في المدينة طفل يسعى، يحثّ الخطى تثلم طرقاتها الضيقة، يرى أعمدة الدخان تتصاعد من بعيد. خطواته القصيرة المتسارعة تضرب الحصى تحت قدميه الحافيتين، فيتطاير على جنبي الطريق. لا وقت لينظر إلى محطّ الحصى، لا وقت ليرفع ناظريه ويعاين البيوت المتهالكة عن اليمين وعن اليسار. تغيب عن ناظريه أحجارها، أكلها تحالف اللونين الأسود والأخضر، أحجار كانت في ما مضى حمراء لون الغروب. استوردها البنّاؤون الأوائل من مقالع الجبل الأحمر شرقيّ المدينة. الجبل الذي تعب في دهاليزه أباء وأجداد الطفل، اعتاشوا، لقرون وقرون، على قلع الصخور وتفتيتها بأيديهم العارية. استعاروا من قساوة الجبل الأحمر قساوة إضافية مع كل جلمود قهروه تصغيراً إلى أحجار، ارتفعت مداميك في المدينة. ومع كل مدماك زخّروا زنودهم القسوة ليقهروا الجبل أكثر فأكثر، حتى تهالك. «القبيلة الحمراء» عرفهم به اسماً أهل المدينة، أدواتهم، يقهرون بها المارد الأحمر شرقيّ المدينة، فقط الأزاميل وسواعدهم.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
بدأت الطرقات تتّسع أكثر فأكثر، وبدأت قدما الطفل تتباطآن، تنبّه إلى البيوت على ضفتي الطريق، ونظر إلى مواقع الحصى المتطاير على الأرصفة. أدار رأسه يمنة ورفع عينيه إلى صفّ البيوت المتراصفة، لاحظ السواد الذي طبع حمرة أحجار البناء. أبنية بعضها يرتفع طابقين وبعضها الآخر ثلاثة. وقف وعمّص عينيه ولمح مشحات الأخضر تختلط بأسود طاغٍ تكاد تختفي وقد أشرف الصيف على نهايته. إنها آثار مواسم المطر الكثيرة، التي حلّت وذهبت، والمدينة في حال من الفقر المتعاظم. أطرق برأسه قليلاً، وهو على حال وقوفه نفسها، أزاح رأسه يميناً قليلاً ومن ثم يساراً قليلاً، ومن ثم استدار بجسده يساراً، رأى المشهد عينه. عدّل وجهته وتسمّر، هناك في مرمى البصر تنتهي الطريق إلى قدس أقداس المدينة، تتوسّطها على تلّ قليل الارتفاع. والرفعة في مدينة منبسطة تعبير اضافي عن القدسية.
معبد إله الحصاد أهيب المباني، يسمو مرتفعاً بمقدار سبع طبقات، قاعدته مربّعاً تامّاً يضيق ضلعه بمقدار عشر قصبات مع كل طابق يرتفع. لا شبابيك تزّين جدران الطوابق، فقط كوّات صغيرة في أعالي الجدران، تدخل الضوء قرمزيّاً بلون زجاجها، ولا تنبس ببنت شفة عمّا في داخل الجدران. مدخله في أعلى طبقة، والولوج إلى طبقاته الأدنى يكون نزولا من داخله. يستقبل المعبد زائره بدرج في منتصف كل ضلع من أضلاع المربّع، درج يقف بزاوية مستحيلة التسلق. والمتسلق تلهيه عن تعبه حجارة المعبد الشديدة الحمرة، تزينها نقوش ملوّنة بالأخضر، تخطّ تاريخ المدينة منذ تأسيس المعبد، على أول مداميك الطابق الأسفل، إلى الزمن الراهن في الطوابق العليا.
