للمُؤرّخ المغربي الطيب بياض إمكانات هائلة على مستوى الكتابة والتفكير في موضوعات، ظلّت منسيّة في تاريخ المغرب الراهن، أوّلها تلك العلاقة الخفيّة والغنيّة، التي تنتسج بين الصحافة والتاريخ، وقد أفرد لها كتاباً هامّاً من أجل تشريح هذه العلاقة على ضوء جملة من المقالات والدراسات المنشور بعضها مُسبقاً داخل مجلة «زمان» التاريخيّة المغربيّة المعروفة برصانتها وأهميّتها داخل الصحافة المغربيّة، بحكم ما راكمته من مواد تاريخيّة مُغايرة وغير مألوفة بالنسبة إلى القارئ المغربي. غير أنّ الطيب بياض في كتابه هذا، لا يشتغل برؤية الصحافي المُنكّب على آنية الحدث وحرارته والقدرة على صياغته وتوليفه بطريقة يتماشى فيها مع ما يحدث في الواقع المغربي من أزمات، بقدرما ينزع صوب التفكير في هذه العلاقة، كما تبلورت داخل مجال البحث التاريخي الغربي، مُستنداً إلى الأساس الإبستمولوجي، الذي أفرز الحديث عن إمكانية هذا التزاوج المعرفي بين الصحافة والتاريخ. ونعني هنا الدور الكبير الذي لعبته مدرسة الحوليات في توسيع مفهوم الوثيقة التاريخيّة وانتقال مفهومها المادي الذي بلورته المدرسة المنهجية (أو الوضعية) مع كل من سينيوبوس ولانغوا، صوب كتابة تاريخيّة تأخذ طابعاً إشكالياً على حدّ تعبير جاك لوغوف. غير أنّ حرص المُؤرّخ الطيب بياض على الاعتماد على مفاهيم التاريخ الجديد، كما تكرّس وهجها لدى بروديل، لا يبقى رهين تدريب إنشائي أو بلاغة خطابية أضحت بمثابة موضة فكرية لدى بعض المُؤرّخين، وإنّما يتجاوز الأمر إلى مسألة تشرّب هذا الخطاب الفكري واختماره في صلب كتاباته التاريخيّة، بغية تجديد موضوعاتها على مستوى التفكير في قضايا وإشكالات أكثر التحاماً بالتاريخ الراهن. كما نعثر على مضامينها الفكرية داخل عدد من أبحاثه التاريخيّة الرصينة مثل: «المخزن والضريبة والاستعمار: ضريبة الترتيب 1880-1915»، و«رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنين السابع عشر والعشرين: تمثلات ومواقف»، و«الصحافة والتاريخ: إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن» في مُناسبة صدور طبعته الثانية من كتابه «الصحافة والتاريخ» (منشورات دار أبي رقراق)، أجرينا هذا الحوار مع المُؤرّخ المغربي.
بداية، كيف جاء التفكير في إعداد كتاب في موضوع «الصحافة والتاريخ» داخل مجال أكاديمي أكثر صرامة، في ما يتعلّق بمثل هذه الموضوعات المعرفية البعيدة/ القريبة من الكتابة التاريخيّة المعاصرة وتحوّلاتها الابستمولوجية؟
ــــ قد يوحي العنوان الرئيسي للكتاب بأنّ متنه يميل إلى مقاربة متحرّرة من كل صرامة منهجية أو ضوابط أكاديمية، وأنه إما تأريخ للصحافة في المغرب أو دراسة لتفاعل مؤرخين مع عالم الصحافة أو رصد لإسهامات صحافيين في مجال الكتابة التاريخية. غير أن تأمّل العنوان الفرعي، الذي غالباً ما يكون شارحاً، يبدّد هذا الانطباع الأوّل، إذ يتعلق الأمر بإضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن. أي إنه كتاب يخوض في قضايا تاريخ الزمن الراهن، بما تطرحه من إشكالات نظرية ومعرفية ومنهجية بالغة الصعوبة والتعقيد، مع ما يتطلبه الأمر من تملّك واعٍ ومسؤول لأدوات صنعة المؤرخ أو بلغة فرانسوا بيداريدا، التاريخ بين النقد والمسؤولية. لذلك، أُلح على ضرورة حضور البعد الأكاديمي والصرامة المنهجية بقوة في موضوع تاريخ الزمن الراهن، وعدم التعاطي معه باستسهال، بخاصة من غير ذوي الاختصاص، باعتباره تاريخاً قريباً أو فورياً ندرك كمواطنين تفاصيله من خلال المُعاش والمحكي. بل لا بد من مجابهة تعقيداته و«ألغامه» بالصرامة العلمية المطلوبة سواء في ما يتعلق بمسألة المسافة الزمنية والمسافة المنهجية أو مسألة الموضوعية في تدوين مرحلة نحضر فيها بصفتنا فاعلين ومتفاعلين أو شهوداً في الحدود الدنيا، أو بمسألة الاشتغال على سيرورات غير مكتملة أو العلاقة بين الذاكرة والتاريخ. وقد أبوح لك بأن الصحافة في العنوان كانت مَعبراً للخوض في ما هو أعمق على مستوى المعرفة التاريخية، خاصة المرتبطة منها بتاريخ الزمن الراهن، ومستويات تفاعل المؤرخ مع قضايا عصره، والتي تُشكل الصحافة إحدى أدواته الأساسية في هذا المضمار.

