عندما سئل إدواردو غاليانو عن الواقعية السحرية، أجاب بأنّ الواقع كله سحري، وأنّ النهل منه لا يقتصر على القصص فحسب، بل يتعدّاها إلى الشعر أيضاً. ولكن ربما، لا تكتفي القصة بالتقاط جنون أو سحر الواقع، كأن تكتفي بكونها كاميرا تقبض عليه، بل أحياناً تجعله يتحدث بطريقة مختلفة عنه. وهذا ما يلاحظ في قصص رباب هلال التي صدرت أخيراً عن «دار تكوين»، بعنوان «قومي يا مريم». القصص هنا تجنح نحو تصوير الواقع وتفاصيله في فترة الحرب في سوريا وبعدها، بلغة بسيطة ومنسابة، لتنقل تلك التفاصيل اليومية والعادية من دون أن تفتح نوافذ كثيرة للخيال. كأن هذا الواقع بالنسبة إليها هو اللغة والمعجم. في بعض القصص، استطاعت أن توجِد لحظة سحرية وخيالية تطلّ من بين المشاهد، لكن في بعض القصص الأخرى اكتفت بتصوير أحداث يقتنع القارئ بأنّها حدثت بالفعل لتشابهها بين ما نعرفه وما شاهدناه. تكتب رباب القصة كأنها تريد أن توثق مشاعر منسية داخل كتاب كبير اسمه الحرب. لذلك، نجدها تختار شخصيات من محيطها وممن تعرفهم وتجعل من حواراتهم اليومية مكاناً خاصاً ودافئاً في قصصها كأنها تريد لهذه اللغة أن تنتصر، وأن تنافس الخيال والفانتازيا لتكون بذاتها قصة ومشهداً. هذا أحياناً يجعلنا في بعض القصص نتساءل عن «المعنى»، وندرك فوراً أن الكاتبة تريد أن «تنقذ» اللحظات الإنسانية في هذه الظروف، فتصبح هي المعنى وهي اللغز.

في قصتها الأخيرة «قومي يا مريم»، تختار الكاتبة أن تجعل أبو السعيد الثمانيني ينادي زوجته النائمة والمريضة «قومي يا مريم»، ويقول لها: «عليك أن تأخذي الدواء»، كل تلك الجمل التي تبني عليها الكاتبة القصة، هي ما تتكئ إليه في سردها. فهي تريد لهذه اللغة المحكية أن تكون أداتها في بناء مشاهد نادرة، ولكنها أحياناً تغرق في تفاصيل هامشية مثل قصة «لو تمسك بي يدك» التي بنتها على جملة قالها حبيبها في المسنجر، لتأتي القصة مثل اعترافات عاطفية وبوح جميل ابتعد ليكون رسالة إلى حبيب. لكن في قصتها الأولى «إنهم هنا»، تتخيل الأم وجود أشخاص في المنزل، ثم تبدأ البنت برؤية هؤلاء الأشخاص يرتطمون بالأرض. هنا ترسم الكاتبة لوحة جميلة عن الهواجس التي تريد أن تبعدها عن أمها فتصاب هي بها. الهواجس التي تصبح جزءاً من اللغة نفسها، لأن الكاتبة تبني قصتها على تلك الجملة فيأتي وصف كل المشاهد مبنياً على تصديقنا للأم أنهم موجودون فعلاً. وهنا في هذه القصة بالذات تنقذ الكاتبة السرد من العادية فيصير غريباً نوعاً ما.
تتنوع هذه الغرائبية وأحياناً تختفي في بعض القصص لنتأمّل واقعاً استثنائياً حيث يصبح للحرب قاموس خاص ولغة خاصة كما في قصة «صباح يختلف قليلاً». تدور الأخيرة حول قصة الآنسة نجاة التي ذهبت لشراء حاجاتها من السوق وبدأ الرصاص يلعلع، فقالت كلمة «يلعن». تقول الكاتبة أن هذه الـ «يلعن» اندلعت من الأفواه أثناء الحرب متبوعةً بكلمات عدة، لكن هذه المرة تقولها الآنسة نجاة بشكل مختلف. وتتساءل الكاتبة: كيف لهذه الـ «يلعن» ألا تخرج هائجة كعاصفة؟ وفي نهاية القصة، انبثق صوت آخر يطلق «يلعن»، فتوقف الرصاص. هي علاقة اللغة مع الرصاص إذن. ففي هذه المجموعة القصصية، نلاحظ كم تنتبه الكاتبة إلى سحر اللغة وقدرتها على خلق لحظات نادرة من الدهشة، وهذا ربما يضفي جمالاً خاصاً ومختلفاً عما نشاهده أو ما نسمعه عن الحرب. إنه دخول إلى ما تفكر به هذه الشخصيات وهي تعيش حياتها العادية، في شجاراتها اليومية ولعناتها وتوقها للحياة.
تتنوع الغرائبية حيناً وتختفي أحياناً لنتأمل واقعاً استثنائياً تسوده الحرب


الذاكرة إذن هي حيز هذه الشخصيات ومكانها. واللافت أيضاً أن هذه القصص ــ رغم أنها مستقلة عن بعضها البعض ـــ تعيش في مكان واحد وتتحدث بلغة واحدة، وتتقاطع في بعض القصص مع بعضها البعض، حتى نلاحظ أننا في جو شبيه بالرواية لكنه ليس برواية، وهذا ما يميز سرد رباب هلال. إذ أن الطريق والبيت والحارة والحاجز هي البيئة التي تتحرك حولها الشخصيات. في كل قصة، هناك مشهد مميز في هذه الأمكنة، فنقرأ القصص وأنها متتالية رغم اختلافها عن بعضها، كأننا في رواية، سردها فسيفسائي. كأن الكاتبة تقترح هنا أن تكون القصة متحررة من الأحداث المتتابعة وأن تكون بمثابة نص خارج عن التصنيف، يطمح أن يكون فقط نصاً لينقل مشاعر مختبئة لا تستطيع كاميرات الحرب ولا الأفلام السينمائية أن تنقلها. لهذا السبب، تجعلنا نشعر أننا نريد المزيد من القصة التي لا تباغتنا إنما تجعلنا نريد لهذه الشخصيات أن تحلم أو ربما تخرج من حيزها ولو قليلاً.
لكن يبدو أن الحرب لا تأخذ الأحلام على محمل الجد، مثل وفا التي كانت تحلم بأن تجول الشوارع تحت المطر الذي ينهمر على رأسها الحاسر حتى اكتشفت، مع فوران التظاهرات، هشاشة أمنياتها. الأمنيات والأحلام تصغر في هذه الظروف وهذا يبدو واضحاً وجلياً في لغة المجموعة.
لذلك أيضاً، تأتي النهايات أحياناً عادية وأحياناً مفاجئة، تماماً كما يحدث في الحياة، وهذا ما تدركه الكاتبة جيداً. واللافت أنها تقول في قصة «غاردينيا بين الأصابع» إنّ «لعبة التشابيه ولع قديم بي، لا أعرف تفسيراً له» كأن هذه هي لعبتها أيضاً في هذه المجموعة التي تطمح أن تجعل شخصياتها ومشاهدها وأحداثها تتشابه مع الواقع كثيراً بلغة رقيقة وحساسة. القارئ للمجموعة سيخرج بانطباع آخر عن زمن الحرب حيث الدمار الداخلي أكثر ألماً وعمقاً، وهذه مهمة السرد الجميل بامتياز.