يأتي سرد الروائية الكويتية منى الشمري شاعرياً ومجازياً في روايتها الجديدة «خادمات المقام» (دار الساقي)، فهي لا تجعل السرد يشرح أو يحلل القضية التي يشير إليها، فهو فقط يومئ إليها. خادمات المقام هنّ هؤلاء النساء اللواتي تتحدث الروائية عن دواخلهن بلغة تصف أحوالهن وطريقة تفكيرهن على أنها جزء من حالة عامة تجعلها شاعرية بلغتها السلسة والغريبة.تبدأ الرواية بوصول غريقة إلى أرض المقام، فيتأمل الجميع الجثة، وهي بداية شبيهة ببداية قصة «حكاية أجمل رجل غريق في العالم» لغارسيا ماركيز. لكنّ المثير هنا أنها غريقة وهي حامل. ينجو الجنين بينما تغرق هي. يختلف طبعاً السرد هنا لأنه يحاول أن يقول أشياء كثيرة عن علاقة النساء بالخرافة وتصديقهن بأن مقام الخضر يشفي المرضى والمتألّمين. وتقوم سيدة اسمها ماريا بالإشراف على هذا المقام تساعدها زبيدة ومنيرة.

استطاعت الكاتبة بذكاء أن تختار لكل شخصية ألمها الخاص، واختارت شخصية متمردة هي «عذبة». لكن «عذبة» أيضاً كان لها ألمها، وهي عذبة فعلاً كما هو اسمها، لأن الجميل أيضاً أنّ لهذه الشخصية هدوءاً ما لم يجعل تمرّدها كما نشاهده في الواقع أو في الروايات. فقد اختارت لها كتابين لكي يرافقاها هما: القرآن وكتاب الجاحظ الذي تخصص الكاتبة لأقواله وفلسفته مكاناً خاصاً على طول الرواية. هذا التمرد هو تأمل في حقيقة هذا المقام، وفي أنّ الخوف هو ما يدفع النساء وأهل جزيرة فيلكا إلى تصديق ذلك. هذا التأمل لم يجعل عذبة تخاصم هؤلاء النساء أو تبتعد عنهن. كانت ترافقهن وتسائلهن وتجيبهن بآيات من القرآن، هي واحدة منهن لا أكثر. تختار الكاتبة أيضاً نهاية تليق بجميع الشخصيات التي لا تتحقق فيها أمنياتها، بل ربما تتعقّد المصائر. فالعاقر تبقى كذلك، و«عذبة» تبتعد عن حبيبها، لكنّ المقام أيضاً يهدم، فتقوم بلدية الكويت بناءً على فتوى من وزارة الأوقاف بهدمه. وتشير في نهاية الرواية إلى أنّ ذلك حدث في عام 1976. تحاول الكاتبة في تلك النهاية أن تشير إلى نهاية تهدم فيها الخرافة التي لا مكان لها في الدين أيضاً، إنما في العقول التي تصدقها.
استطاعت الكاتبة بذكاء أن تختار لكل شخصية ألمها الخاص


لا تبدو الراوية في الرواية إلا واصفة لما يجول في أعماق هؤلاء النساء، وهي بعيدة على مسافة ما من الشخصيات والأحداث. كأن ذلك ما تريد أن تهتم به بغضّ النظر عن انتقادها لها، فيشعر القارئ أنه أمام مشهد غرائبي يحدث ربما في الواقع في قصص أخرى مشابهة، وهذا ما يجعل في الرواية جمالية ما، حيث النساء لا يبدون هنا ضحايا أو غارقات، فنصدق قصصهن وندخل في عالمهن كأن ما يحدث في المقام حقيقة. لذلك نصل إلى النهاية ونحن متأكدون بأن الألم الذي يستمر هو الذي سيهدم المقام مجازاً.
لا تبتعد الكاتبة كثيراً لاختيار نموذج ما لنقد الواقع، فهي تختار الجاحظ لأنها تدرك أن ما في التراث العربي ما يناقض وينتقد أسلوب الحياة القائم على الجهل. ولذلك، تستشهد بأقواله في بداية كل فصل، كأن تكتب قوله: «داء الجهل ليس له طبيب»، لكنها في الوقت نفسه يتراءى وكأنه كشاهد من بعيد لا يحضر في الرواية إلا من خلال القارئة «عذبة» التي تذكر أقواله. وهذا حضور يخدم الحبكة ولا يجعل لتدخل الثقافة وحدها، حيث صيرورة الحياة أيضاً تناقض الخوف والجهل.
يقول الكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه «الأدب والغرابة» إنّ الوفاء لعالم الألفة لا يعني الانفصال عن عالم الغرابة. وهذا ما يلاحظه القارئ في الرواية، إذ تدور الأحداث في منطقة مألوفة وبواقع شبيه لما يحدث للنساء في العالم العربي. لكنّ الغريب هو أن هؤلاء النساء، خادمات المقام، هنّ قويات وتحاول كل واحدة أن تنقذ نفسها من ألمها. ورغم جنون اللامنطق في أن المقام مبارك ويشفي ويحل المشاكل، إلا أن النساء حاضرات بقوة رغم حضور الشخصيات الرجولية. تجعلهن الكاتبة مسؤولات عن مصائرهن الشخصية، فخالد وفهد والتاجر اليهودي وسيدنا الخضر أيضاً موجودون، لكنه حضور لا يطغى على حضور النساء.
لا تفتعل الكاتبة خلاصاً ما للشخصيات سوى نهاية متأمّلة في حقيقة الأشياء، ما يجعلها رواية سلسة عن عالم ربما ما زال موجوداً. تجعلنا الرواية نرى جماليات قبحه في محاولة لإنقاذه، كما فعلت هي عن طريق اختراع شخصيتَي عذبة وخالد. ويجعلنا ذلك أيضاً نسأل: هل الكتابة هي محاولة لإنقاذ الجمال عبر سرد عوالم القبح بفنية ما؟ تجيب الروائية لنا: إنه فن إيجاد طريق جميلة عبر القبح والظلم الطاغي على العالم. نشعر أن «عذبة» ربما هي عليها أن ترفض أكثر، لكننا نصدقها في أنها تتأمل أولاً ما يحدث.