يتميّز الكتاب على مستوى أسلوبه بكتابة مختلفة إلى حد كبير عن قُحولة الكتابة التاريخيّة المألوفة في كتب البحث التاريخي، كما نقرأها عند أغلب المؤرخين، المبتدئين منهم والمعروفين. هل في نظرك، آن الأوان لتخليص الكتابة التاريخيّة من هذا الجفاف على مستوى الأسلوب من خلال الاستناد إلى أسلوب يميل أكثر إلى التعبير الأدبي ويُفجّر مكنوناته عن طريق اللّغة؟
ــــ راقني، وأنا طالب في سلك الدكتوراه، كلام سمعته للمرة الأولى من الأستاذ إبراهيم بوطالب يقول فيه: «إذا صلُح الوعاء صلُح ما فيه، ووعاء الفكر هو لغته». فرسّخ لديّ اهتماماً خاصاً بالأدب وأنا الذي كنت، وما زلت، مدمناً على قراءة الروايات وعلى سماع الشعر الحديث وقراءة القديم منه، وبدّد لديّ أيضاً مخاوف من التفريط في «لغة أكاديمية عالمة». لذلك دعوت بشدة في كتاب «الصحافة والتاريخ» إلى الانتباه إلى مركزية إحدى أهم أدوات صنعة المؤرخ المجدد، وأعني نمط الكتابة وأسلوب التعبير ولغة إيصال المعنى.


فالأسلوب الأدبي الشيّق لا يُنقص من علمية المعرفة التاريخيّة، بل يضمن لها حفاوة الاستقبال والوقع الحسن في نفوس القراء. والواقع أنني كنت أستحضر تنبيهاً في هذا الشأن للمؤرخ الفذ مارك بلوك في كتابه «دفاعاً عن التاريخ أو صنعة المؤرخ»، كما شهادة معبرة للمؤرخة الفرنسية مونا أوزوف متحدّثة عن تجربة المؤرخ المجدّد فرانسوا فوريه في بُعديها الأكاديمي والصحافي، بالقول إنه «لا يكتب لقراء الحوليات بشكل مختلف عن طريقته في الكتابة لقراء الأوبسرفاتور». بمعنى أنه على الواجهتين معاً، السلاسة المصحوبة بالعمق والتركيز ووضوح المعنى والخواتم القوية تفي بالغرض.
حصل هذا قبل أن تهبّ رياح المنعطف اللساني على حقل التاريخ خلال ثمانينيات القرن الماضي، بدءاً بالعالم الأنغلوسكسوني. لذلك بقدر ما أبدي تحفظاً إزاء اقتراح بول فين اعتبار «المؤرخ يحكي والتاريخ سرد»، ولو كان «لرواية صادقة»، لأنه جرى تحميل الموضوع أكثر مما يحتمل للطعن في علمية التاريخ، أتقاسم مع إيفان جابلونكه الكثير مما ورد في المقدمة التي وضعها للطبعة الثانية من كتابه «التاريخ أدب معاصر: بيان من أجل العلوم الاجتماعية»، والتي نقلها إلى العربية خاليد مجاد، وخاصة تفاعله مع كتاب ميشيل دو سيرتو «كتابة التاريخ» حيث يذكر أن التاريخ كتابة مخالفاً بذلك الأعراف العِلمَويّة الجاحدة. لكن عنوان كتابه، يوحي بأن لكل المؤرخين ميلاً للكتابة، وهذا ليس واقع الحال. فغالباً ما يلجأ هؤلاء إلى التقنية لا إلى الكتابة: تجميع الأرشيفات، وتزويد الكتابة بالاقتباسات، ووضع الهوامش، ويتم ترتيب كل ذلك في تصميم يؤول إلى مقدمة وخاتمة. ومن حينه، لم يعد المؤرخ ينتج نصاً، ولكن ينتج اللا نص، دراسة المتخصص، وشكل أداتي خالص، جامد، وذا لغة ميتة، لا يتوقف عن التخلي عن أدبيته. وبعبارة أخرى، هي علبة كرتون خاصة بنقل الأثاث، نملأها بالأحداث، والفقرات، وبعض المفاهيم.
