات، البعد الرابع، الزمن...
بورخيس (يضغط على العكاز بكلتا يديه، ويشمخ بحماسة تقريباً) عجباً! طبعاً، الأرقام التي لا نهاية لها.
بورخيس: عندما يريد أحدنا أن يتذكّر أمراً ما، يجب أن يكون قد نسيه أولاً، ومن ثم تقوم الذاكرة باستعادته. الحلم شكل من ذلك النسيان


ساباتو: العودة الأبدية، نيتشه...
بورخيس: وقبل قرون، الفيثاغورثيون، والرواقيون.
ساباتو: المفارقات، أخيل والسلحفاة. كنّا نتسلى جداً. أتذكر أيضاً أننا كنّا نتحدث كثيراً عن ستيفنسون والصمت، ما يسكت عنه، يكون أحياناً، أكثر أهمية من الذي يُعبر عنه. ولكن بهذه المناسبة يا بورخيس، أتذكر شيئاً استرعى انتباهي منذ فترة في ترجمتك لرواية فيرجينيا وولف «أورلاندو».
بورخيس: (يبدو حزيناً) حسناً، ترجمتها أمي وأنا ساعدتها.
ساباتو: ولكن ظهر عليها اسمك، ما أريد قوله هو أنني وجدت جملتين، أضحكتاني، لأنهما «بورخيسيّتان»، أو هكذا بدتا لي. واحدة عندما تقول تقريباً، إن والد أورلاندو كان قد بتر رؤوس الرجال «واسعي عدم الإخلاص». أما الثانية فهي، عندما عاد ذلك الكاتب إلى أورلاندو و«استنتج منه مسودة». بدت لي الجملتان أنهما شبيهتان جداً ببورخيس. وعندما راجعت الأصل، وجدت، إن لم تخنّي الذاكرة، أنه يقول شيئاً من قبيل: «قدم لها مسودة أولية».
بورخيس: (وهو يضحك)، حسناً، نعم، عجباً.
ساباتو: ليس في ذلك ما يضيرك. فهو يدلّل على، أنه من الأفضل أن يتولى ترجمة أعمال المؤلف كاتب دقيق ومحايد، أليس كذلك؟
أتذكر أنني شاهدت منذ زمن طويل عرضاً لمسرحية «ماكبث». كانت الترجمة سيئة كما الممثلين أيضاً. ومن هناك خرجت إلى الشارع مجرّداً من المشاعر التي تثيرها فينا المسرحية التراجيدية. في هذا تغلّب شكسبير على مترجم مسرحياته.

هذيان قصير الأمد
حدث تغيير في مكان اللقاء هذه المرة. اجتمعنا في المقهى الذي يقع بين شارعي «مايبو» و«كوردبا». الجو حار في الخارج.
المناضد حولي خالية ووحيدة، وأنا كذلك أشعر بالوحدة، وحين يصلان، سأشعر أيضاً بأني وحيد. ها هما الآن بجانبي ويتحدثان، وبوسعي أن أراقبهما دون محظور. (الأفضل أن يكون المرء غير مرئي أحياناً).
أستبشر خيراً بحوار عميق وشامل. حوار صيادَين يطاردان فرائس مختلفة في أماكن مختلفة، ولذلك فإنهما لن يتجابها.
حين أنظر إليهما، أدرك أنهما خصمان، ولكن ليس خصومة مسارين، وإنما عالَمَين مختلفين.
لن يكون بوسع بورخيس أبداً أن يكتب «ملاك الجحيم». وساباتو لن يكون بوسعه أبداً أن يكتب «الألف».
صمت الاثنان وانتظرا. ما الذي ينتظرانه؟ اقترحت عليهما الحديث عن موضوع الإبداع، والسبل المختلفة لإبداع الأدب. قلت لبورخيس، إن ساباتو اعترف مرات كثيرة، بأن الكتابة بالنسبة إليه تَمزّقٌ.
