كنتُ مستلقياً على ظهري وأنا على بساطٍ من قشّ خفيف وعيناي تحدّقان في السقف حين فجأةً شاهدتُ بطرفِ عيني اليُمنى أحدَ نزلاء القاووش الثالث، في العنبر السابع ـــ من السجن المركزي ـــ وفيه غيري اثنان وسبعون نزيلاً ـــ يزحفُ صوبي على بطنِه ثم همسَ في أُذني عرفتَني؟ قلت لا. قال أنا فلان. تذكّرت أنه من حاولَ اغتيال وزير بأن أطلقَ النارَ عليه ولم يُصبْه فأُلقي القبض عليه وأُودِعَ السجنَ منذ دهرٍ سحيق، فقام وأحضرَ بساطَه وصار جاري فطارَ النومُ من عينيّ ليلاً فصرتُ أخلدُ إلى قيلولة نهاراً لأعوّضَ عن خسائر ليلي من أرقي. ثم إني اعتدتُ على جاري هذا، إذ أني وجدتُ فيه سذاجة ما أعادَ إليّ توازني، فصرتُ أنامُ ليلاً وأراقبُ حركةَ النزلاء نهاراً، فكانوا، بغرض ترويض السيقان، يذرعونَ القاووشَ جيئةً وذهاباً، زرافاتٍ ووحدانا.
لويز كافادلو ـ «سجن» (فحم على ورق ـــ 27.9 × 34.3 سنتم ـــ 1997)

وذاتَ صباحٍ وأنا أسطّر رأيي بفيلم «الوسادة الخالية» لحافظ مصر ولُبنى عبد العزيز لأقول إنه خير شاهد على صعود الرومانس وانهياره من المحيط إلى الخليج، كنتُ أُدندنُ لحنَ «أسمر يا اسمراني»، مبدأ الفيلم ومنتهاه، دنا منّي نزيل وسألَني: هلّا علّمتَني الكتابة؟ فاستغربت أنّ بين هذه الجموع أُمّيّاً، لكن أسعدَني طلبُه وقلتُ له: إنّ غداً لناظره قريب، فلا عجلة ما دُمنا في السجن قابعين، وإلى حين.
صباحَ اليوم التالي، جيء لكلّ منّا بكوب شاي وكسرة خبز وقبل أن يخرجَ ناظر القاووش من تفقّدنا أوصيتُه بقلم وورق على أن يُسدّدَ سعرُهما من حسابي الجاري من علب سجائري، فالحسبةُ في القاووش قائمةٌ على التعامل بالقياس إلى موجودات النزيلِ من السجائر، فالفلوسُ محظورٌ التداول بها داخلَ السجن، والسجائر كانت تأتيني بها والدتي يوم زيارتها لي ظهر كلّ يوم خميس، فنتحدّث من خلف أسلاك معدنية، لخمس دقائق، ليس إلّا. فما أن أعودَ إلى القاووش حتّى تصلَني منها السجائر، مع أحد حرّاس السجن، مرفقةً كالعادة، كلّ ظهر يوم خميس، بفرّوج ساخن مع عدّته من خبز وثوم وحمّص وخضار، فيتحلّق حولي عددٌ لا بأسَ به من النزلاء، نلتهم الفرّوجَ وعدّتَه ونتقاسمُ السجائر وأنا قانع راضٍ، ذلك أني طيلة إقامتي معهم لم يزرْهم أحد ولا وصلَهم قوتٌ، فكان قوامُهم إفطاراً كوب شاي وكسرة خبز صباحاً وغداءً عدساً ظهراً وعشاءً حساءً خضاراً ليلاً ثم الخلود إلى النوم فيما المصباح الكهربائي ينيرُ جفونَنا حتى مطلعِ الفجرِ فكان يضيءُ الأذهانَ الليلَ بطوله.