لقد اختصرت المؤرخة الأميركية الكندية نتالي زيمون ديفس الأمر، في معرض جوابها عن سؤال شبيه بالسؤال الذي تفضلت بطرحه، بالقول: «لديّ مقاربة أكاديمية أوظفها في بحثي (...) ولدي ضوابط عديدة. إني أحترم قواعد مهنتنا، مهنة المؤرخ التي يتحدث عنها مارك بلوك. وهذا أمر أساسي بكل تأكيد. إلا أن أسلوبي شخصيّ. أريد الكتابة لجذب الناس وليس المتخصصين فقط».

يعيب بعض الأكاديميين على الكُتّاب والنقاد الذين يعملون على تجميع مقالاتهم ودراساتهم في كتاب، كما هو الشأن في كتابك «الصحافة والتاريخ» المتضمن مقالات منشورة مسبقاً في مجلة «زمان» المغربيّة. في نظرك ما الأساس العلمي الذي تحتكم إليه مثل هذه الآراء، علماً أنّ كتابك (وغيره) يمشي على قدمين ويتناول موضوعات مخصوصة بعينها وفي موضوع أثير، لم تستطع الأقلام الأكاديميّة على تنوّعها اقتحام عالمه من أجل التفكير والكتابة؟
ــــ لا أعتقد أن الأمر يتعلّق فقط بتجميع مقالات سبق لي نشرها، كما قد يُفهم من إشارة واردة في تقديم الكتاب، فهو إلى جانب ذلك وقبله يتضمن شقاً نظرياً ومنهجياً يُعنى بإبستمولوجيا المعرفة التاريخية، وعلاقة التاريخ بباقي الحقول المعرفية، وتحديداً السوسيولوجيا الفتية التي تطاولت عليه. وفي القسم النظري نفسه طرحٌ لقضايا نظرية ومنهجيّة مرتبطة بصنعة المؤرخ، في إطار تفاعلي مع مُنجز علمي يمكن اعتباره بمثابة دستور للمؤرّخين ناظم لمهنتهم ومحدد لقواعدها وضوابطها. يتعلق الأمر بكتاب مارك بلوك «دفاعاً عن التاريخ أو صنعة المؤرخ»، قبل أن أقتحم عوالم التاريخ الراهن وتفاعل المؤرخ مع قضايا عصره من خلال نماذج محددة، وأتوقف عند تجربة ثُلة من الصحافيين الذين خاضوا غمار الكتابة التاريخية. هذا القسم النظري، نصف العمل تقريباً، مَهَّدَ لقسم تطبيقي عبارة عن إضاءات تاريخية سبق لي نشرها. لم أخفِ غايتي منها وهي أنها تُرسخ الفكرة القائلة بأن «للتاريخ عِبره بكل تأكيد، لكن له أيضاً أدواته وآلياته لتقديم عناصر إجابة وفهم لما يعتصر العصر من تعقيدات، ذلك أن فكّ كومة تعقيدها لا تستقيم خارج السياق التاريخي المفسّر للمستبطن والخفي فيها، الكاشف لبيئة الاستنبات ومنحى التبلور ومسار التطور». كما وضحت منهجيتي ومقاربتي والتزامي مع القارئ باحترام زاوية معالجة معينة، فالأمر لم يكن اعتباطياً، بل مفكراً فيه ومصمماً بعناية؛ إذ كانت العملية تنطلق من الصحافة وتعود إليها؛ تتم قراءة خبر يكون حديث أغلب المنابر الإعلامية الصادرة بحر ذلك الأسبوع، ثم يجري تأمل الموضوع، عبر البحث عن الخيط الناظم بين الواقع والحدث من جهة والسياق والبنية من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يتطلب بعض الوقت بكل تأكيد، وقد يستدعي العودة إلى المراجع لتدقيق الفهم، قبل إنضاج الإضاءة التاريخية الشهرية في المجلة.