بورخيس: كل شيء يحدث لي على الضد من ذلك: الكتابة مصدر ارتياح، تساعدني على نسيان ذاتي، أو ظروف حياتي. يكتب المرء تلك المواضيع التي تفرض نفسها. أنا لا أبحث عن الموضوع: أترك له أمر مطاردتي، يبحث عني وأنا عندئذٍ أكتبه. إن تخيّل قصة يشبه رؤية جزيرة من بعيد. أتبيّن نقطتين، البدء والنهاية. وما يجري بينهما يتعين عليّ أن أعمل على اختراعه واكتشافه، شيئاً فشيئاً. أخطئ مرّاتٍ عديدة. فأحذف صفحات، أو ما إن أنتهي من كتابتها حتى أنتبه إلى أنني يجب أن أضعها في مكان آخر. إن هذه العملية كلها تسعدني. الآن، على سبيل المثال، انتهيت من كتابة قصة، ولكني أعرف أنه ينقصها صفحة واحدة، لديّ النهاية، ولكن أفتقد تلك الصفحة.
(أدركت، من إيماءة بورخيس، أنّه الآن، يودّ كتابة تلك الصفحة).
بارون: يسود اعتقاد بأنّ الفارق بين الرواية والقصة القصيرة هو كالفارق بين هاجس طويل الأمد وآخر عابر.
بورخيس: صحيح، القصة القصيرة بمثابة حلم مقتضب، أو هذيان قصير الأمد.
ساباتو: أعتقد أن كلاهما، الرواية والقصة تتسمان بالتعقيد والصعوبة، ولكن على نحوٍ مختلف. فالقصة يجب أن تقدّم للقارئ، فكرة كلية وشاعرية، بعبارات قليلة، ما يتطلب قدرة كبيرة على التركيز والإتقان.
بورخيس: هل تعني أن القصة القصيرة تكون مكثفة أكثر؟
ساباتو: نعم. الرواية بالمقابل، أشبه ما تكون بقارّة. يتعين فيها اجتياز مستنقعات أو أهوار واسعة، أو قطع طرقات طويلة وسط الغبار والطين للوصول في نهاية المطاف إلى مكان رائع. أعتقد أن بورخيس قال مرة إنه يشعر بالملل في تلك الطرقات القاحلة، فضلاً عن أنّها لا بد أن تؤدي إلى أن يشعر القارئ بالضجر منها أيضاً. ولكن إذا أردت العثور على كنز في غابات الأمازون يجب أن تجابه كثيراً من المخاطر.
بورخيس: ولهذا يجب أن يشعر الكاتب بالرضى عندما يختتم روايته. وبالمقابل، لا يعرف كاتب القصة حين ينتهي من كتابة قصته، ما إذا كانت تستحق أن يكتبها.
ساباتو: ولكن يا بورخيس، شيء من هذا القبيل يحدث في الرواية، أو أسوأ منه: تخيّل ما يحدث إذا شعر الكاتب، بعد أن كتب خمسمئة صفحة، أنّ هذا ليس ما كان يريد قوله.
بورخيس: يمكن الحكم على القصة في جلسة واحدة، بينما تتطلب الرواية وقتاً.
ساباتو: الروايات العظيمة، وإن لم تكن مكتوبة بصيغة شعرية، فإنها تقدم دائماً تجليّاتٍ شعريّة عظيمة، يمكن للمرء أن يشعر بها لدى قراءة تولستوي وبروست أو فوكنر وفيرجينيا وولف. وفضلاً عن ذلك، أعتقد أن كل فن، إما أن يرقى إلى مكانة الشعر بالمعنى الأعمق للكلمة، أو لا يكون أكثر من مجرد سجلّ أخبار صحافية أو أحداث طبيعية.
بورخيس: أتَذكرُ جورج مور الذي كان يقول، لكي يمدح أحداً ما: «كان يكتب نثراً يكاد يكون كاتبه مجهول الهوية».
ساباتو: بِودّي أن نناقش رواية الـ«كيخوته».
يستقر على الكرسي. ويركّز نظراته في وجه بورخيس، الذي يبدو أنه يتردد قليلاً قبل أن يبدأ الإجابة بإيقاع صوته البطيء.
بورخيس: أعتقد أنك تعلم يا ساباتو، أنني غيّرت رأيي كثيراً في «دون كيخوته».
