في حملته على الجزيرة العربية، قدّم لنا الإمبراطور الآشوري أسرحادون (680-669 ق.م) أسماء عددٍ من الآلهة العربية القديمة. بعض هذه الأسماء واضح ومعروف، لكنّ الغالبية غامضة، وليس من السهل ردّه إلى الآلهة التي نعرفها:«واستولى والدي، سنحاريب، على أدوماتو، حصن العرب، وغَنِم ممتلكاته، وأصنامه، كما أسر أسكالاتو ملكة العرب، وجلب كل هذا إلى آشور. وقد جاء حزائيل، ملك العرب، حاملاً معه الهدايا إلى نينوى، المدينة التي أحكمها، وقبّل قدمي. لقد رجاني أن أعيد أصنامه، فرحمته. وقد أصلحت الضرر الذي حلّ بأترسمين، داي، نُهى، رولدايو، أبيريللو، وعترقوروما، آلهة العرب، وأعدتها له بعد أن وضعت عليها نقشاً يعلن هيمنة إلهي آشور، إضافة إلى اسمي» (Ancient Near East Texts Relating to the Old Testament, Edited by Lames B. Pritchard, Third Edition, 1969. Princeton University Press, Princeton- New Jersey, Page 291).
الغراب في المصادر السومرية هو من زرع أول نخلة في الكون بتعليمات الإله «إنكي»

وكما نرى، فلدينا في هذا النصّ ستة من الآلهة العربية: أترسمين، داي، نُهي، رولدايو، أبيريللو، أتر قوروما. وقد ورد اثنان من هذه الآلهة في نقوش شمال الجزيرة العربية، وهما: نهى وعتر سمين أو أتر سمين، بذا فأمرهما واضح ومحسوم. أما الأسماء الأخرى، فلم ترِد في النقوش. وقد انصبّ جهد كبير لفهم الاسم «رولدايو»، وافترض أنه الإله «رضى» أو «أرصو». وهناك من ربط هذا الاسم باسم الإله العربي الذي أورده هيرودت في تاريخه «أروتالت» أو «أروتال» كما في نسخة أخرى. ونحن لا نرى أي وجه جدي للشبه بين الاسمين.
على أي حال، فنحن سنركز جهدنا هنا على الإله «داي» أساساً، مع تعرض أبسط لـ «رولدايو» لأننا نعتقد أن ثمة علاقة بين الاسمين.