تشتغل لسنوات طويلة كأكاديمي متخصص في التاريخ الاقتصادي في «جامعة الحسن الثاني» في الدار البيضاء، لكن كيف اهتديت هذه المرّة إلى موضوع الصحافة والتاريخ، الذي يقع منهجياً بين معارف عدة من العلوم الإنسانية والاجتماعية؟
ــــ صحيح أن مجال اهتمامي الأساسي هو التاريخ الاقتصادي، وكتابي الأول ينتمي إلى هذا التخصص، غير أنه مع مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، دخلت تجربة للتدريس والتأطير لـ «ماستر تاريخ الزمن الراهن»، دائماً في مجال تخصصي أي التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين، وخلال هذه التجربة، بدأت الاهتمام بموضوع تاريخ الزمن الراهن، وما يطرحه من علاقة المؤرخ الذي يروم التخصص فيه بباقي الحقول المعرفية والتخصصات المختلفة، ومن بينها الصحافة، وكذا الإشكاليات النظرية والمنهجية المرتبطة بالموضوع. ما إن انتهيت من هذه التجربة التي دامت ثلاث سنوات حتى ولجت تجربة أخرى قضيت فيها المدة نفسها تقريباً. هذه المرة ضمن هيئة تحرير مجلة «زمان» في نسختها العربية، مستشاراً علمياً وكاتب عمود رأي فيها، تحت عنوان «للتاريخ إضاءة». خلال هذه التجربة الثانية ومن خلال عمود الرأي، سعيت إلى تنزيل وتفعيل خلاصات التفكير والتأمل الذي رافقني كقلق فكري وانشغال معرفي طوال السنوات الثلاث التي قضيتها في التدريس في «ماستر تاريخ الزمن الراهن»، أي خوض تمرين يهدف إلى جعل البنية الممتدة في الزمن الطويل شارحة لما يعتصر العصر من تعقيدات.
للأمانة، لم يخطر في بالي الإمساك بهذا الخيط الناظم بين التجربتين، والسفر به إلى عالم التوليف والتأليف. إذ يرجع الفضل في تحفزي على ذلك إلى زميل وصديق عزيز تجمعني به قرابة فكرية قوية، إنه الأستاذ محمد حبيدة الذي كان متتبّعاً لجميع ما كنت أكتبه في عمود «للتاريخ إضاءة». كان يقرأه وهو ما زال خاماً قبل أن يصل إلى المجلة. وبعد مدة، اقترح عليّ جمع مواد العمود وإخراجها في كتاب لأنها حسب تقديره حاملة لفكرة. ثم عاد ليجدد المقترح بعدما غادرت المجلة، فكان أن استجبت لمقترحه، بعد طول اختمار وبحث وتدقيق قادني إلى الغوص، لحوالى سنتين، في تأطير نظري ومنهجي لما رُمت عرضه على القارئ من تجربة في عالم الصحافة، مما أفرز القسم النظري للكتاب الذي يُعنى بإبستمولوجيا المعرفة التاريخية، قبل عرض التجربة التطبيقية في القسم الثاني.

