ليست العلاقة طيبة بين الديك والغراب في الثقافة العربية القديمة، بل عدائية متوترة. وجذر هذا التوتر ميثولوجي - ديني. أما الجاحظ الذي كان يستمتع بأساطير الأعراب، فقد نقل لنا بقدر من التفصيل سرّ العداء بين هذين الطائرين: «وفي كثيرٍ من الروايات من أحاديث العرب، أن الديك كان نديماً للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمّارٍ ولم يعطياه شيئاً، وذهب الغرابُ ليأتيه بالثَّمنِ حين شرب، ورَهن الدّيك، فخاس به، فبقي محبوساً». يضيف في الكتاب نفسه: «فالغرابُ عند العرب مع هذا كلِّه، قد خدع الدّيك وتلعَّب به، ورَهَنه عند الخمّار، وتخلّص من الغُرم، وأغلقه عند الخمّار، فصار له الغُنم وعلى الديك الغُرم، ثمّ تركه تركاً ضرب به المثل.... وفي جميع ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:
بآيةِ قام ينطق كـلُ شـيءٍ
وخانَ أمانةَ الديك الغرابُ» (الجاحظ، الحيوان).
توم تشامبرز ـــ «بينما يطير الغراب» (2013)

وهكذا، فقد كان الديك والغراب «صحبة كأس»، لكن الغراب الذي شرب الخمرة ولم يدفع ثمنها، رهن الديك محبوساً عند الخمار على أن يعود بالثمن، فلم يعُد. لقد ترك الديك تركة لا مثيل لها.
وقد تبدو هذه مجرد قصة لطيفة للأطفال، لكنها ليست كذلك. فهي، من جهة، قصة أصول تحاول أن تبيّن لنا سبب طيران الغراب وعدم طيران الديك. وهي من جهة ثانية ذات مغزى ديني عميق. وبيت ابن الصلت أعلاه يبيّن لنا العداء بين الديك والغراب قصة بدئية. أي أنها تسرد أحداثاً بدئية حدثت عند لحظة ما من خلق الكون. فقد حدثت القصة بينهما حين كان كل شيء ينطق «بآية قام ينطق كل شيء». والزمن الذي كان فيه لكل كائن لساناً ينطق به هو «زمن الفطحل» حسب ما أخبرنا الرجّاز الشهير رؤبة بن العجاج:
تسأَلني عن السنين كـم لـي؟
فقلت: لو عُمّرت عمر الحسل
أَو عمر نوح زمـن الفِطَـحْل
والصخر مبتـل كطين الوحل
أو أَنني أوتيـت علـم الحُكْل
علـم سليمـان كـلام النـمل
كنـت رهين هـرم أَو قَـتل.
إذ حين سئل رؤبة عن زمن الفطَحْل هذا، فقال: «أَيام كانت الحجارة فيه رِطاباً، وإذ كل شيء ينطق» (الثعالبي، ثمار القلوب). وهذا الزمن هو زمن الطوفان. إذ كنت قد اقترحت سابقاً أن كلمة «فطحل» تعريب العربي لاسم الإله المصري القديم «بتاح، فتاح» الذي حلّ الطوفان في زمنه، والذي كان بناء للسفن مثله مثل نوح. بالتالي، فكلمة «فطحل» كلمة مركبة من «فطح إل»، أي «فتاح إل»، وبمعنى: الإله فتاح. عليه فنوح مثيل بتاح وشبيهه. ونوح هو نوح الطوفان. بذا، فقصة الديك والغراب تتحدث عن زمن الطوفان، أو أنها حدثت زمن الطوفان على الأقل.
لكن ما هي جذور هذا العداء القديم بين هذين الطائرين، وما هي أسبابه؟ يمكن لي أن أقول إن العداء نابع من أن الديك يمثل المطر والشتاء، أي يمثل الماء العلوي، في حين أن الغراب يمثل الصيف والماء السفلي. بذا، فالعداء بينهما هو في الواقع تمثيل للانقلابات الفصلية. أي أنه ليس عداء بين طائرين، بل هو «عداء» بين فصلين متعاكسين متضادين، يخلف أحدهم الآخر ويطرده.
ولدينا تأكيد لهذا من التراث الشعبي الفلسطيني على ما نقول. إذ يصف لنا توفيق كنعان مشهد طلب الاستسقاء في فلسطين أوائل القرن العشرين في قرية «عين كارم» قرب القدس على الشكل التالي:
«ركبت امرأة عجوز على حمار، وحملت ديكاً في يديها، وتبعها موكب كبير من الرجال والنساء والأطفال. وبعض النساء حملن جراراً فارغة على الرأس، كإشارة لقلة الماء. وقام آخرون بالطحن على طاحونة يدوية صغيرة دون قمح. وبين فترة وأخرى، ووسط صخب الجمهور الحاشد تضغط المرأة على عنق الديك، فيزعق، وبهذا يشعر الناس أن الديك يشاركهم في التوجه إلى الله» (كنعان، توفيق، الأولياء والمزارات، 1998، ص 221-222).