* الإله الغراب
ويمكن رؤية الشبه بين «داي، دأي» وبين القسم الثاني من الاسم «رول- دايو». وهو ما قد يشير ربما إلى أن الاسم «رولدايو» ربما كان اسماً مركباً مكوناً من اسمين: «رول + دايو»، حيث دايو هو «داي» ذاته. عليه، يكون الاسم «داي» قد ورد مرتين في النص الآشوري؛ مرة وحده، ومرة ضمن تركيب.
والسؤال هو: من هو الإله داي أو «دأي» هذا؟
وجوابي هو: يبدو أنّ لهذا الإله علاقةً ما بالغراب. ذلك أنّ الغراب بالعربية يُدعى «ابن دأية». والمناسبة اللفظية قوية جداً بين «داي، دأي» أسرحادون وابن «دأية» الغراب. وفي اللغات السامية الأخرى، نجد أن اسم الغراب هو «داي» وليس ابن دأية. ومنه في ما يبدو أُخذ اسم العلم «داية» في النقوش الصّفوية والمعينية: «وهو علم بسيط، اشتقاقه من دأية أي (الغراب) الذي عرف أيضاً [دأيه] في العهد القديم... أما في النقوش الأوغاريتية، فجاء بصيغة دأي بمعنى «طائر، طير»» (سليمان بن عبد الرحمن الذييب، نقوش صفويّة من شمالي المملكة العربية السعودية، مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية، الرياض، 2003م، ص 35).
وتقدّم لنا المصادر العربيّة تفاسير صعبةً وغامضة لاسم «ابن دأية» هذا. فهي تُجمع تقريباً على أن الاسم أتى من علاقة الغراب بدأية البعير، أي فقار كاهله: «العرب تسمي الغراب ابن دأية، لأنه إذا وجد دَبَرَة في ظهر البعير، أو في عنقه قرحة، سقط عليها، ونقره وأكله، حتى يبلغ الدايات» (الجاحظ، الحيوان). ويضيف الزمخشري: «نعب ابن دأية أي الغراب، نسب إلى دأية البعير وهي فقارته لوقوعه عليها إذا دبرت» (الزمخشري، أساس البلاغة). وعن ابن الأَعرابي: «الدأَيات أَضلاع الكتف وهي ثلاثة أَضلاعٍ من هنا وثلاثة من هنا، واحدته دأية» (لسان العرب). وقال بعضهم إنها خرزات فقار العنق بالذات.
إذن، فقد سمي الغراب بابن دأية لأنه يقع على ظهر البعير المنفرد وينقر دبرته حتى يصل عظام فقراته. غير أننا نشكّ في هذا التفسير الغريب وغير المقنع، رغم أنه لا يمكن تجاهل الشبه اللفظي بين «دأية» البعير و«ابن دأية» الغراب.
ولدينا بيت شعري معروف للشماخ يمكن أن يفيدنا في كشف هذه العلاقة الملغزة بين كنية الغراب وبين دأية البعير: حمراء من معرضات الغربان/ يقدمـها كـل عـلاة عليـان. وتُجمع المصادر العربية على أن «معرضات الغربان» في البيت إشارة إلى طراز من النّوق التي تحمل التّمر على ظهورها: «هذه الناقة تتقدم الحادي والإِبل، فلا يلحقها الحادي فتسير وحدها، فيسقط الغراب على حملها، إِن كان تمراً أو غيره فيأكله، فكأَنها أَهدته له وعَرضَته» (لسان العرب). يضيف ابن قتيبة: «حمراء من معرضات الغربان، يريد: أنّها تتقدم الإبل وعليها التمر، فتقع الغربان عليها، فتأكل التمر. فكأنها هي أهدته إلى الغربان» (ابن قتيبة الدينوري، غريب الحديث).
إذن، فثمّة طرازٌ محدّد من النّوق تحمل تمراً على ظهورها، وتتقدم الإبل مبتعدةً عنها مسافة، فتسقط عليه الغربان وتأكل من الحمل من دون أن تخشى شيئاً. وهذه النّوق تسمى «معرضات الغربان». والذي يجب الانتباه إليه هنا هو أن كلمة «المعرضات» تعني عارضات الهدايا في ما يبدو. إذ إن: «العراضة: هدية القادم خاصة» (الميمني، سمط اللآلئ). ويقال: «العراضة الهدية والطعام تجعله عرضةً لأهل المياه» (ابن سيده المخصص).
إذن، فمعرضات الغربان تعني: «حاملات هدايا الغربان» أو ربما «هدايا الغربان» مباشرة. هذا يعني أنّ التمر على ظهور هذه النّوق هو هدية للغراب. إنها هدية تهدى إليها، وليس «كأنها قد أهديت». فهي تحمّل بالتمر، وتُترك في مقدمة القافلة، وبعيداً عنها، كي تأكله الغربان بلا خوف.
بذا، فالغراب لا يذهب سارقاً إلى هذه النّوق. بل يذهب ليأخذ هدية ما، أو حقاً ما يأخذ شكل هدية. ولا يمكن أن يكون هذا الكرم تجاه الغراب بلا سبب. إذ لا بد أن يكون الغراب ممثلاً لإله له الحق في التمر المذكور، وأنه يأخذ التمر نيابة عن هذا الإله. ونحن نعتقد أن هذا الإله هو الذي ورد في النص الآشوري: «داي، دأي». ومن أجل هذا سمّي الغراب ابن دأيه، فهو ابن هذا الإله، أي تجسيده وممثله.

* الغراب وحجلته
ولدينا هذا الرجز الذي يؤكد أن التمر من حق الغراب، وليس غنيمة يخطفها من ناقة ابتعدت عن الركب:
قد قلت يوماً للغراب إذ حـجل
عليك بالقـود المسانيف الأول
تغذ ما شئت على غير عـجل
التمر في البئر وفي ظهر الجمل
فههنا يحجل الغراب طالباً حقه في ما يبدو، فيخبره الراجز أن يذهب إلى الجمال المتقدمة (القـود المسانيف الأول) كي يأكل من التمر الذي على ظهورها ما شاء على غير عجل، أي بأمان ومن دون خوف أو وجل. وهذا يعني أن القود المسانيف هي «معرضات الغربان». ويبدو أن عظمة كاهل الجمل سميت «دأية» لأن الغراب يقف عليه حين يأتي ليأكل تمرته، أو لأن حمل تمره يوضع عليها.
لكن الرجز السابق يعطينا معلومة إضافية. إذ يبدو أن هدية الغربان من التمر توضع على ظهر جمل أو في بئر محدد. «التمر في البئر وفي ظهر الجمل». وقد اهتمت المصادر العربية بحكاية البئر، وحاولت أن تجد له تفسيراً، فأضافت لنا معلومات عن هذا الطقس الديني، طقس هدية الغراب. والشائع في تفسير موضوع البئر هو كما يقول الميمني: «يقول: يا غراب، إن أفنيت ما عليها من التمر [أي ما على ظهور الإبل]، فإن الماء إذا استقى من البئر على ظهر الجمل خرج الرطب وجاء التمر» (الميمني، سمط اللآلئ). وهذا تفسير معقول. فالتمر في النهاية نتاج ماء البئر. لكنه ليس مؤكداً. إذ من المحتمل أن التمر الخاص بالغربان كان يوضع على ظهر الجمل أو في بئر محدد. على كل حال، فالميداني يخبرنا أن للتمر الذي في البئر قصة محددة: «أصل ذلك أن منادياً فيما زعموا كان في الجاهلية يكون على أُطُمٍ من آطام المدينة حين يدرك البُسر، فينادي‏:‏ التمر في البئر، أي من سَقَى وجَدَ عاقبة سقيه في تمره» (الميداني، مجمع الأمثال).
إذن، فحين يدرك ثمر النخيل، أي ينضج في وقته المحدد من السنة، يقف مناد ما على أطم (حصن) في المدينة ويقول: إن التمر في البئر وفي ظهر الجمل. وهذا الكلام موجه للغراب الذي يقال له ما معناه: اذهب وكل تمرك أو خذه، سواء كان في البئر أو على ظهر الجمل. فهذا التمر ضريبة سنوية تتلقاها الغربان في كل عام في هذا الوقت من السنة. ولعله لهذا السبب سمي صياح الغراب بالتعشير. والتعشير هو ضريبة العشر على المزروعات.
وكأن تعشير الغراب محدث
أن الخليط يحل في تعشار
وهذا يعني أن صياح الغراب يمثل طلباً للعُشر، أي للضريبة التي تستحق له من أهل التمر. بذا فالغراب جامع أعشار باسم الإله الذي يمثله.