داخل العالم العربي تبدو هذه العلاقة مشروخة ومُفكّكة ومأزومة في أساسها لأنّ المؤرخين العرب، لم يستطيعوا إلى حد اليوم الانخراط الفعلي داخل منابر إعلامية، حتى يسهم المؤرّخ بدوره في الواقع الثقافي الذي ينتمي إليه. ما السرّ في نظرك وراء الامتعاض من الكتابة داخل الصحافة، كما هو الشأن لدى أسماء غربية استعنت بتشريحها في كتابك من أجل فهم حدود العلاقة بين الصحافة والتاريخ؟
ــ أعتقد أن الأمر مرتبط بطبيعة تكوين المؤرخين العرب ومدى تأثرهم وانفتاحهم على المدارس والمناهج الغربية، فالنسج على منوال الاتجاه الوضعاني عَمّر طويلاً، والاجتهادات التجديدية تُزاحم للتموقع القوي على الساحة بدرجات متفاوتة في مختلف التجارب العربية. أعتبر أن نجاح تجارب المؤرخين الفرنسيين أمثال آلان ديكو ورينيه ريمون وجورج دوبي وجاك لوغوف وفرانسوا فوريه وجاك جوليار وآخرين على شاشات التلفزة واستديوهات الإذاعة وأعمدة الصحف جديرة بالاقتداء والاحتذاء. ليس هذا فقط، بل إن نجاح مجلة مثل «الحوليات» جدير بالانتباه لخلق منبر علميّ عربي يشدّ الاهتمام ويعيد الاعتبار. الشيء نفسه بالنسبة إلى الحضور الوازن للمؤرخين العرب في مختلف الهياكل الجامعية ومواقع اتخاذ القرار الأكاديمي، إلى جانب حضورهم القوي لدى مختلف دور النشر العربية. لكن على مستوى منحى الكتابة التاريخية، حريّ بنا أن نتفاعل بشكل إيجابي ومثمر مع المنعطفين اللساني/ اللغوي لتعميم المعرفة التاريخية في البلاد العربية، والهرمينوطيقي/التأويلي للتفاعل مع قضايا العصر. لأنني أخشى أن يأتي ذلك اليوم الذي ننشد فيه مع مارسيل خليفة: «درسنا تواريخ، حفظنا تواريخ، إجا التاريخ طعمانا كف».

يشهد البحث التاريخي اليوم داخل العالم العربي تواشجاً كبيراً مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، فهي بقدر ما شكّلت خرقاً معرفياً لاقتحام عوالم أخرى منفلتة من قبضة التأليف العربي، إلّا أنّها في نظر البعض، ما زالت تمثّلاتها يتيمة على مستوى البحث. كيف تُقيّم حصيلة هذا التأثير داخل الكتابة التاريخيّة العربيّة المعاصرة؟
ــ في تقديري، ما زال هناك توجّس كبير من أي انفتاح أو تفاعل منتج مع باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية، والمبرّر الخوف من تشظي التاريخ وتفتته أو فقدانه لهويته. بيد أنه وجب التذكير مع فرانسوا دوس أن إيميل دوركايم كان أحد عرابي الكتابة الحولياتية، إذ يعترف له مارك بلوك بذلك قائلاً: «لقد علّمنا أن نحلل تحليلاً أعمق، وأن نحصر المشكلات، وأجرؤ على القول إنه علمنا أن لا ننزلق إلى التفكير السهل».
مع بدايات الاستقلال، كان هناك نفور من هذه الكتابات الاستعمارية، في سياق كتابة التاريخ الوطني


ماذا عن التاريخ الكولونيالي الذي أصبح اليوم يُشكّل مادة تاريخيّة مهمّة لا يمكن الاستغناء عنها في فهم التغيرات التي شهدها العالم العربي؟
ـــ مع بدايات الاستقلال، كان هناك نفور من هذه الكتابات الموسومة بالاستعمارية، في سياق كتابة التاريخ الوطني ودحض أطروحات الاستعمار المبررة لهيمنته ومدّه التوسعي، وتدريجاً، بدأ هذا العائق السيكولوجي يتوارى فاسحاً المجال لتعاطٍ نقديّ منتج معها. في التجربة المغربية، تبرز أعمال عبد الله العروي وجرمان عياش. ثم جاءت مرحلة الإفادة من هذه الكتابات بعد تنقيتها من الشوائب الإيديولوجية العالقة بها. وهو تطوّر مفيد ومنتج، لأن إعمال آلية النقد في التعاطي مع مختلف الكتابات، بغضّ النظر عن خلفيات أصحابها، يحصّن منتوج المؤرخ من مسايرة الأهواء الواردة في هذه الكتابات، بل يجري أخذ لُبها العلمي ولفظ لِحائها الإيديولوجي.

ماذا عن التاريخ الاقتصادي، ما الأسباب التي تحول دون تحقيق مشروع معرفي داخل الكتابة التاريخية المغربية يهتم بتحليل الأنماط الاقتصادية ودراسة البُنى التاريخية الرأسمالية التي تتحكّم في طبيعة هذه الكتابة؟
ـــ هذا الأمر مرتبط بإشكالية العلاقة مع باقي فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تحدثنا عنها سابقاً، خاصة أنّ الباحث في التاريخ الاقتصادي يلفي نفسه أمام إشكاليات مركبة ومعقدة تجعل مهمته صعبة، لا سيما أنّه يشتغل في تخصص يقع في نقطة تقاطع بين حقلين معرفيين لكل منهما مناهجه وأسئلته وضوابطه. وأعني بهما حقل التاريخ الموسوم حيناً بالرصد والسرد والحدث، وأحياناً أخرى بالتركيب والمقاربة الإشكالية والبنية، وحقل الاقتصاد الذي يُعنى بالإنتاج وتوزيعه بين مقاربة الاقتصاد السياسي والمقاربة «الاقتصادوية».