ساباتو: (يبتسم بشيءٍ من الرّيبة) وما هو رأيك الآن؟
بورخيس: لا ينبغي لي أن أقوله، لا أحب أن أخضع للرقابة، ولكن بيوي كاسارس أثّر فيّ كثيراً: كان يحدثني عن ذلك الكتاب بازدراءٍ دائماً، والآن أدركت أنه كان مخطئاً. أعتقد أن سرفانتس ابتدع شخصيّة ألونسو كيخانو الأدبية، التي لا يمكن أن تُنسى أبداً. وأعتقد أننا لكي نحكم عليه، يجب أن ننطلق من وجهات نظرٍ أخرى. هناك واقعة أشار إليها كولريدج، يبدو لي أنّها صحيحة تماماً: يقول إنّ مغامرات الـ «كيخوته» ليس لها كبير أهمية، يشعر القارئ أحياناً بالرغبة في إعادة قراءة فصل من فصول الرواية، وليس متابعة أحداثها أهمية لما سيحدث. لأننا في الواقع سنجد أنفسنا في موقف يتكرر، حالة فرد يعيش في عالم يوميّ، في عالم مبتذل يتناقض معه. ولكن تلك الشخصية شخصية مضحكة، وفي الوقت ذاته موضع احترام ومحبة أيضاً.
(هدأت أسارير ساباتو، وبدا جاداً ومسروراً أمام هذا البورخيس الذي اعترف له بإعجابه بسرفانتس. يواصل بورخيس حديثه).
بورخيس: أعتقد أنني كنتُ في حديثي الآن منصفاً، لأن هناك فترة كنت أعتقد فيها أن كيفيدو أفضل من سرفانتس. ربما كان كيفيدو أفضل كاتب صفحة فصفحة، وسطراً فسطراً. ولكنه إجمالاً أدنى إلى حد بعيد من سرفانتس، لأنه لم يستطع قط ابتكار شخصية مثل «دون كيخوته». لم يكن سرفانتس بحاجة إلى مهنية كيفيدو الأدبية، كان لديه الحدس والنبوغ، وهذا ما كان يفتقد إليه كيفيدو. ولذلك لم أكن من قبل منصفاً في الحكم على سرفانتس. والآن أود أن اعترف بأخطائي علناً. كذلك كنت أعتقد أنّ لوغونس يتفوق على روبن داريّو. إلا أنني أعرف الآن أن لوغونس يحتل مكانةً أشبه ما تكون بمكانة كيفيدو إذا ما قورن بسرفانتس. ومما لا ريب فيه أنه كان بوسع لوغونس تصحيح أي صفحة من صفحات داريّو، ولكنه لم يكن أهلاً لأن يكتب مثلها. هذا ما كان يمتاز به سرفانتس من تفوق على كيفيدو.
ساباتو: لا يفاجئني أبداً ما تقول يا بورخيس. أعتقد أن جذور رأيك الحالي تمتد إلى كتاباتك الأوّلية عن «دون كيخوته». قلتَ في أحد مقالاتك إن كيفيدو هو أكبر مهندسي فن اللغة. وأضفتَ مباشرة: «ولكن سرفانتس». «هكذا مع ثلاث نقاط توقّفٍ كئيبة. وفي عملٍ كتبتُه عنكَ قلتُ فيه، مثلما يوجد أكثر من فلوبير واحد، يوجد أيضاً أكثر من بورخيس واحد: الأول شديد الإعجاب بـكيفيدو ، والآخر أشدّ عمقاً، يُكتشف في مواجهة سرفانتس. ولكنّ ثمة أمرٌ أريد جلاءه بدقّة وهو، ما يتعلّق بمشكلة الشكل ومشكلة المغامرات. إنّ رواية «دون كيخوته»، بالنسبة إليّ، تُعدّ عملاً أدبياً رائعاً، وواحداً من اثنين أو ثلاثة أعظم الأعمال الأدبية وأكثر نبوغاً، التي تم إنتاجها مدى العصور، لأن سرفانتس قال فيها ما كان ينبغي له أن يقول، وصاغها في الشكل الذي كان ينبغي له أن يصيغها فيه. ولذلك كنت أجد دائماً في ادعاء غروساك السخافة والغرور.
بورخيس: أنا أؤكد، نعم، إنّ الجزء الثاني يفوق الأول بجودته.

