انطفأت أمس لميعة عباس عمارة (1929- 2021) في منفاها الأميركي. كأن قدر الشعراء العراقيين الموت بعيداً عن دجلة والفرات وأشجار النخيل. ارتبط اسم صاحبة «لو أنبأني العرّاف» برواد الحداثة الشعرية العراقية أمثال بدر شاكر السيّاب، وبلند الحيدري ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي. وكان السيّاب أقرب الشعراء إليها، إذ اجتمعا في «دار المعلمين العالي» في بغداد كصديقين حميمين، وقد ترك موته المبكر ندبة في روحها كما تقول. لمع اسمها كشاعرة رومانسية عملت على تمجيد الأنوثة، في نصوص حسيّة مرهفة لا تنقصها الجرأة: «أحتاج إليك حبيبي الليلة/ فالليلة روحي فرس وحشيّة/ جسدي لا يحتمل الوجد/ ولا أنوي أن أصبح رابعة العدوية». هكذا اقتحمت بصوتها العذب وأنوثتها الطاغية الساحة الشعرية العربية، قبل أن تضطر إلى مغادرة العراق أواخر سبعينيات القرن المنصرم كمحصلة لمضايقات لا تُحتمل، لينتهي بها المطاف في مدينة سان دييغو جنوب ولاية كاليفورنيا في منزل ضيّق، وذاكرة محتشدة بصور الأمس عن شاعرة متمردة رسمت خرائط الأنوثة بقلمٍ ثخين، من دون ندم... كأنها عشتار أخرى في تمجيد الخصوبة. ولكن هل كانت صاحبة «أغاني عشتار» من ألهم السياب قصيدته «عيناك غابتا نخيل وقت السحر» حقاً؟ تجيب في حوارٍ معها: «لا أدّعي ذلك ولا أثق بالشعراء. نعم هو قرأها لي، ولكنه كان يقرأ لي كل شعره. هو أضاف «مطر مطر مطر» في ما بعد، فهذا الجزء لم يكن في القصيدة». بعد سبع مجموعات شعرية، أعلنت توقفها عن الكتابة بسبب الأمراض والشيخوخة والعزلة. كأن نهر الشعر جفّ لديها بعيداً عن منبعه الأصلي، لكنها ستحظى باهتمام نقدي لافت. قال عنها جاك بيرك إنها «شاعرة الرقة والجمال والأنوثة»، ووصفها الناقد علي الفواز بقوله «إنها كنخلة اجتثت من أرضها وهي اللصيقة بها حدّ الوله». كما رأى آخرون أنها الصورة الموازية لشعر نزار قباني في ما يخص المكاشفات الأنثوية. هذه الرقة التي وسمت شعرها، وضعتها في منطقة شعرية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها في سياق الحداثة الشعرية العربية في بواكيرها الأولى، فهذه شاعرة مسكونة بالشعر مثل جمرة مشتعلة على الدوام، جسداً وروحاً: «لو أنبأني العرّاف/ أنك يوماً ستكون حبيبي/ لم أكتب غزلاً في رجل/ خرساء أظلّ/ لتظلّ حبيبي» تقول.
في ثمانينها، وكنوع من التحية لها، جمعت «دار جداول» البيروتية قصائدها الأخيرة تحت عنوان «أنا بدوي دمي»، قدّمه الكاتب الراحل ياسين رفاعية، وقد وصف الديوان بقوله «إنه ديوان دموع رحيلٍ وأشواق، ووداعات وحياة تمور بالشعر، إذ فيه يرود الربيع الشوارع ويدقّ على الأبواب. ديوان فيه الستائر ترفع والنوافذ تشرع».