* تمرة الغراب
ولعل في المثل العربي القديم المعروف «وجد تمرة الغراب» ما يدعم تحليلنا. فهو يعني من وجهة نظرنا: وجد ما يرضيه، وليس كما فهمته خطأ المصادر العربية. وهذا يعني أنه وجد هديته، أو الضريبة التي وضعت له في البئر أو على ظهر الجمل، الأمر الذي يجعله يهدأ ويسكت. وهو ما يشير إليه الزمخشري: «وجد عنده تمرة الغراب: أي، ما أرضاه» (الزمخشري، الكشاف).
في كل الأحوال، فالتمر ليس على ظهور المعرضات أو القود الأول فقط، بل أيضاً في بئر ما، كما أخبرنا شطر الرجز السابق، فماذا يعني هذا؟ والجواب كما يلي: البئر هو الماء السفلي. والغراب على علاقة بالماء السفلي. بالتالي، فالماء الذي يسقي النخلة هو ماؤه. وهذا ما يذكرنا بما قاله لنا ابن سيده في مقتبس سابق من أن العراضة - الهدية تقدم لأهل المياه: «العراضة الهدية والطعام تجعله عرضةً لأهل المياه» (ابن سيده، المخصص). وأهل المياه تعني: أصحاب المياه. وأصحاب المياه هنا هم الغراب والإله الذي يمثله.
يؤيد هذا أن الغراب في المصادر السومرية هو من زرع أول نخلة في الكون، بتعليمات محددة من الإله «إنكي»، الذي هو إله الماء السفلي. وهو لم يزرعها فقط، بل سقاها بالشادوف، وهو أمر لم يكن له مثيل من قبل: «أن يقوم طائر كالغراب بعمل إنسان، وأن يجعل الشادوف يصعد ويهبط، أن يجعله يهبط ويصعد! فمن رأى مثل هذا يحصل من قبل؟».
أما النخلة التي زرعها فكانت: «شجرة تنمو إلى الأبد. أوراقها الإبرية تحيط بقلبها. طلوعات فسائلها تصلح مقياساً للمساحين، ولحدائق الملوك. أغصانها تستخدم كمكانس لتنظيف القصور الملكية. وتمرها الذي يكوم قرب الشعير المنقى، يصلح لمعابد الآلهة العظام» ( Gilgamesh and the Huluppah Tree translated, by S.N. Kramer, 1938, URL:from: http://www.mythome.org/mythhome.htm).
وهكذا، فكل شيء يشير إلى علاقة وطيدة بين الغراب والنخلة، وبين الغراب وآلهة الماء السفلي مثل إنكي. لذا ليس من الغريب أن تكون له حصة من التمر. فالتمر نما وغلّ وأثمر على مائه.

* الزماح
ويبدو لنا أن طائراً آخر يُدعى الزماح، يضرب به المثل في الشؤم، على علاقة بالغراب ابن دأية هذا في ما يبدو. وقد أخبرنا أنه كان يقف على أطم من آطام المدينة، حسب بعض الروايات، أو فوق البيوت حسب رواية أخرى: «أشأم من الزماح طائر كان يقع على دور بني خطمة من الأوس بالمدينة، ويصيب من تمرهم، ثم يطير، فلا يعود إلى العام المقبل، فرماه رجل منهم بسهم فقتله وقسم لحمه، فحال الحول ولم يبق ممن أكل من لحمه ديّار» (أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال).
وهكذا، فالرماح يأتي مرة في العام، فيصيب التمر من دون أن يتعرض له أحد. ويمكن لنا أن نفترض أن التمر كان يوضع للغراب والزماح في بئر محدد في الحصن. غير أنّ الغدر بالزمّاح أدى إلى الكارثة.
ويمكن لي أن أقول إنني عثرت على اسم الإله الذي نتحدث عنه بصيغة «دأية» في مقطعية جبيل التي يعود أقدم نصوصها إلى ما قبل القرن الثامن عشر ق.م. نجد هذا الاسم في السطر العاشر من اللوح البرونزي (دي):
* شاعر فلسطيني