ساباتو: أعتقد أنّ كلّ فن، إمّا أن يرقى إلى مكانة الشعر بالمعنى الأعمق للكلمة، أو لا يكون أكثر من مجرد سجلّ أخبار صحافية أو أحداث طبيعية


ساباتو: صحيح ما تقول. ولكن لنعد إلى كولريدج وتأكيده المضحك، الذي يقول فيه على ما أعتقد: «للأسف أنّ «دون كيخوته» لم يكتبها كاتب إنكليزي». ويلوم سرفانتس لأن تلك الشخصية تقوم بسلسة من المغامرات التي يمكن الاستغناء عنها. ولكنني أعتقد أن دون كيخوته، إمّا أن تكون مجموعة تلك المغامرات، أو لا تكون شيئاً.
بورخيس: ولكن الشخصية أهم من الذي يحدث لها.
ساباتو: «الكيخوته» هو ما يحدث له، إنه مٌعرّف كشخصية بما يحدث له، كما يمكن أن يقول «فينومينولوجي». صحيح أنّ الجزء الثاني يبدو متفوقاً على الأول بجودته. ربما يعود ذلك، إلى أن سرفانتس كان يعاني، خلال الجزء الأول، من تأثير الوسط الأدبي الذي عاش فيه، حيث كان يدرك أنه كاتب من عامة الناس، ويريد أن يكتب عملاً أدبياً جيداً يضاهي أدب كيفيدو.
بورخيس: طبعاً. كان أولئك الناس يرون كتابه مجرد أحد الكتب الشعبية الأكثر رواجاً. وحين كتب غراسيان عنه في كتاب «الفطنة وفن النبوغ»، لم يأتِ على ذكر سرفانتس.
ساباتو: أصرُّ إذاً، على «الكتابة بشكل جيد». ماذا تعني «الكتابة بشكل جيد» في «دون كيخوته» إذا لم يكن ما كتبه سرفانتس كتابة جيدة؟ إذا كان قد أنجز عملاً أدبياً عظيماً ما زلنا حتى الآن نناقشه، فما ذلك إلا لأنه كتب بشكل جيد، وبأي طريقة. هذا، ومن ناحية أخرى، حتى لو سلّمنا بأنّ المغامرات أضرّت بالشخصية، من كان بوسعه أن يمنع أيّ كاتبٍ آخر أفضل من سرفانتس، من المبادرة إلى إنجاز عمل عظيم أفضل؟ لم يُكتب قط، حتى الآن، عملٌ أفضل.
بورخيس: نعم. لم يُكتب قط. لأن «دون كيخوته» المنسوبة إلى أفيجانيدا التي لم أقرأها، يُفترض، كما قيل عنها، أنها ليست جيدة.
ساباتو: كان شكسبير يأخذ أفكاراً شوّه كتّاب مغمورون معالجتها ويكتب مآسيه العظيمة. وأود أن أسأل كولريدج: ما المانع الذي حال دون أن يكتب أيّ إنكليزي «دون كيخوته» التي شوهها سرفانتس؟
بورخيس: أتذكّرُ ذلك الجزء من الرواية عندما يسترد سانتشو حريته ويدرك أنها هي أفضل ما كان يفتقده، ويبدأ بتعداد سلسلة من الأشياء التي لم يحصل عليها من قبل قط.

(لاذا بالصّمت مرةً أخرى، ولكن الأجواء كانت ودّية. وبينما كانوا يقدّمون لنا القهوة، كان ساباتو يتذكّر).

تفاحة سيزان وكافكا ودانتي
ساباتو: لا توجد قضايا كبيرة ولا قضايا صغيرة: يوجد كتّابٌ صغار وكتّاب كبار. يرسم الرّسام الفرنسي بول سيزان تفاحةً فيبدع عملاً لا يُنسى. ويرسم آخر، كائناً من كان، لوحة «الصلب» فتكون عملاً غريباً وسخيفاً. المنضدة الموجودة أمامنا، يمكن أن تكون، حسبما يراها من ينظر إليها، أغرب شيء في العالم. وتكاد تكون، حسبما يراها آخر، لا شيء، ويمكن أن تعني لثالث، كالفيلسوف بيركلي، وضع الواقع كلّه موضع الشك. هناك طبعاً كثيرون لا يتصوّرون أنّه يمكنهم الكتابة دون السّفر حول العالم. ولكن، في عصر هوميروس لم يكن هناك طائرات، وبالقوارب والمجاديف وبوسائل من هذا القبيل، لم يكن من الممكن الذهاب بعيداً. كافكا لم يخرج من براغ، تقريباً، وكان موظّفاً بسيطاً.
