من يكون هذا القسّام الذي حلّق اسمه في سماء فلسطين من شماليّها إلى جنوبيّها، ومن شرقيّها إلى غربيّها، صواريخ ترافقها هتافات من حناجر أبناء شعبنا الفلسطيني، طالبةً من أبي خالد محمد الضيف إطلاق المزيد من الصواريخ القسّامية على مواقع العدو الصهيوني، دفاعاً عن الأقصى والشيخ جراح والقدس ومن أجل استعادة فلسطين! يقول مارك ساناغان مؤلّف كتاب «برق بدّد الغيوم: عزّ الدين القسام وتشكيل الشرق الأوسط الحديث» (منشورات جامعة تكساس ــ 2020): وُلد عز الدين القسّام في طائفة صوفية محلية بارزة هي القادرية، وتلقّى تدريبه الديني على يد رجل دين في الأزهر الشريف في القاهرة في (ذروة حركة الإصلاح الإسلامي الحداثية في أواخر القرن التاسع عشر). بعدها عاد إلى سوريا ونظّم في وقت لاحق مقاومة مناهضة للاستعمار وللغزو الإيطالييْن لطرابلس (ليبيا) عام 1912.

خدم في الجيش العثماني بصفة شيخ، وتمركز في دمشق خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد انتصار الحلفاء، قاد في دمشق عام 1918 انتفاضة مسلحة ضدّ الاستعمار الفرنسي في سوريا حيث حُكم عليه بالإعدام عام 1920، قبل أن يفرّ إلى حيفا في فلسطين المحتلة بريطانياً. مارس القسّام في المدينة التدريس في مدرسة للبنين كما عمل مع العمال. كان يخطب في مسجد في وسط المدينة واستقطب أتباعه من بين الشباب الذين وجدوا عملاً في الأرصفة وعاشوا في أكواخ الصفيح المنتشرة جنوبي المدينة وشرقيها. عمل أيضاً مأذوناً في قرى المنطقة وساعد في تنظيم نقابة عماليّة، وأسّس جمعية اجتماعية وسياسية للشباب. في المقابلة المعروفة الآن التي أجراها عبد الغني الكرمي عام 1930 ونُشرت بعد وقت قصير من وفاة القسّام، يزعم أنه أوضح للكرمي «إن الأمر الوحيد المتبقي لهذه الأمة هو التمسك بما في قلوب المزارعين والعمال: البساطة والإيمان والابتعاد عن المدن»، ما دفع بعبد الغني الكرمي إلى القول: إذا سمعوه، سيتهمونه بأنه شيوعي. ربما هذا ما دفع الجبهة الديمقراطية «الماوية» لأن ترى فيه قيادياً ملهماً. فالقسّام عمل عن كثب مع الفلسطينيين الذين لديهم آراء متناقضة إلى حد كبير مع الدين والمجتمع، لكنهم شاركوه هدف إنهاء السيطرة الاستعمارية على فلسطين، ومن بينهم الشيوعي نجاتي صدقي والمطران غريغوريوس حجار، أسقف حيفا القومي الملكي. القسّام لم يول اهتماماً كبيراً للتناقضات الإيديولوجية بين الإسلام المسيّس الذي اتبعه وسياسة العمل الفلسطيني التي تضمّنت الماركسيين والشيوعيين الملتزمين، حيث عمل مع رجال مثل السوري عبد الحميد حيمور، وشقيقه عيد سليم حيمور. وقد وصف نجاتي صدقي في مذكراته اتصاله السري (خفية) بالقسّام بينما كان صدقي يعمل مع العمال: ينبغي عدم التقليل من أهمية مشاركة القسّام في تنظيم أهم منظمة عمالية فلسطينية خلال الاحتلال البريطاني وهي «جمعية العمال العرب في فلسطين» التزاماً بتحسين حياة الفلسطينيين.
واجه القسّام صعوبة في تغطية نفقاته، ما دفعه للتقدم بطلب وظيفة مأذون محكمة حيفا الشرعية عام 1928 وحصل عليها. دور المأذون كان يقتضي أن يسافر القسّام من قرية إلى قرية في المنطقة، ويحضر الاحتفالات المجتمعية المهمة، غالباً بصحبة أطفاله؛ وكان يحضر حفلات الدبكة المرافقة للأعراس. ذلك كان هذا تطوراً مهماً للقسّام لعدد من الأسباب أحدها أنه كموظف في محكمة شرعية، كان في النهاية تحت إشراف المجلس الإسلامي الأعلى في القدس. الكاتب رأى أن العديد من كتّاب سيرة القسّام اعتبروا هذه فترة مهمة، عندما تعرّف إلى القرويين الأتقياء الذين التحقوا بمقاومته المسلحة، مع أن تلك الوظيفة لم تساعده في تغطية مصاريفه، وكان دخله أقل من دخل العمال الذين حضروا محاضراته، لكن من الطبيعي افتراض أنه نظر إليها على أنّها ضريبة شعوره بالواجب تجاه الأمة.
في الثلاثينيات، نظّم عزّ الدين القسّام الرجال في شمالي فلسطين في مجموعات صغيرة لمحاربة الاحتلال البريطاني والمستوطنين الصهاينة قبل أن يقضي في معركة مع قوات المستعمر في عام 1935.