الديك ماطر، والغراب فيضي و«العداء» هو بين فصلين متعاكسين متضادين


من الواضح أن اختيار الناس في «عين كارم» لديك من أجل الاستسقاء وطلب المطر ليس مصادفة. فالديك رمز مطري. كذلك، فإن ضغط المرأة العجوز على عنق الديك لكي يزعق ليس مصادفة أيضاً. إنها زعقة موافقة على طلب المطر. أي أنها مثل قول: آمين. ولعل هذا يجعلنا قادرين على تفسير المثل العربي الذي يقول: «ليس بصياح الغراب يجيء المطر» (الثعالبي، التمثيل والمحاضرة). فصياح الديك هو الذي يجلب المطر. لذا كانت عجوز «عين كارم» تضغط على عنق ديك لا على عنق غراب. عليه، فالتكملة المنطقية للمثل: «ليس بصياح الغراب يأتي المطر، بل بصياح الديك».
والغراب لا يجلب المطر لأنه ليس ممثل الماء العلوي، ماء المطر، بل هو ممثل الماء السفلي، أي الماء التحت أرضي، الذي يتبدى في العيون والآبار الارتوازية وفي فيضان الأنهار، الذي يأتي من أعماق الأرض، حسب معتقدات القدماء. لهذا تقول القصة إنّ هاتفاً جاء عبد المطلب، جد النبي محمد، طالباً منه أن يحفر بئر زمزم قرب الكعبة. لكنه لم يكن يعرف أن يحفرها بالضبط. فطلب منه الهاتف أن يحفرها عند نقرة الغراب الأعصم: «فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم» (السيرة النبوية، ابن إسحق). بذا فنقرة الغراب هي التي حددت مكان عين زمزم. أي حددت الفتحة التي سيخرج منه الماء السفلي.
بهذا المعنى، فالغراب قناقن، أي مهندس مائي، مثله مثل الهدهد تماماً. فالعرب تزعم أن الهدهد «يبصر الماء من تحت الأرض، وأن الأرض كانت له كالزجاج» (اليوسي، زهر الأكم).
بناء عليه، فحين نجد أن الديك قد حبس عند الخمار، فهو يعني أن المطر قد انحبس، وأن الشتاء قد ولى، وحلّ محله الصيف. وحين يطير الغراب ويفرد جناحه مع الصيف وفيضه، لا مع الشتاء ومطره. ووقت الطوفان أطلق نوحاً غراباً من نافذة السفينة لكي يرى إن كان الطوفان قد انتهى، فطار ولم يعد. أي لم يحبس في السفينة.
أما الخمرة، فليست للديك. الغراب هو الخمري. هو السكير الذي يشرب الخمر. ذلك أن الصيف هو الذي يخمر لا الشتاء. كما أن الماء يسري في عروق النخل والكرمة من أعماق الأرض، متحولاً إلى سكر، ثم خمرة، في الصيف لا في الشتاء. وإذا كان الديك قد نادم الغراب وشرب الخمرة معه الخمرة حقاً، كما تقول القصة التي رواها الجاحظ، فإن الغراب يكون قد أغواه، وأخرجه عن طبعه. لقد أغواه كما أغوت الزهرة الملكين هاروت وماروت. ومن أجل هذا الذنب أيضاً، يبدو أنه حبس عند الخمار.
والحق أن هذا ما يقوله أمية ابن أبي الصلت في قصيدة أخرى معروفة تبدأ بهذا الشطر: ومَرْهنةٌ عند الغراب حبيبه. تقول القصيدة:
وَأَمى الغُرابُ يَضرِبُ الأَرضَ كُلَّها
عَتيقاً وَأَضحى الديكُ في القِدِ عانِيا
فَذلِكَ مِما أَسهَبَ الخَمرُ لُبَّهُ
وَنادَمُ نِدماناً مِنَ الطَيرِ غاوِيا
وهكذا، فالغراب عتيق، أي معتوق مطلق الجناح، أما الديك فمحبوس مقيد الجناح، ذلك لأنه «نادم ندمانا من الطير غاويا». كلمة «غاويا» تفضح الأمر كله. فالديك ليس في الأصل خمرياً، بل صار كذلك بالغواية والخديعة. لقد خدعه الديك وسقاه الخمرة، فعوقب بأن فقد القدرة على الطيران.
ويستبدل الغراب في بعض القصص بطائر آخر. فهو يصير تدرجاً عند ابن سيرين مثلاً. إذ يقول لنا إنّ: «نوحاً عليه السلام، أدخل الديك والتدرج السفينة، فلما نضب الماء ولم يأتِه الإذن من الله تعالى في إخراج من معه في السفينة، سأل التدرج نوحاً أن يأذن له في الخروج ليأتيه بخبر الماء، وجعل الديك رهينة عنده، وقيل إنّ الديك ضمنه فخرج وغدر ولم يعُد، فصار الديك مملوكاً، وكان شاطراً طياراً فصار أسيراً داجناً، وكان التدرج ألوفاً فصار وحشياً» (ابن سيرين، منتخب تفسير الأحلام). وكما نرى، فالديك هنا لم يشرب خمراً، مما يدل على أن ربط الديك بالخمرة طارئ وليس أصيلاً. لقد نادم الديك الغراب، أي صاحبه صحبة كأس، مصادفة وليس طبعاً. فالديك ماطر، والغراب فيضي. وسوء الظن بينهما نابع من هذا. نابع من أنهما يمثلان فصلين مختلفين، ويمثلان طرازين من الماء العذب: واحد يمثل الماء السفلي، والآخر الماء العلوي، ماء المطر.
* شاعر فلسطيني