بارون: وذلك لأنّ عملاً من أعمال المغامرة ليس من الضروري أن يكتبه مغامرٌ.
بورخيس: ولا النسيان أيضاً. عندما يريد أحدنا أن يتذكر أمراً ما، يجب أن يكون قد نسيه أولاً، ومن ثم تقوم الذاكرة باستعادته. الحلم شكل من ذلك النسيان.
سـاباتو: أمر جيد أن ننسى كل اثنتي عشرة ساعة. أتعتقد أننا يمكن أن نعيش بدون ذلك النسيان؟
بورخيس: بدونه ستكون الرتابة، والملل...
سـاباتو: بل اليأس والجنون على ما أعتقد. لا يمكن أن نعيش بدون أحلام. وبدون الخيال أيضاً.
بورخيس: (يتمتم) وجبات غداء، شاي، صحف، وجبات طعام مفضّلة، وجبات فطور... ستكون الحياة بدون طبق من أحلام، شيئاً لا يطاق، أليس كذلك؟
سـاباتو: ولكن بما أنّ الموت ينتظرنا في المستقبل، فهناك كوابيس لا يمكن أن تكون سوى رؤىً من الجحيم الذي ينتظرنا.
بورخيس: ولكن ألا تعتقد يا ساباتو، أن النّعيم والجحيم ليسا سوى اختراعات لفظية؟
سـاباتو: أعتقد أنهما حقيقيّان، على الرّغم من أنّ ذلك لا يعني أنهما حقيقتان ساذجتان جداً كتلك التي يعلّمونها للأطفال في الكنائس. الكوابيس، رؤى أولئك المجانين الذين «يخرجون عن طورهم»، انظر مدى أهمية ما تعنيه هذه العبارة القديمة، إنّ رؤى الشعراء هي حقائق، وليست أكوام كلمات. الذين كانوا يرون دانتي يمر في شوارع رافينا نحيلاً وصامتاً، كانوا يروون همساً، وبنوعٍ من الشكّ القدسي: ها هو الذي كان في الجحيم. أنا أعتقد أنّ دانتي رأى، مثلما رأى كل شاعرٍ عظيم بوضوح مريع، ما كاد يلمحه عامة الناس. ما يتوصل الإنسان العادي إلى أن يراه بشكل ضبابي في تلك الميتة الصغيرة العابرة، التي هي الحلم.
بورخيس: (الذي استمع إليه بريبة خفيّة) أنا مرتاحٌ حين أفكّر أنّ النّعيم والجحيم مجرّد مقارناتٍ لفظيّةٍ مبالغ فيها.
سـاباتو: وبعباراتٍ أخرى، فإنك تعتبر إذاً، أن مجموعة قصصك مجرد اختراعات لفظية وليست اكتشافات لواقع (تغيرت ملامحه وهو يبتسم
الآن )، على الرغم من أنك تقاوم، فأنت في هذه اللحظة مُكتشفٌ لوقائع أخرى.
بورخيس: حسناً، عندما أنهمك في الكتابة، لا يكون لشخصي، قبل أيّ شيءٍ آخر، أهميًة تُذكر.
من يهتم بشخص يدعى بورخيس؟
بورخيس: في الثلاثمئة بيزو التي أعطاني إيّاها والدي، قمت بطباعة ثلاثمئة نسخة من أوّل كتبي. ما الذي كان بوسعي أن أفعله سوى توزيعها وإهدائها إلى أصدقائي، ومن الذي يهتم بشخصٍ يكتب شعراً ويُدعى بورخيس؟
ساباتو: الناشر يفضّل الكاتب الذي يتنازع الجميع على اقتناء كتبه. وهذا يجعل أيّ بدايةٍ صعبة. ومع ذلك، فإنّ الأمر الغريب هو أنّ المرء عندما يرى رفوف المكتبات الآن الحافلة بعناوين الكتب، يخال أن عدد الكُتّاب يفوق عدد القراء.