الكاتب، وهو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة «تورنتو» الكندية، ناقش سيرة القسّام اعتماداً على مصادر أولية بما فيها الأرشيفات البريطانية والصهيونية، فكتب: أصبح رمزاً للتضحية والمقاومة ضد الاستعمار حيث نقش مؤلفون فلسطينيون ثلاث فئات من سيرته. هو رأى بعد مراجعة اثنتي عشرة سيرة باللغة العربية وعدد من السير باللغة الإنكليزية، إنه دهش من قصرها وسطحيتها، مع أنها تصفه بأنه «أبو القومية (الفلسطينية)»، وهي أيضاً نظرة أحادية وبعيدة لادّعائها بأن أفعاله جميعاً كانت خدمة لمبادئه الدينية.
أما المؤلفون الفلسطينيون فقد نسبوا، دوماً بكلمات الكاتب، بعض الإيديولوجيات السياسية إلى القسّام المسلم الشيعي/ العلوي وحدّدوها على أنه «وطني فلسطيني»، و«تشي غيفارا»، و«أوائل الاشتراكيين»، و«قومي عربي»، وأنه كان «مجاهداً مسلماً» شارك في الجهاد ضد «الغرب» و«الحروب الصليبية» المستمرة على المسلمين، وصولاً إلى القول: «كان لديه إيمان قوي وفهم شامل للإسلام وذكاء وقدرة على التنظيم والشجاعة وفهم الحقائق وشخصية اجتماعية وشعبية تتجاوز عمله الجهادي والدعوي... وكان متواضعاً في طريقة أكله ولبسه وعيشه وكرّس حياته بالكامل لممارسة الجهاد ونشره» ضد الغزو الصهيوني.
أصبح رمزاً للتضحية والمقاومة ضدّ الاستعمار


استطرد الكاتب في وصف القسام بالقول: على عكس الأعمال التي تناولت شخصه، فإن هذا المؤلف سيرة ذاتية اجتماعية، وهو النوع الذي يناقش الأفراد باستخدام الأساليب الأنموذجية للتاريخ الاجتماعي من أجل تسليط الضوء على التيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأوسع. فالسيرة الذاتية الاجتماعية هي ديالكتيك، طريقة لإخبار تاريخ حياة فرد واحد والتي توضح كل الطرق التي تشكّلت بها بيئته؛ إنها أيضاً طريقة لشرح تلك البيئة من خلال عدسة الفرد. في هذه الحالة، منذ إخضاع تاريخ القسام الشخصي لتقلبات صناعة الأساطير القومية، تُظهر السيرة الاجتماعية كيف كان منتجاً وفاعلاً في مجتمعه الأوسع.
يضيف الكاتب القول: السيرة الاجتماعية تُعدّ أيضاً طريقة مفيدة على نحو خاص لدراسة الثوار المناهضين للاستعمار، عندما يكون هناك قليل من التوثيق، بصرف النظر عن الروايات القومية والأرشيفات الاستعمارية. وفي هذا الصدد، فإن القسّام هو اختيار أنموذجي وغير نمطي لموضوع سيرة ذاتية اجتماعية لشخصية معروفة ومحترمة على نطاق واسع في معظم أنحاء الإقليم، مع أن المعرفة بشأن تفاصيل حياته محدودة.
خلال ثورة 1936، وبعد عدوان عام 1967، ومع اندلاع الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات، نرى مجموعات من الفلسطينيين يدّعون أنهم ورثة القسّام... لكن لا تتم الإشادة سوى بجزء من شخصه: تضحيته وعمله الاجتماعي وإيمانه. في الواقع، لقد تم دفن الصورة الكاملة لرجل من لحم ودم مع جثمانه في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1935.
موكب الجنازة كان حدثاً سياسياً استهانت به القيادة الوطنية، ولم يكن أقل من ذلك حفل تأبينه هو ورفاقه الذين قضوا معه في ذكرى الأربعين الذي كان حدثاً مشحوناً للأحزاب القومية حيث قوبلت تلك القيادة بتظاهرات شعبية مناوئة بسبب لامبالاتها الواضحة تجاه الجنازة. لذا بدأ التخطيط لتلك الذكرى بعد الجنازة بوقت قصير، وشكّلت «جمعية الشبان المسلمين» لجنة تنفيذية لغرض التخطيط لإحياء الذكرى التي كانت حدثاً وطنياً ريادياً.
مات القسّام لكنه كان قائداً يتمتع بشخصية جذّابة ذات قدر كبير من الإمكانات وتحظى باحترام كبير لتقواه في مكان يقوده أشخاص يفتقرون عموماً إلى هذه السمات. جمع مثاله الأطراف المتباينة في السياسة الفلسطينية، وعملياً استمرت المنظمة التي أنشأها في تلال شمالي فلسطين بعد رحيله، تجسيداً لما عمل من أجله: احتجاجات حاشدة في المدن وحركات تمرد شعبية في الريف. كانت ثورة 1936/39 في فلسطين هي الثورة التي أرادها، وقد مارس القسّاميون دوراً قيادياً في أيامها الأولى.
