أصدق تماماً أن كافكا أراد فعلاً التخلص من أوراقه بعد وفاته. وأصدق كل كاتب آخر ترك وصية ـ أو سيترك وصية ـ بهذا المعنى، ولا أشكك مع من يشككون قائلين إنه لو أراد التخلص منها حقاً لتخلّص منها بنفسه في حياته، وإن تلك الوصية جزء من لعبة السعي إلى الخلود.أتصور أن أي كاتب يعرف أن التخلص من الأعمال الناقصة، وأفكار الأعمال، والأعمال المجهضة، والشذرات، والأسئلة العالقة، والصور، والقصاصات، والخربشات في هوامش الكتب، واليوميات، والاعترافات، وشتى أنواع العورات أمر شديد الصعوبة.
من رسومات فرانز كافكا

أصدق أن كافكا لم يتصور أنه يحتمل وحشة الحياة من دون هذه الرفقة، أرادها معه حتى النهاية.
أصدّق كافكا. كافكا لم يطمع في الخلود. الطامع في الخلود لا يكتب كتابة كافكا، لا يجرّب في كل كتاب طريقة جديدة للكتابة، لا يستسلم للحيرة ويتبعها، الطامعون في الخلود، يكتبون ملخصات للروايات، ويرسمون اسكتشات للشخصيات، ويفكرون في حبكة، ويستعينون بمحرر، ويستطلعون آراء أصدقاء، ويعدلون بناءً على نصائح الناشر، ويستدركون في الطبعات التالية بناءً على نصائح الباعة، ويهتمون بالغلاف، ويبتسمون في الصور، ولا يخطر لأحدهم أن بعض الناس صراصير، لأنهم لا يتأملون الناس ولا يتأملون الصراصير ولا يتأملون أصلاً، هم يغيرون على تأملات غيرهم، فيخففونها من أصالتها وعمقها ويلبسونها ثياباً ملوثة بالترتر ويوقفونها في شارع البغاء ويراقبونها من بعيد وهي تصطاد الزبائن والذباب..
أصدق كافكا، أصدق أنه أراد حرق أوراقه، وأصدق أنه، بسذاجة، وثق بماكس برود، وربما يكون كل كاتب أصيل بحاجة إلى هذا الصديق الخائن.
* القاهرة/ مصر