يصف باسكال إنجل ما يحدث اليوم على امتداد مساحة الكوكب بأنه «ابتذال واسع النطاق»، كمحصّلة لانتصار إمبراطورية «ما بعد الحقيقة» على قوانين العقل. ما يطالب به الفيلسوف الفرنسي المضاد للتيار السائد، هو إعادة ترميم المشهد الفكري بأسئلة جوهرية تتعلّق بالمنطق واللغة والعقل في مواجهة نبرة التخلّي التي انزلق المثقفون إليها، بالتركيز على «الخطابة والمبالغة في عرض الأفكار المتطرفة بدلاً من الجدل والوضوح والرصانة، بل إنهم ذهبوا إلى حدّ اعتبار التمييز بين الصواب والباطل أمراً قمعياً وغير مبرّر! ثم شعرت الفلسفة التحليلية كأنها نسمة من الهواء النقي». في كتابه «رذائل المعرفة» التي ستصدر نسخته العربية عن «دار نينوى» قريباً (ترجمة قاسم المقداد)، يفتح الفيلسوف الغاضب عدسته على اتّساعها ضد اللامبالاة مشككاً في الأخلاق الفكرية التي انجرف إليها المثقفون في سلوكيات مخجلة لجهة «الانتحال، والسطو على عمل أحد المؤلفين، والتغاضي المقصود عن مصدر ما نقتبس منه، ووضع كتاب علمي بطريقة صحافية، وقراءة مقالة مرسلة إلى مجلة علمية بسطحية، وعدم الاهتمام إلا بكتب الأصدقاء بطريقة المداهنة واستبعاد الكتب الهامة وتقصّد عدم ذكرها، ومنح الجوائز الأدبية للأصدقاء وانتظار المقابل منهم، ونميمة فيروسية على وسائط التواصل الاجتماعي». قائمة طويلة من الاتهامات التي يعدّها خرقاً للأخلاق الفكرية في المقام الأول، وغياباً لروح المسؤولية، كأن الادّعاء وعدم الاكتراث والخديعة وخطل الرأي، هي الصورة الكاملة للممارسة الثقافية التي غرقت تدرّجاً في الفوضى والفساد والعفونة، وهو بذلك يفرّق بين الأخلاق عموماً، والأخلاق الفكرية على نحوٍ خاص، إذ لا تعنينا هنا ممارسات السياسي الذي يوزع الرشى، والمحامي الفاسد، وذاك المجهول الذي ينقر ويبعث برسائل النميمة على الإنترنت... كل هؤلاء ينتهكون أحكاماً أخلاقية في مهنتهم أو ببساطة دورهم، والأخلاق بشكل عام. ينبه إلى أن الفرق الوحيد بين هؤلاء وأولئك ينطوي على أنهم لا يمارسون - على الأقل ليس من أولوياتهم - مهناً توضع في عداد المهن «الفكرية»، وأن أسباب ونتائج سلوكياتهم لا علاقة لها تحديداً باكتساب المعارف ونقلها، أو بإصدار حكم في مجال المعرفة. في باب آخر، يرصد باسكال إنجل أحوال الحماقة المعاصرة بوصفها رذيلة معرفية أخرى، ومرضاً يصيب المعرفة. فالحماقة، بالمعنى المعاصر، وهو معنى نفسي قبل أن يكون معنى أخلاقياً، تدل أساساً على «نوع من نقص الكفاءة، أو على شكل معيّن من الجهل الذي يتصف به المضطربون عقلياً؛ لكنه يدل أيضاً على عيب في الأداء، أو سوء استخدام كفاءة متوافرة، أو سوء ممارسة». عدا الأحمق «فكرياً»، هناك الأبله، والمغفّل، ذلك أن الساحة تتسع لهؤلاء جميعاً. باستعارة من ميلان كونديرا، فإن اشتغالات باسكال إنجل تنطوي على هتك وتفكيك عبارة من طراز «خفّة المعرفة التي لا تحتمل»، وصولاً إلى «مصنع الجهل».