مقارنته مع تشي غيفارا، وفق كتابة المغدور غسان كنفاني لا تخلو من الشرعية، دوماً وفق رأي الكاتب. فقد وضع ضوابطَ لتحسين حياة الفقراء العاملين في حيفا وظروفهم الاقتصادية. كما أنّ أوجه التشابه بين تشي غيفارا وعز الدين القسام تتجاوز المفاهيم الثورية لطلائع الطبقة العاملة لتشمل ظروف استشهاد كل منهما.
تاريخ حياة القسام ذو تعقيدات أخرى تجاهلها المؤرخون السابقون أو قوّضوها عن قصد، دوماً برأي الكاتب. من ذلك، على سبيل المثال، محاولة عزل هويته الذاتية، والتوتر والتفاعل بين ما وصفه المؤرخون في الأعوام الثلاثين الماضية بأنه «قوميته»، مع ما كان من الواضح أنه قوته المحركة: الإسلام. فهل هو فلسطيني قومي؟ متشدد إسلامي؟ قومي عربي؟ وكيف نفسر متانة القسام؟ حتى من رافضيه الذين اعترفوا بإرثه على مضض.
لقد عبر القسام عملياً عن فكرة، وضرب مثالاً لأبناء بلده وفتح طريقاً جديداً مثل العديد من رفاقه في حيفا ونابلس ويافا. لقد فعل القسام ما لم يرغب كثيرون في القدس بالقيام به: التوجّه إلى الفلاح الذي لا يملك أرضاً أو المطرود منها، وما جعله فريداً من نوعه هو استعداده للتضحية بكل شيء، وذكّرنا بالمدى الذي سيذهب إليه الناس في النضال من أجل الحرية.
تلك بعض الجوانب من شخصية القسام ودوره في الحركة الوطنية الفلسطينية التي يتعامل هذا المؤلف معها. وعندما نتذكره، نقول: عز الدين القسّام ما كان سنياً ولا شيعياً بل كان وطنياً فلسطينياً.
وما تأثير نضالات القسام العميق في الحركة الصهيونية وقادتها؟ يورد الكاتب: قبل أيام قليلة من عدوان عام 1967، كان وزير الدفاع موشيه ديان يزور معسكرات القوات في بلدة بئر السبع في صحراء النقب والتقى بمجند عميل بدوي أخذه ديان إلى منزله لمقابلة زوجته واستذكار شبابهما. مع ذلك، كان موضوع النقاش الوحيد الذي ذكره ديان في مذكراته هو عز الدين القسام. لقد خيّم شبح القسام على ذاكرة ديان منذ طفولته، وزوّده بقدر كبير من آرائه عن العرب. كان ديان أحد الحراس الليليين في نهلال وقت هجوم القساميين على المعسكر في كانون الأول (ديسمبر) عام 1932. وبعد خمسة وثلاثين عاماً، كان القسام والرجال أمثاله كابوساً يخيم على ديان وعلى خطط الصهاينة لاغتصاب فلسطين. بعد أسبوع من ذلك اللقاء، وتحديداً في 5 حزيران (يونيو) 1967، سأل إسحق رابين الذي كان رئيس أركان الجيش، وزير الحرب الصهيوني ديان عن رأيه بشأن هجوم إسرائيلي مخطط على جنين؛ ذلك كان بعد اجتماع في الظهيرة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول وقادته العسكريين. ديان اقترح احتلال يعبد أولاً. بحسب رواية ديان، كان المكان «حيث باع أبناء يعقوب شقيقهم يوسف»، لكن الأهم بما لا يُقارن أنه المكان الذي «قُتل فيه القسام».
في أعقاب الحرب، اقتحم الجيش الإسرائيلي بلدة نزلة الشيخ زيد بالضفة الغربية وتوقف أمام منزل صغير من الحجر الجيري الأبيض على جانب التل، فوق المكان الذي قُتل فيه القسام. نزل جنود الاحتلال من الجيب وبدأوا بتفتيش منزل لعائلة من آل الوصفي. هل كانوا يعرفون أسطورة القسام قبل المجيء وجاؤوا ليروا بأنفسهم، أم أنها مجرد صدفة؟ في أثناء بحثهم عن المنزل، اكتشفوا سيفاً. كانت عائلة القسام، عهدت بها في الأربعينيات إلى آل الوصفي، الذين كانوا من أوائل المؤيدين للقائد الراحل. كان سيف القسام، الموصوف في تأبين الشيخ يونس الخطيب في جنازته، قد اكتسب أسطورة الملك العادل آرثر. الجندي الصهيوني الذي أخذ السيف من منزل الوصفي، حمل معه أكثر ما هو غرض رمزي من حياة القسام. السيف وصندوق حاجات عز الدين القسام ما زالا مفقوديْن عندما هربت أمينة القسام إلى جبلة عام 1948.

Lightning through the Clouds: fIzz al-Din al-Qassam and the Making of the Modern Middle East. university of Texas press (2020). extent: I-XVII, 272 Pages. 10 b/w illustrations. Mark Sanagan