فازت مجموعة «خطط طويلة الأجل» (دار العين –القاهرة) للكاتب محمد فرج بـ «جائزة ساويرس» (فرع القصة القصيرة لشباب الكتاب)، التي أُعلن عن نتائجها أخيراً بعد تأجيل دام أشهراً بسبب كورونا. اللافت أنّ القائمة القصيرة التي أُعلن عنها بداية العام ضمت مجموعات متميزة ومختلفة في تنوعها، تأخذنا إلى أسئلة تتعلّق بفنّ القصة القصيرة الذي انزوى بدرجة كبيرة وأصبح حضوره مبهماً، بسبب صعوبة نشره ورفض الدور استقباله بحجّة قلّة أرباحه. تشتّت مفهوم «القصة القصيرة» في مصر خلال العقد الماضي واختلط أحياناً لدى البعض بشكل «قصيدة النثر الكتلة». إذ انتفى عنصر مهمّ فيها هو عنصر الحكي، وتغلّبت الشعرية أو الغرضية المجانية التي هي في الأساس سمة قصيدة النثر، على أغلب التجارب الصادرة. وظهرت لدينا تجارب متساهلة مع فكرة القصة القصيرة جداً، والقصة الومضة، التي هي في الأساس ــ على قصرها ـــ فنّ صعب جداً تندر أصواته الأصيلة.

لكن يبدو أنّ هناك صعوداً ما خلال السنوات القليلة الماضية تجلى في عودة الحكاية إلى القصة وضخّ دماء جديدة في الوسط الأدبي المصري. ومن هذه المجموعات «خطط طويلة الأجل» التي يصدرها فرج بجملة سردية هي ملخص لفلسفته في الانطلاق لكتابة القصص: «غالباً يكون الواحد شاباً، يتصور أن العالم إما أن يسير كما يرى، وإما سينهار العالم ويزول، ولكن مع الوقت ينهار الواحد ويزول، ويبقى العالم يخرج من هستيريا إلى أخرى بسلاسة مطلقة». وهكذا يسير فرج خلف عالمه المليء بالعنف السهل وبغرائبية تحمل داخلها المدينة كمكان موازٍ لسارد يحاول أن يكون حيادياً رغم تورطه في الجريمة وتسببه في الفوضى التي تخلخل العالم.
تقع المجموعة في 15 قصة متوسطة الطول متخذة ضمير المتكلم لسرد كل القصص، مما يشي بأنّ السارد في كل القصص هو واحد، يتخذ من نفسه نقطة انطلاق نحو تشييد العالم الجديد. يكتب فرج في إحدى قصصه إن «كتابة قصة هي محاولة للمشي في العدم، على أن تصبح كل خطوة تحويلاً لهذا العدم إلى جزء من العالم». لكن يبدو أن فرج يبتدئ سرده من عالم شخص معروف له مفككاً إياه، مندهشاً ومتسائلاً حول وجوده ليذهب به إلى العدم لا العكس. فالغياب هو غاية كل حكاياته، مستخدماً العنف والحياد مفهومين أساسيين تتسم بهما المجموعة.
يبدأ فرج مجموعته بتعريف بالسارد من خلال قصته «أثر المنديل» حيث البطل الضخم المسالم، الذي تضيع نظارته، أو بالأحرى يضيعها رغبة منه في الانتحار، كأن هذه القصة تعمل بحكمة «لا تحاول إيقاظ العمالقة، لأن عواطفهم لا يتحملها العالم». وهو ما يسحبنا إليه فرج بخفة بقصصه من الوداعة إلى قمة العنف، من الملل الذي يسيطر على حياة الشخصيات إلى الانفجار الكبير، فيتحول السارد على مدار القصص من شخصية مسالمة أو تائهة إلى شخصية القاتل بدمٍ بارد بحثاً عن المتعة أو عن معنى للحياة.
تتجلى السلطة بكل ثقلها في قصة «عشاء خاص»


هذه الكابوسية التي تنتاب عالم القصص فجأة ليست نابعة من منطقة الأحلام، بل من عالم موازِ، حيث الشخوص والأمكنة موازون لشخوص وأمكنة في عالم بعيد تبدو فيه المدينة كمكان للفوضى والعنف والرقابة المستمرة، وتخيم السلطة بوجودها المعنوي على كل شيء من دون تدخل مادي منها في حياة الشخص أغلب الوقت، فتصبح محركاً أساسياً بل جزءاً لا يتجزأ من الشخصيات. كأن انتفاء وجودها المادي يحولها إلى مكون أساسي داخل الشخصيات، إلى أعضاء جديدة في أجساد خائفة وعبثية تحركها نحو مصيرها المجهول. تتجلى السلطة بكل ثقلها في قصة «عشاء خاص» حيث يزور الديكتاتور بيت السارد ليتعشى معه وأمه، وهذا يعني أن مصيرهما مهدّد، وأن حياتهما رهن سلطة الديكتاتور. في هذه القصة، يبدو العالم منفتحاً على الموت في أقصى صورة، فالأحياء سيذهبون للموت بإشارة واحدة من الديكتاتور، والأموات يأتون في زيارات فجائية لحياة الشخوص جالسين في صمت مكررين فقط أفعالهم المعتادة في حيواتهم السابقة.
تتسم مجموعة «خطط طويلة الأجل» بتغييب الزمن. ورغم أن العنوان يشي بالسير داخل أزمنة محددة، لكن الزمن يبدو هنا كأنه كل زمن، كأنه ممتد ومتصل مع شعور السارد والمتلقي به فقط. يستخدم فرج العنف كثيمة أساسية ظاهرة ومخفية في مجموعته، ويستخدم الحياد كنوع من العنف، كسلاح في يد السارد موجه ضد العالم، ومن العالم إلى عقل السارد الذي تدور بداخله كل هذه الفوضى. فالحياد هنا ليس مجرد فرجة، ولكنه أيضاً في استخدام لغة غير شاعرية لوصف العاطفة، أو للتعبير عن القلق والخوف والجنون، أو في تحييد المكان في عوالم القصص، فالمكان هنا فضاء متّسع لأن يكون أي شيء، فالمدينة المتربة هي عربة قطار، فالمكان هنا مجرد وعام ليعكس العبث والجنون.
نحن أمام سارد متعدد الأوجه، فهو المسالم اليائس الباحث عن المعنى، التائه والموظف، كل هذه الأوجه تستر تحتها وجهاً عنيفاً يتجلى بفجاجته في قصة «نوستالجيا». القتل هنا شيء اعتيادي وبسيط، حيث يمارس البطل وأخوته القتل كتسلية، تُبرز هذه القصة الدموية المكبوتة والمخبأة تحت ستار وديع في بقية القصص. هنا نستطيع رؤية العنف الممارس ضد الإنسان من خلال الفوضى التي تحيط به أو من خلال حياده تجاه الموت وتجاه أفظع الأفعال الإنسانية.