ومع مرورِ الوقتِ ووضوحِ رؤيتي للقاووش ونزلائه انتبهتُ إلى أن سبعةَ نزلاء يتربّعون ليلَ نهارَ في إحدى زوايا القاووش الأربع ويتحدّثون هامسين وهم قانطون، فلا يُسمع لهم صوتٌ لكنّ حركاتِ أصابِعهم في الفضاء تشيرُ وكأنّهم يتهدّدون أو يتوعّدون وبدا لي كأنّهم يعدّون لانقلاب ما. ثم إني نسيتُ أمرَهم إلى حين لاعتقادي أنهم عاجزون عن الحركةِ داخلَ القاووشِ فكيف بالانقلاب ونحن جميعاً في غرفة بحجم رُدهة أهلي للضيوف بنافذة مكوّره عالية وباب بمزلاج حديد مع ستة وستين نزيلاً غيرهم.
ثم مرّ عليّ زمنٌ خبرتُ طولَه من تلك النافذة الكوّة أعلى القاووش فمنها نهارًا نورُ الشمسِ يفيضُ إلى القاووش فيحجبُ الفكرَ النيّرَ عن عقول نزلائه، وخبرتُ عرضَه من مصباح الكهرباء يتدلّى من سقفِ القاووشِ فمنه ليلاً ضوءٌ يشعّ فلا تقوى العيونُ على النظرِ إليه فكانَ النومُ ضربَ لازبِ، بالإكراه وليسَ بالرضى، فلا يبقى للنزلاء خيارٌ إلّا الخلود إلى الأحلام الزاهية اللذيذة. وعلى هذا النحو انقضى النهار وانصرمَ الليل فكأنّه في القاووش لا نهارَ ولا ليلَ، وإنّما شيءٌ من هذا القبيل شُبّه للنزلاء، فمرّ زمن القاووش عليّ هانئاً وبعيداً عن قرقعة الكون وفوضى الوجود.
ما أن حضرَ القلمُ والورقُ حتى شرعتُ بتعليم جاري الراغب بالقراءة حروفَ الأبجدية رسماً ونطقاً، فآنسَ بي ووثقتُ به، وبعد ردح سألته ما جاء بك إلى هنا وأنت حملٌ وديعٌ. أجاب أغضبَني فلان فطعنتُه بمدية حادّة وفارق الحياة. استعذتُ بالله وانتهزتُ طبعَ صراحته فسألتُه ما بال هؤلاء السبعة الهامسين الكاسفين في تلك الزاوية من القاووش وأشرتُ إليهم بسبّابتي فأجابَ رأساً بلغة العارِف أنهم كانوا يتسلّلون بأسلحتهم إلى فلسطين زمن الحلم الرومانسي بتحريرها فاعتُقلوا وجيء بهم إلى هنا فتنفّست الصعداء وحمدتُ الله أنّ تهمتي بسيطة بالقياس إلى تهمة جماعة الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين فنمتُ ليلي قريرَ العين هانئاً.
ثمّ إنّي سلّمت أمري لقدري المحتوم بين اثنين وسبعين نزيلاً وأنا مستلقٍ على بساط من قشّ خفيف إلى أن استدعاني آمر السجن إلى مكتبه فلبّيتُ طلبَهُ مخفوراً. أبلغني أن نافذين يتصلون به يومياً طالبين منه إطلاق سراحي لعدم ثبوت التهمة عليّ، ولكن بما أن الادّعاء عليّ لا يجيز فكّ أسري، فإنّ أقصى ما يرأف بي هو نقلي من قاووش فيه اثنان وسبعون نزيلاً غيري إلى قاووش فيه ثلاثة نزلاء فأصبحُ رابعَهم. اعتذرَ عن كوني حُشرتُ لزمن طال في قاووش ضيّق فأجبتُ أني سعيد بالنقلة وفعلاً مضيتُ مخفوراً إلى قاووش فيه ثلاثة جنرالات تمّ احتجازهم قيد التحقيق معهم فاستعذتُ بالله من جديد من قدري المحتوم، فالذي خشيتُه دهَمني.
