لدينا مثل وردَ ضمن بيت شعري لا نعرف قائله بيقين يتحدث عن المنذر العريان:إنا المنذر العريان ينبذ ثوبه
إذا الصدق لم ينبذ لك الثوب كاذب
غير أن الصيغة الشائعة هي «النذير العريان»، وهي الصيغة التي استخدمها النبي محمد في بدء بعثته. وقد افترض أن الشطر الأول في البيت مثل: «أنا المنذر العريان». لكنني أرى أن المثل يقع في الشطر الثاني في الحقيقة: «إذا الصدق لم ينبذ لك الثوب كاذب»، وأن جملة «أنا النذير العريان» قول على التشبيه وليست مثلاً. وقد جرت محاولات عديدة جداً لتفسير «المنذر العريان»، أو «النذير العريان». ولدينا عدد كبير من القصص التي تزعم أنها القصة الأصلية للنذير العريان، بعضها يجعل البطل رجلاً، وبعضها يجعله امرأة.
النبي وأتباعه في معركة أحد (من ملحمة سير النبي التركية - 1595 م)

القصة الأشهر تعطي بطولتها لشخص يدعى زنير بن عمرو الخثعمي: «وهو الذي يقال له: النذير العريان. وذلك أنه كان ناكحاً امرأة من زبيد، فأرادت زبيد أن تغزو خثعم، فحرسه أربعة نفر منهم، وطرحوا عليه ثوباً، فصادف [فيهم] غِرّة، فحاضرهم [غالبهم في الجري] بعد أن رمى ثيابه، وكان من أجود الناس شدّاً [ركضاً وجرياً]، وقال: أنا المنذر العريان ينبذ ثوبه/ إذا الصدق لم ينبذ لك الثوب كاذب» (ابن القيسراني، المؤتلف والمختلف).
أما القصة التي تجعل البطولة لامرأة فتقول إنّ رجلاً من بهراء يُدعى رقبة قتل أولاد أبي دؤاد الإيادي، الشاعر الشهير، فطلبه أبو دؤاد، وطلبه الإياديون وحلفاؤهم: «فلما بلغ ذلك رقبة قال لامرأته: ويلك، الحقي بقومك فأنذريهم. فعمدتْ إلى بعض إبله فركبته، ثم خرجت حتى أتت قومها، فلمّا قربت منهم تعرّت من ثيابها، وصاحت وقالت: أنا النذير العريان. فأرسلتها مثلاً» (الأصفهاني، الأغاني).
ومن الواضح بالنسبة لي أن القصتين مخترعتان، بل وأن كل القصص التي تدور حول البيت والمثل قد اخترعت لتفسير هذا المثل، وليس أصيلة. دليل ذلك أنها لا تقدمنا ولو خطوة واحدة لفهم أمر «النذير العريان». أكثر من ذلك، فإن معنى المثل أفلت من الغالبية الساحقة. فالأزهري مثلاً يرى أن المثل يضرب في الإنذار:
«ومن أمثال العرب في الإنذار: أنا النذير العريان. أخبرني المنذري عن أبي طالب أنه قال: إنما قالوا: أنا النذير العريان لأن الرجل إذا رأى الغارة قد فجئتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه، وأشار بها ليعلم أن قد فجئتهم الغارة، ثم صار مثلاً لكل شيء يخاف مفاجأته». (الأزهري، تهذيب اللغة).
ويؤكد السهيلي أن الأمر يتعلق بالإنذار، وأن النذير العريان هم المنذر الجاد: «أنا النذير العريان: وهو مثل معروف عند العرب، يقال لمن أنذر بقرب العدو، وبالغ في الإنذار: هو النذير العريان. وذلك أن النذير الجاد يجرد ثوبه، وهو يشير به إذا خاف أن يسبق العدو صوته... والنذير الجاد يسمى العريان» (السهيلي، الروض الآنف).
أما في العصر الحديث، فقد وافق الدكتور جواد علي على أنه يضرب في الإنذار وتجنّب المفاجأة: «وإذا أحس إنسان بوجود غارة، أو رأى قوماً يتقدمون لمفاجأة قومه بغارة، فعليه الإسراع لإبلاغ قومه بها قبل أن يفاجئهم العدو بغارته وهم على غير استعداد لها. وكان من عادتهم أن الرجل إذا رأى الغارة قد فاجأتهم وأراد إنذار قوم، تعرى من ثيابه وأشار بها [أي لوح] ليعلم أن قد فاجأهم أمر. ويقال لذلك الرجل «النذير العريان»، ثم صار مثلاً لكلّ أمر يخاف مفاجأت» (د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). بناء على ذلك فقد ربط الدكتور علي بين «الصريخ» وبين «النذير العريان». والصريخ هو الرجل الذي ترسله قبيلته كي يستطلع العدو. فإن رأى عدواً قادماً، صرخ بهم محذّراً، فسُمي بالصريخ. لكن هذا الربط غير سليم. فهناك نقطة مركزية تفرق الصريخ والنذير العريان، وهي أن الصريخ لا ينبذ ثوبه. ونبذ الثوب هو العنصر الحاسم في تقليد النذير العريان. وهذا النبذ خلع ورمي، وليس تلويحاً.
مضرب المثل
والحق أن المثل لا يُضرب لا في الإنذار ولا في المفاجأة، بل يُضرب في الصدق الذي علامته ودليله نبذ الثوب. بذا فهو الصدق العريان إن صح القول، أي المطلق الذي لا شك فيه. وهو ما يوضحه الشطر الثاني من البيت: «إذا الصدق لم ينبذ لك الثوب كاذب». عليه، فالنذير العريان هو النذير الصادق، وعلامة صدقه هي نبذه للثوب وعريه منه.
وقد استشهد الرسول بالنذير العريان بعد نزول آية: «وأنذر عشيرتك الأقربين». إذ جمع عشيرته وأخبرهم انه النذير العريان: «مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قوماً فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم» (فتح الباري في شرح صحيح البخاري).
وفي صيغة أخرى للحديث جاء: «أرأيتم لو أخبرتكم أن بالوادي خيلاً تُصبحكم أكنتم مصدقيّ؟ فقالوا: ما جربنا عليك من كذب. فقال: فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (فتح الباري في شرح صحيح البخاري).
وجملة «أكنتم مصدقيّ؟» في الصيغة الثانية لا تدَع مجالاً للشك في أن الأمر يتعلق بالصدق وصحة الخبر. بذا فالمثل يضرب في الصدق المطلق الذي يمثله أفضل تمثيل (النذير العريان).
بناء عليه، فتقليد النذير العريان يقوم على ثلاثة أشياء:
1- رؤية جيش عدو قادم للغارة.
2- امرأة أو رجل يرى الجيش قبل غيره.
3- نبذ المرأة أو الرجل الرائي لثوبهما، أي التعري منه.
4- إطلاق صيحة تحذير.
ويبدو أن نبذ الثوب هو العنصر الحاسم، وأنه نبذ ذو طابع ديني. ولهذا استشهد الرسول بالنذير العريان في سياق ديني، سياق البعثة النبوية. وهو ما يعني أن «رؤية» الجيش رؤية ذات طابع ديني. أي أنها رؤية تنبؤية. وهذا هو الفارق بين الصريخ والنذير العريان. فكلاهما نذير. لكن الصريخ لا «يتنبأ» بل يراقب و«يرى» بعينه. أما النذير العريان، فلا يقف على مرصد ويرى بعينه، بل يتنبأ، ونبوءته مرتبطة بنبذ الثوب. أي أن نبذ الثوب علامة على وجود وحي ما.

الخلصة وابنها الأغضف
وثمة قصة وردت في السيرة النبوية توضح لنا الأمر برمته. وهي تتحدث عن امرأة تدعى الخلصة وعن ابنها. وهذان مرتبطان بالإله «ذي الخلصة» الذي كانت تتعبده قبيلة دوس، والذي كان له معبد شهير جداً. بل إن معبد ذي الخلصة أنشئ لهما وبني عليهما. أي أنهما معاً هما الإله ذو الخلصة، أو أنهما معاً كاهناه على الأرض. وكما يكون افله يكون الكاهن. وهذا يعني أن الإله ذا الخلصة مزدوج الطابع، مكون من أم وابنها. وهو ما يجعلنا نفترض أن الإله ذا الشرى أيضاً له طابع مزدوج يتكون من أم وابنها. يؤيد هذا ما جاء عند أبيفانيوس في القرن الثالث الميلادي. فقد أخبرنا أن ذا الشرى العربي - النبطي ولد من عذراء تدعى «كابو»، مثلما ولد الأغضف من الخلصة كما تقول القصة أدناه، وأنه كان يدعى: ابن الله الوحيد. تقول قصة الخلصة:
«عن مرداس بن قيس الدوسي قال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت عنده الكهانة، وما كان من تغييرها عند مخرجه فقلت: يا رسول الله، قد كان عندنا من ذلك شيء، أخبرك أن جارية منا يقال لها خلصة لم نعلم عليها إلا خيراً، إذ جاءتنا فقالت: يا معشر دوس، العجب، العجب لما أصابني، هل علمتم إلا خيراً؟ قلنا وما ذاك؟ قالت: إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة، ووجدت كحس الرجل مع المرأة، وخشيت أن أكون قد حبلت. حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاماً أغضف له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا، حتى إنه ليلعب مع الغلمان إذ وثب وثبة، وألقى أزراره، وصاح بأعلى صوته، وجعل يقول: يا ويله، يا ويله، يا غوله، يا غوله، يا ويل غنم، يا ويل فهم، من قابس النار، الخيل والله وراء العقبة، فيهن فتيان حسان نجبة. قال: فركبنا وأخذنا الأداة، وقلنا: ويلك ما ترى؟ قال: هل من جارية طامث؟ قلنا: من لنا بها؟ فقال شيخ منا: هي والله عندي عفيفة الأم. فقلنا: فعجلها، فأتى بالجارية، وطلع الجبل، وقال للجارية: اطرحي ثوبك، واخرجي في وجوههم وقال للقوم: اتبعوا أثرها، ثم صاح برجل منا يقال له أحمر بن حابس فقال: يا أحمر بن حابس، عليك أول فارس، فحمل أحمر فطعن أول فارس، فصرعه وانهزموا، وغنمناهم. قالوا: قالوا: فابتنينا عليه بيتاً، وسميناه ذا الخلصة. وكان لا يقول لنا شيئاً إلا كان كما يقول» (ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق).