في الواقع، توفّر لنا أعمال كلٍّ من إدريس بنعلي ومحمد صلاح الدين ونور الدين العوفي وسعيد السعدي ونجيب أقصبي، وغيرهم من الاقتصاديين المغاربة، مادة نفيسة لدراسة هذه البُنى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. بل إن منهم من جعل أعماله محاولةً في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب كما هو الشأن مع محمد صلاح الدين، ومنهم من يمدّ يده بكل كرم علمي للمؤرخين، كما هو الشأن مع نور الدين العوفي، الذي تفاعل إيجابياً مع ورشة تكوينية أُشرف عليها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق في الدار البيضاء، تهدف إلى تأطير طلبة الدكتوراه في مواضيع تهم التاريخ الاقتصادي للمغرب المعاصر والراهن. حاولت فيها استثمار تجربة بحثية في التاريخ الاقتصادي تمتد لحوالى ربع قرن، وتقاسم هذا التراكم في البحث مع طلبتي في سلك الدكتوراه، من خلال تتبع وتوجيه وتأطير أعمالهم التي توزعت بين البحث في تاريخ الفوسفات وتاريخ البنوك وتاريخ الكهرباء وتاريخ الفلاحة والاختيارات الاقتصادية للمغرب بعد حصوله على الاستقلال، وغيرها من المواضيع.
■ ما أهم المصادر التي يستند إليها المؤرخ العربي من أجل كتابة تاريخ اقتصادي لبلد من البلدان؟ وكيف تختلف عن باقي المصادر التاريخيّة الأخرى؟
ــــ يمكن للباحث في التاريخ الاقتصادي العربي أن يعثر في المصادر التقليدية على معلومات متفرقة تهم موضوعه، غير أن المصادر الرئيسية للتاريخ الاقتصادي المعاصر والراهن تتكون أساساً من الدراسات والتقارير المتنوعة التي تعود إلى فترة الاستعمار، وهي وإن كانت في غالبيتها الساحقة من تأليف أجانب أو من غير ذوي الاختصاص، أي من خارج حقل التاريخ، فإنها تحتفظ بقيمتها التوثيقية. وإلى جانب هذه الدراسات الأجنبية، نجد صنفاً ثالثاً من المصادر، يتكون من إنتاج باحثين في حقل الاقتصاد أو الجغرافيا.
تتميز مختلف هذه المصادر بمعطياتها الكمية والإحصائية التي تحتاج إلى الاستثمار بشكل جيد، لاستخراج ما يفيد المؤرخ في فهمه ورصده لمنحنيات البُنى الاقتصادية، وفهم السياقات الشارحة للتحولات الكبرى.

للذاكرة ثقوبها وعيوبها وبول ريكور ميّز بين الذاكرة الاصطناعية والذاكرة الطبيعية


إلى جانب اهتمامك بالتاريخ الاقتصادي، نرى من حين إلى آخر داخل المغرب اهتمامك بموضوعات من قبيل: «التاريخ والذاكرة». لماذا الذاكرة اليوم وأيّ أهمية يكتسيها هذا المفهوم إلى جانب التاريخ؟
ـــ بوح الذاكرة انبعاث وإحياء، فهي خزان لمعلومات كاد الزمن أن يطويها، إلى درجة أنّ بعضهم يذهب إلى تشبيه وفاة شيخ صاحب تجربة غنية في الحياة باحتراق مكتبة. لكن وجب الانتباه إلى أن للذاكرة ثقوبها وعيوبها، ليس أقلها النسيان والتماهي مع الخيال والانتقائية وتضخم الأنا، ويميز فيها بول ريكور بين الذاكرة الاصطناعية والذاكرة الطبيعية. وداخل هذه الأخيرة يتحدث عن المعوقة منها والمُتلاعب بها والمأمورة بشكل سيئ. ليس في هذا الأمر تنقيص من دور الذاكرة، بل فقط دعوة للانتباه لثغراتها بهدف تداركها في أفق استثمارها بشكل أفضل في حقل التاريخ. لذلك، تبقى المذكرات شهادة عن تجربة بغض النظر عن نية صاحبها وغرضه من تقديمها، وتبقى كتابة التاريخ شيئاً آخر، مختلفاً تماماً، رغم ما يبدو بينهما من تشابه، ما دامت الأولى محكومة بالأنا الشاهدة، والثانية بضوابط البحث والنقد والتدقيق والتمحيص. والحقيقة في كلتا الحالتين نسبية، إذ هي في المقام الأول حقيقة الذات صاحبة الشهادة، وفي المقام الثاني حقيقة مختبر المؤرخ.