حثّ الطفل السعي مجدّداً، فالسوق الكبير يحترق في ساحة المدينة الجنوبية، والحريق يلاحقه ببطء في الأحياء المحيطة بالسوق. لا تزال رائحة الدخان تتسرّب، حتى بعد كلّ الجري هرباً من اضطرابات أشعلت نيران الفوضى في كلّ أرجاء المدينة. لا يريد أن يحيل نظره إلى الخلف، لا يريد أن يرى توهّج النار التي نجا من لهيبها. ومن المعروف أن ألسنة اللهب لا تشفق على العتّالين الكادّين، وإن كانوا أطفالاً. والآن وقد اقترب من المعبد أكثر، بدأ خوف من نوع آخر يعتريه. هل يتظلّم للكاهن حارس المعبد؟ هل يتناسى حرائق المدينة ويشكو له فقر حال أهله؟ هل يسرّ في أذن الكاهن الحسد، الذي يتسلق إلى حلقه حتى يخنقه، كلّما رأى طفلاً يذهب إلى مدارس المعبد؟ هل ينهار بكاءً على حال «القبيلة الحمراء»، والكاهن الحارس قائدهم وشفيعهم في حنايا المعبد؟ ألن يوحي هذا بخذلان الكاهن الحارس لهم؟ ألن يغضب؟
كيف لا يخاف؟ وقد تذكّر أنّهم يقولون إن الكاهن الحارس لا يبرح موقعه على مدخل المعبد في الأعلى. لا يناله تعبٌ، ينتصب ليلاً نهاراً منذ خمسين سنة. يقولون أيضاً إن في السنوات العشر الأخيرة بدأ يتّكئ على عصاه في وقوفه، بعدما كان يحملها لزوم إلقاء التعاويذ الحامية فقط. عصا مصنوعة من خشب الأبنوس الأسود، تتوّجها كرة ذهبية تملأ قبضة رجل بالغ. لونها الأسود يتناسق ولون عباءة الكاهن الحامي، سوداء تخفيه تحتها ليلاً، حتى كفيّه يختفيان في كُمّيها الفضفاضين، بما في ذلك كتاب التعاويذ الصغير دائم الحضور في كفّه الأيسر. بينما تضيع حدود رأسه تحت القلنوسة الكبيرة فلا يمكن تمييز أي من ملامح وجهه، فقط نظراته الغاضبة تصعق من تُوجّه إليه. كيف لا يخاف؟ وهو يعلم أن «الأحمر» المتوجّه إلى المعبد يستجلب سخط الكاهن الحارس، إذا ما تسلّق الأدراج من دون إذن سيّد القوم عبر وكلائه في المدينة. فقد أخبر الطفلَ والدُه عن حين تجرّأ الوصول إلى مدخل المعبد نهاراً، استهلّه منظرالكاهن الحارس منتصبا يحمل عصاه افقية في يد ويخفي كتاب التعاويذ تحت كُمّ اليد الأخرى. نهر الكاهنُ الحارسُ الوالدَ، بمجرّد أن استدلّ على نسبه، فلا مُطالِب يقصد المعبد من دون المرور بالوكلاء أولاً ومن دون صحبتهم. يومها عاد الوالد، خائباً يجرّ أذيال الفقر خلفه، إلى منزل خال من الطعام، وعند انتصاف تلك الليلة اقتحم البيتَ وكيلُ الكاهن الحارس في الحيّ وقرّع الوالد على صفاقته على مسمع أهل الحيّ كلّه. لا يزال الوالد إلى اليوم مضرب مثل في كلّ أحياء بيوت الطمي في الأطراف الشرقية في المدينة، أحياء «القبيلة الحمراء».
يعلم الطفل، عن رواية جدّه، أن الوكلاء لم يكونوا هكذا دائماً. كان «للقبيلة الحمراء» مقاتلون أشدّاء حيث يمضون ترتجف الأرض خوفاً، قادهم زعيم القوم لدخول المدينة قبل ستين عاماً. ثواراً كانوا على من استعان بزنودهم وجبلهم ومقالعهم ليعمُر المدينة، ولم يحصلوا من العمران سوى على الشقاء. طعامهم كان كفاف الأرض ومنامهم في كهوف الجبل وتحت الخيام، بينما ثريّهم سكن بيوت الطمي. أما تعبهم، فهو حجرهم الأحمر، رصّع عمران المدينة وأسوار بساتينها. وعندما وصل عساكر «القبيلة الحمراء» إلى أدراج المعبد تراكض الكهنة نزولاً من علياء أدراجهم لاستقبال زعيم القوم وأسرّوا في أذنه أنّ إله المعبد يريده كاهناً. لبس زعيم القوم عباءة الكهنوت السوداء وواظب على دراسة نواميس المعبد وكتب الطقوس والسحر إلى أن أصبح مجرى كلامها متدفقاً دفق الأنهار على لسانه. فأسبغ عليه باقي الكهنة وظيفة الكاهن الحارس لما اختزن في جوفه من علم وسحر لم ينله أي منهم. وفي هذه الأثناء اقتطع الكاهن الحارس مساحة من أرض جرز في الأطراف الشرقية للمدينة وأسكن فيها قومه. بيوت من طمي؛ فالمدينة، على جري عادتها، لم تُنلهم من حجرهم الأحمر أي أثر. وأرضهم الجديدة لا تُنبت من الأكل ما يقيتهم، بينما مهن المدينة مغلقة أمامهم لا يدخلها إلا أصحاب الحظوة.