لكن والحقّ يقال أني ارتحتُ إلى مجلس هؤلاء الجنرالات نزلاء القاووش الفسيح، فلا ضجّة ولا جلبة بل هدوء وسكينة، فالجنرالات، كلّ في زاوية، وبيده كتاب بالفرنسية، وهو متكئ بكوع إلى كومة كتب وبيده الأخرى سيجارة ينفثُ دخانَها فتلتقي الأدخنةُ الوافدة من الزوايا الثلاث وتتصاعدُ معاً وتخرجُ من نافذة صغيرة مكوّرة في أعلى الغرفة، فيما أنا في الزاوية الرابعة أتساءلُ ما الذي جاء بهؤلاء العسكر إلى السجن.
إلى أن حانت الساعة تلك وكانت تلك الساعة لا بدّ آتية. في الصباح كان يأتينا الفطور من مطعم ذي نجوم خمس ترسله زوجة أحد الجنرالات، فيما ترسل الغداء أخرى من المطعم نفسه، والعشاء ترسله الثالثة ومن مطعم النجوم الخمس نفسه، وبقيتُ على هذا الغُنج والدلال دهراً أنعمُ بثلاث وجبات دسمة هانئة، فبعثتُ برسالة إلى والدتي أرجوها فيها أن توقفَ الفرّوج عنّي كلّ خميس وأن تُبقي على إحضار السجائر إليّ لأني تعوّدت على نكهتها الأميركية مع أن الجنرالات عرضوا عليّ سجائرهم، إلا أنها كانت فرنسية تصل إليهم يومياً مع الوجبات من زوجاتهم، فكانوا، بعد كلّ وجبة، يقرأون وهم يدخّنون، ثم يهمسون أنهم متى خرجوا من القاووش لأطاحوا بالنظام، فازداد قلقي وصكّت ركبتاي وسمعتُ صريرَ أسناني فقلت يا ليتني كنتُ نسياً منسيّاً، وليتني بقيتُ في قاووش البسطاء ولكن لاتَ ساعة مندمِ، فرثيتُ لحالي وقلت ها أنا من الدلف إلى المزراب. ثم جهدتُ لأعرف التهمة اللاحقة بهؤلاء الجنرالات وحمدتُ الله أنهم لم يسألوني يوماً عن التهمة اللاحقة بي. بقيتُ أنظر إليهم يقرأون والسجائر ينفثون وطعاماً شهياً أشاركهم فيه يأكلون، فقلت في نفسي لا تنقصني إلا الكتب لأصيرَ بمرتبة جنرال، على الأقلّ قراءةً. فكتبتُ إلى آمر السجن رسالةً طلبتُ فيها منه كتباً إنْ توفّرتْ وفعلاً جاءني حارسٌ في اليوم التالي بثلاثة كتب هي كرم على درب لميخائيل نعيمة ورومل ثعلب الصحراء مترجماً والبؤساء لهوغو ترجمة حافظ ابراهيم، فقرأتُها جميعها مثنى وثلاثاً ورباعاً ليس إلّا من باب الضجر والملل حتى ضاقت نفسي، لكني، والحقّ يُقال، أقرّ بأنّ الجنرالات كانوا على قسط وافر من الوقار والتهذيب فما أن يحضرَ الأكلُ حتى يقولوا بصوت واحد تفضّل يا أستاذ فأنهض من زاويتي شاكراً لطفَهم فما نسيتُ يوماً فضلَهم عليّ حتى الساعة فآمنتُ ببراءتهم، وفكّرتُ هي تهمٌ لحقتْ بهم ليس إلّا كما لحقتْ بي تهمة ليس إلّا، فقلتُ في سرّي صبراً جميلاً.
ثم كان ذات مساء نظرتُ إليه من النافذة المكوّرة أعلى القاووش فرأيتُ نجماً ثاقباً ساطعاً ذكّرني بغروب شمس خليل مطران وهو عند ساحل الاسكندرية بعيداً عن بعلبك مسقطه التي أوردَ ذكرَ أعمدتها في ديوانه عام 1900 ديوان الخليل فيما حدّد وجهة الحداثة في تقديمه له، وخطرَ في بالي تلاطمُ موج بحيرة لامارتين تعريب نقولا فيّاض، فرأيتُ أنّ الرومانسَ باعثُ الحسِّ والفكرِ على السواء، وفيما أنا ساهِمٌ في تأمّل النجم الساهر الثاقب، سمعت فجأة طرقاً على الباب فدخل علينا عشاء ونسيتُ أمر نجمي وانكشف الغطاء عن العشاء، فإذا هو شِواء ومازةٌ شهيّةٌ فاجتمعنا حولَه ورقدنا عنده كالنسّاكِ في الزهدِ ودارَ حديث ودّي، فقلتُ هذه فرصتي لسؤال الجنرالات عن سبب دخولهم إلى السجن. حاروا في الإجابة وتلعثموا، لكن أحدهم نطق بما يفسّر مآلهم. قال إن الثلاثة خرّيجو كلية طولون العسكريّة عند بحر فرنسا المتوسّطي وإن العهد الحالي اتّهمهم بالتواطؤ مع العهد البائد بالتحضير للإطاحة بالنظام السائد، فرجفتُ وخفتُ وقلتُ في نفسي يا حولَ الله من آخرتي بين صراع عسكر وعسكر، وتمنّيتُ لو أني أعود إلى أهلي لئلا تُلفّق لي تهمة أعظم مما أنا فيه. ساعتئذٍ سرى فيّ تيّارُ فزع فبقيتُ سهراناً بعدما نامَ الجنرالات أنظرُ من النافذة الكوّة، فلا أرى إلا النجمَ عينَه يحدّقُ بي وهو النجمُ نفسُه الذي أراه كلَّ ليلة من النافذة الكوّة نفسها فعجبتُ لأمري ورثيتُ لحالي، فأنا إيماني عظيم بأنّ الدنيا تدورُ فكيف إذن هذا النجمُ ثابتٌ في مكانه فيما القاووش يدورُ، أم أنّها هي هواجسي بي تدورُ ووساوسي تلتفُّ عليّ، فدبّ فيّ ارتباك لم أعهده من ذي قبل وتمتمتْ شفتاي: ألا تكفي تهمة ملفّقة لي فيما أنا أنام مع عسكر ضدّ عسكر وعيني على النجم الثاقب الساطع.
وطالَ يومي في القاووش وقَصُرَ ليلي مع النجم إلى أن فجأة سمعتُ منادياً من خارج القاووش ذاتَ صباح هتفَ باسمي وألحقَه بتعبير «إخلاء سبيل» فلم أعِ قصدَه، لكنّ جنرالاً أعلمني أن المقصود براءتي وبالتالي خروجي من السجن. ثم قُرع الباب ودخل حارسٌ وقالَ اتبعني فلحقتُ به طائعاً ووصلنا إلى مكتب وقال انتظر ولا تتحرّك وغاب ثم عاد وسلّمني ما صُودر مني يوم دخلتُ السجن، فأعاد إليّ خاتمي وساعتي وزُنّاري وقال انطلقْ الله معك. فانطلقتُ إلى أهلي ففرحوا بي وفرحتُ بهم وقالوا تمنَّ ما تشتهي قلت كنافة نابلسية فجيء بها والتهمتُها ونمتُ على حرير. فلمّا صحوتُ، جاء نذير يحملُ رسالةً تدعوني للمثولِ أمامَ المحكمة العسكرية، فطار هدوئي ثمّ خفّ وزني وهزلَ شكلي ثم تجرأتُ وذهبتُ إلى المحكمة تقودني والدتي. وهناك استمعتُ إلى التهمة أن عُثر بين أغلفة كتبي على بيانات تدعو إلى دكّ النظام دكّاً وإلى تبنّي مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، فلم أدرِ ما أقول فالتهمة صحيحة. وحين لفظَ القاضي حُكمَهُ عليّ بالمؤبّد مع وقف التنفيذ، شهقتْ والدتي وصرختْ بأعلى صوتها: حرام عليك يا حضرة القاضي، فهي لم تعِ معنى مع وقف التنفيذ، فارتجّ على القاضي وقال: تقدّم صوبي. فتقدّمتُ وهمسَ في أذني أن قُلْ لوالدتك أن تأخذَك معها فعدتُ معها سالماً معافى من وطأة العقيدة وسلّمتُ أمري إلى مقادير الزمان فنمتُ خاليَ البال ما حييتُ حتى الساعة.
* لبنان