أعجبت المصادر العربية أيّما أعجاب ببيت امرئ القيس الذي يقول فيه:كـأن قلـوب الطير رطبـاً ويـابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي
فبالنسبة لهم، أتى الشاعر في هذا البيت بتشبيه مزدوج. فقد شبّه قلوب الطيور التي اصطادتها العقاب بالعناب والحشف. فالقلوب الغضّة الحديثة حمراء كالعناب، أما القلوب القديمة فيابسة كالحشف، أي كالتمر الجاف الرديء. وفي حديث الرسول: «أحشفا وسوء كيلة؟».
وقد بين الجرجاني أن تشبيه امرئ القيس هذا تشبيه متعدّد وليس تشبيهاً مركّباً. ويبدو لي أنه لم يكن مثل غيره شديد الغرام بهذا التشبيه المزدوج: «فصل في التشبيه المتعدِّد والفرق بينه وبين المركّب»: «اعلم أنِّي قد قدّمتُ بيانَ المركَّب من التشبيه، وها هنا ما يُذكَر مع الذي عرَّفتك أنه مركَّب ويُقرَن إليه في الكُتب، وهو على الحقيقة لا يستحق صفة التركيب، ولا يشارك الذي مَضَى ذكرُه في الوصف الذي له كان تشبيهاً مركّباً، وذلك أن يكون الكلام معقوداً على تشبيه شيئين بشيئين ضربةً واحدةً، إلّا أن أحدهما لا يداخل الآخر في الشَّبه، ومثاله في قول امرئ القيس:
كأنَّ قُلُـوبَ الـطَّـير رَطْـبـاً ويابـسـاً
لَدَى وَكْرِهَا العُنّابُ والحشَفُ البَالي
وذلك أنه لم يقصِد أن يجعل بين الشيئين اتصالاً، وإنما أراد اجتماعاً في مكانٍ فقط... اجتماعُ الحشَف البالي والعُنّاب... ولا فائدة لأن ترى العُنّاب مع الحشَف، أكثر من كونهما في مكان واحد، ولو أن اليابسة من القُلوب كانت مجموعةً ناحيةً، والرطبة كذلك في ناحية أخرى، لكان التشبيه بحاله، وكذلك لو فرَّقت التشبيه فقلت: كأنّ الرَّطب من القلوب عُنّابٌ، وكأنّ اليابس حَشَفٌ بالٍ، لم ترَ أحدَ التشبيهين موقوفاً في الفائدة على الآخر، وليس كذلك الحكم في المرَكَّبات التي تقدَّمتْ» (الجرجاني، أسرار البلاغة).
الحشف يميناً، والعناب يساراً

وحسب الأصفهاني، فقد كان بشار بن برد مفتوناً بهذا البيت وراغباً في تقليده: «قال: لم أزل منذ سمعت قول امرىء القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت واحد حيث يقول:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العنب والحشف البالي
أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين في بيت حتى قلت:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه» (الأصفهاني، الأغاني)
أما أنا، فقد كان لديّ شعور بأن ثمة مشكلة في التشبيه بالشكل الذي هو فيه. إذ كيف تكون هناك قلوب طرية للطيور على باب وكر العقاب؟ ولم تركتها العقاب من دون أن تأكلها؟ لم عافت هذه القلوب على وجه الخصوص؟ ثم إذا كانت العقاب قد عفّت عنها وتركتها، وهو أمر غريب، فكيف يمكن لهذه القلوب الطرية أن تتيبس عند وكر العقاب؟ كان النمل سيأكلها على الفور لو أنها تركت على باب وكر العقاب.
وظلّ التشبيه في البيت يحوم في رأسي، ويصنع لي صداعاً. فالشعور بوجود خطأ ما، وعدم القدرة على تحديده يصدّع الرأس. وكنت بين الحين والحين أعود إلى البيت، وأعيد قراءة ما كتب عنه علني أكتشف الخطأ.
كان النعمان إذا صادف أحداً في يوم سعده كافأه وأفرحه، وإن صادفه في يوم بؤسه ونحسه ذبحه كالخروف


ثم، وفي لحظة ما، بدا لي أنني أمسكت بمكمن الخطأ. فهناك تصحيف ما أصاب كلمة «قلوب» هو الذي كان يمنعني من الاستمتاع بالبيت. فالأصل هو «قنوب» وليس «قلوب»:
كأن قنوب الطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي
والقنوب جمع «قُنْب» وهو، حسب «لسان العرب» ما تخفي فيه الكواسر والجوارح مخالبها: «قَنَبَ الأَسدُ بمِخْلَبه إِذا أَدْخَلَه في وِعائه». يضيف: «قُنْبُ الأَسد: ما يُدخل فيه مخالبه من يده، والجمع قُنُوب، وهو المقناب، وكذلك هو من الصقر والبازِي» (لسان العرب). يضيف الزمخشري: «قنّب الأسد مخلبه: غيّبه في مقنبه، والفرس قضيبه في قنبه. وقنب المخلب والقضيب: دخلاً في القناب والقنب. ورجع الصائد وقد ملأ مقنبه وهو مخلاته التي يجعل فيها ما يصيد» (الزمخشري، أساس البلاغة).
بالتالي، فامرؤ القيس يتحدّث عن مقانب الطيور، وخاصة الطيور الجوارح القوية منها، الملقاة على باب وكر العقاب. فقد اصطادتها العقاب، وأحضرتها إلى عشها، ثم مزقتها وأكلتها، أو أطعمتها لفراخها، تاركة ما لا يؤكل منها، كالمخالب والقنب، مرمياً على باب الوكر. وقد كان على باب وكر هذه العقاب من هذه القنب ما هو قديم جاف مجعد كالحشف، أي كالتمر الناشف الرديء، وما هو بعد حديث طري بلون وردي كالعناب.
وإذا صحّ ما نقول، فلدينا تصحيف عمره من عمر عصر التدوين العربي، أي ما يقرب من 1300 عام على الأقل. لكن هذا التصحيف لم يمنع الشعراء وهواة الشعر من الاستمتاع بالبيت. بل لعلّه زاد من إعجابهم به من ناحية محدّدة. بذا فالخطأ قد يكون مثمراً أحياناً.

المخالب سوداء، والقنب، أو المقنب، أصفر محمر كالعناب وحين يطوي الجارح مخالبه يضم عليها القنب ويخفيها

على أيّ حال، فقد كنت في مادة سابقة لي في «ملحق كلمات» قد اقترحت أن هناك أيضاً تصحيفاً في جملة امرئ القيس التي يفترض أنها قيلت بعد قتل والده (اليوم خمر وغداً أمر). فقد افترضت أن الجملة في الأصل شطر بيت شعري، وأنها تقول:
اليومَ خمرّ، وغداً إمَرُّ
أما الإمرّ فهو الخروف. بالتالي، فامرؤ القيس يخبرنا أن هناك يومين للإنسان هما يوم الخمر والفرح، ويوم التعس. وفي يوم التعس، يكون المرء ذبيحاً كالإمرّ، أي كالخروف. بذا فالقول تنويع على اليومين الشهيرين في الأدب العربي القديم، يوم السعد ويوم النحس. وهما ينسبان إلى النعمان بن المنذر، أو لغيره. وكان النعمان إذا صادف أحداً في يوم سعده كافأه وأفرحه، وإن صادفه في يوم بؤسه ونحسه ذبحه كالخروف.
* شاعر فلسطيني