وحتى اليوم، حين حلّ الفقر ضيفاً في بيوت كل أقوام المدينة، لا زالت بيوت «القبيلة الحمراء» اكثر البيوت شظفاً. المدينة، التي تحترق أسواقها اليوم ثورةَ جياع، تفرّق بين فقر أبنائها، فتقسو على بعضهم أكثر من الباقين. وها هم الجوعى اشعلوا حوانيت التجار في السوق الكبير، والجازعون ركضهم يثير الفوضى في الطرقات بين البيوت الوادعة. اليوم الموت رخيص، والكل سواسية حين يفتك، وحده يوحّد.
أليست الزعامة ملجأ من المحن؟ ألا يحقّ للطفل أن يلجأ إلى من قيل له أنّه زعيم قومه؟ كيف يردّه الكاهن الحارس خائباً؟ أعادت هذه الأسئلة الثقة إلى قلب الطفل، اقترب من أدراج المعبد ووضع قدمه اليسرى على أول درجة. اشتدت عزيمته أكثر، يجب أن يصل إلى الكاهن الحارس ويُخبره عن الفقر الذي حلّ بالمدينة، والأهم أنّه حل بقومه أكثر فتكاً. لا بدّ وأن الكاهن الحارس سيتجاوب معه ويخرج بعضاً من كنوز المعبد مدداً لقومه يفرج ضيق حالهم. نظر الطفل أمامه وإذ بمدخل المعبد يتراءى له يعلو آخر ثلاث درجات من السلالم. هناك يقف الكاهن الحارس، وقد اجتمع حوله رهط من التجار، يعرفهم الطفل معرفة العبد لجلاّديه في الحقل. ها هم ينوحون للكاهن الحارس، أصواتهم المرتفعة تشكو فقراء الأقوام، وهمهمات بعضهم تحثّه أن يخرج كتاب السحر من كمّه ليتلو بعض سحره فيفرّق حشد المنتفضين في الأسواق. وبين كل فينة والأخرى تمتد عصا الكاهن الحارس مؤشرة لتاجر بأن يدخل إلى المعبد.
بقي الطفل على هذا الحال يراقب دخول التجار حتى لم يبق إلا اثنين منهم، يبكيان للكاهن الحارس ما خسراه في الحريق الكبير، ويشكوان من قسوة فوضى الجياع على طرقات الأحياء. فهم الطفل أن الكاهن الحارس قد خلع ثوب زعامة قومه، وأنّ ما بقي مما كان إلاّ قصص يرويها الأجداد للأحفاد وجوع وفقر يأكلان من أرواح الآباء عجزاً عن سد رمق. همّ الطفل باستدارة بصمت حتى ينزل الدرجات قبل أن يلمح ما يظهر من أعلى رأسه الكاهنُ، ولكن تدحرجت حبات بحص صغيرة من تحت قدمه. انتفض الكاهن الحارس، وصرخ سائلاً عن هوية الطفل. عتّال صغير من قومه؟ من أذن له بتسلق المعبد؟ أين وكلاء الزعامة من هذا؟ أوَصَلَ هنا ليُسائله؟ كيف يجرؤ من لم يبلغ من العلم شيئاً؟ ألم يقرأ على حجارة المعبد عن بطولات الكاهن الحارس؟ أسئلة تترا بادر بها الطفلَ، وصفعه قبل أن يتمكن من إجابة أي منها.
في المدينة طفل يسعى، يحثّ الخطى تثلم طرقاتها الضيقة، يرى أعمدة الدخان تتصاعد ويقترب منها، وكل البيوت التي تتراءى له في البعيد أصبح حجرها أسود لون الفحم. الحريق قادم بسرعة، فقد حان وقت إشعال كل زوايا المدينة.