والقصة أطول من هذا. لكن المهم أن ابن الخلصة تنبأ عبر نبذ الثوب، وأن الجارية التي طلبها تنبأت أيضاً بطرح الثوب ونبذه. ونبوءته مفاجئة وليست نبوءة مراقبه. دليل ذلك أن من أطلقها طفل كان يلعب مع أقرانه. وجملة «الخيل والله وراء العقبة» تذكّر بجملة الحديث النبوي: «أرأيتم لو أخبرتكم أن بالوادي خيلاً تُصبحكم». بذا، فالأمر يتعلق بالتنبؤ بقدوم جيش عدو.
وكما رأينا، فابن الخلصة يوصف بأنه أغضف. والأغضف هو الذي له أذنان طويلتان مثل أذني الكلب. بذا، فابن الخلصة كلب بشكل ما. وهذا يذكر بإيزيس التي كان ابنها «أنوبيس» الذي يأخذ شكل الكلب. وما دام ابن إيزيس كلباً، فهي كلبة أيضال. ونحن نعرف أن إيزيس مرتبطة بنجمة «الشعرى اليمانية». وهذه النجمة تدعى «نجمة الكلب» عند اليونانيين و«كلب الجوزاء» عند العرب. بالتالي، يمكن الافتراض بأن الخلصة كلبة أيضاً. أو أنها امرأة - كلبة تكهن لإلهة شبيهة بإيزيس.
وقصة الخلصة فيها شيء من قصة مريم العذراء. فكلاهما عذراء حبلت عبر وحي ما، ومن دون وجود رجل. بذا يمكنني القول إن نص الخلصة أعلاه واحد من أهم النصوص الدينية التي وردتنا من الجاهلية. وهو نص لا يخفي علاقة بالإله ذي الخلصة وابنها وبمعبده: «فابتنينا عليه بيتاً، وسميناه ذا الخلصة».
إذن، فالنذير العريان، هو الذي يتنبأ عبر وحي لا يد له فيه. وحي من السماء. وهذا الوحي يتعلق دوماً بوصول مفاجئ لجيش من الغزاة. ونبوءة الجيش الغازي هذه مرتبطة بنبذ الثياب والتجرد منها، أي بالعري. العري هو دليل صحتها، لأن العري دليل على أننا مع وحي لا مع خبر عادي.
لكن الوحي النبوي المحمدي لم يكن وحي نبذ الثياب. إنه وحي من طراز مختلف، فهو وحي متدثر بالثياب. جاء في سورة المدثر: «يا أيها المدثّر. قم فأنذر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر». وحين استشهد النبي بالنذير العريان فإنما قصد التركيز على الصدق لا على نبذ الثياب.

مدينة الخلصة في فلسطين
وقد كانت هناك مدينة تدعى الخلصة Elusa في فلسطين وتقع على طريق القوافل بين البتراء وغزة. واسم المدينة أُخذ من اسم الإلهة الخلصة في ما يبدو. وقد أخبرنا أبيفانيوس أن الإله ذا الشرى النبطي- العربي وأمه كابو كانا يُعبدان في هذه المدينة. بذا فهناك احتمال أن ذا الشرى وأمه كابو يتماهيان من الخلصة وابنها الأغضف. وسوف أتحدث في مادة قادمة عن الإلهة كابو هذه وعن معنى اسمها.
وأخيراً أود أن أضيف أنه كانت هناك فرقة مسيحية مهرقطة في فلسطين اسمها فرقة النازوريين Nazoreans. وقد حدثنا عنها أبيفانيوس في سياق دحضه للفرق المهرقطة. ويبدو أن لهذه الفرقة علاقة بطراز من النذراء العريانين. دليل ذلك أن أتباع هذه الفرقة غادروا القدس إلى منطقة بيلا في شرق الأردن بناء على نبوءة تقول بأن جيشاً سيأتي ويحاصرها كما أخبرنا أبيفانيوس. ومن المحتمل أن الاسم «النصارى» في الإسلام أتى من اسم هذا الفرقة.

* شاعر فلسطيني