صدر لك كتاب «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة» وهو عبارة عن حوار مع امبارك بودرقة. أي صورة ترسمها لهذا الرجل في التاريخ المغربي الراهن؟
يتعلق الأمر بالمناضل الاتحادي (نسبة إلى حزب الاتحاد الوطني ثم الاشتراكي للقوات الشعبية) امبارك بودرقة، واسمه الحركي عباس، ابن المقاوم الذي كان الإعلامي والكاتب الكبير المرحوم محمد باهي حرمة قد خصّه بمقال ضمن رسالته الأسبوعية من باريس بتاريخ 8 آب (أغسطس) 1993 تحت عنوان «حكاية الشيخ السوسي الذي عاصر الحسن الأول وزار باريس صيف 1993 مطالباً بلقاء ميتران».
بدأ امبارك بودرقة مساره المهني محامياً متمرناً مطلع سبعينيات القرن الماضي في مكتب القائد الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، ما سمح له بالاحتكاك المباشر به، في وقت كان فيه على مستوى اختياراته السياسية عضواً في التنظيم السري الذي كان يشرف عليه الزعيم الاتحادي الفقيه البصري. وشكّل إلى جانب عمر دهكون ثنائي الفعل الميداني للتنظيم في الداخل، قبل أن ينجح بأعجوبة في اللجوء إلى المنفى، فحُكم عليه غيابياً بالإعدام سنة 1973.
تولى في الجزائر مهمة الإشراف على التنظيم السري، وكان في تدبيره لهذا التنظيم يُلزم أعضاءه بتدوين كل شاردة وواردة متعلقة بالمواقف أو القرارات أو محاضر الاجتماعات، فتجمّع لديه رصيد وثائقي مهم عن هذه التجربة. بعدها، غادر إلى فرنسا حيث رافق الفقيه البصري في مسيرته عن قرب.
يعتبر أحد الممهدين الأساسيين من الداخل لأحداث 3 آذار (مارس) 1973، وأحد أهم الفاعلين والمتفاعلين مع تداعياتها وامتداداتها في الخارج. سيجد قارئ كتاب «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة، أحداث 3 مارس 1973» الكثير من معطياتها، ومستويات حضوره فيها. المُؤَلفُ الذي جاء في أكثر من 400 صفحة، تضمّن حوالى مئة وثيقة، تشهد على ما باحت به ذاكرته في هذا الموضوع.
ثم اتّجه مطلع ثمانينيات القرن الماضي صوب العمل الحقوقي حيث أسهم في تأسيس أول هيئة تهتم بحقوق الإنسان على المستوى العربي، يتعلق الأمر بـ «المنظمة العربية لحقوق الإنسان». ومن قلب هذا الاهتمام، ترسّخت علاقته بالزعيم الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي إلى أن صار رجل ثقته وكاتم أسراره، فكان الوحيد الذي أقنعه بكتابة مذكراته التي نسق إصدارها تحت عنوان «أحاديث في ما جرى». دامت تجربته في المنفى بين 1973 و2001. وبعد عودته إلى وطنه، كرّس جهوده للعمل الحقوقي والعدالة الانتقالية، حيث تم تعيينه عضواً في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لولايتين، ثم عضواً في هيئة الإنصاف والمصالحة، وبعد ذلك عضواً في لجنة تنفيذ توصيات الهيئة. وقد توّج تجربته داخل هذه الهيئة بإصدار كتاب مشترك مع زميله في التجربة نفسها أحمد شوقي بنيوب، تحت عنوان «كذلك كان» الذي يُعدّ بحق ذاكرة توثيقية ثرية لتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا