إنه الكتاب الذي لا ينتهي، قال بورخيس يوماً عنه: «المرء يرغب في أن يضيع في ثنايا «ألف ليلة وليلة»؛ لعلمه أنه إذ يدخل في هذا الكتاب، سيكون في إمكانه أن ينسى بؤس مصيره الإنساني؛ ويدخل في هذا العالم، هذا العالم المكون من عدد من الوجوه التي بعضها نمطي وبعضها متفرّد فرداني».
(توماس ماكينزي ـ بريطانيا)

فتنة الحكاية ورهبتها، واعتراف بسحرها وسلطتها... «قيل إنه ليس بوسع أي أحد قراءة «ألف ليلة وليلة» من أولها حتى آخرها من دون أن يموت. ليطمئن القارئ: إنه لن يموت بسبب «الليالي»، لكونه لن يتمكن، وإن رغب في ذلك، من إتمام هذا الكتاب المتشظي الذي يُعتبر متناً يضمّ عدداً لا يُحصى من المخطوطات والطبعات والترجمات والإضافات والشروح والكتابات المُعادة. وسيظل هناك أبداً نصٌ آخر من «الليالي» قابلاً للكشف والقراءة. إن الإدانة المتطيرة تتلاشى داخل تعرجات كتاب عُدّ بحق، كتاباً لانهائياً... لا يُقرأ هذا الكتاب كما تُقرأ سائر الكتب. بداخله شيء ما سحريّ وإذن مرعب.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
وهو في ذلك يشبه الكتاب المسجل به مصير كل فرد على حدة، لتكون نهايته تلتقي مع لحظة موت القارئ. بهذا المعنى، فإن الموت هو ثمن القراءة، أي ثمن الحياة» يقول المفكر المغربي عبد الفتاح كيليطو في مقدمة «العين والإبرة». طبعة فاخرة جديدة وكاملة بدون حذف من «ألف ليلة وليلة» صدرت أخيراً عن «دار أشور بانيبال» العراقية من تحرير زياد كاظم ومراجعة الناقدة موج يوسف. طبعة تنضم إلى الطبعات اللانهائية والإضافات للكتاب الذي أولّ ما ظهر في أوروبا في الترجمة الفرنسية التي قام بها أنطوان غالان (١٦٤٦-١٧١٥) في 12 مجلداً ظهر منها اثنان بعد موته (١٧٠٤-١٧١٧). غالان الذي كان قصّاصاً موهوباً بصيراً بالقصة الجيدة بارعاً في إعادة روايتها، كان قد بدأ بترجمة قصة السندباد البحري من مخطوط أصله غير محقق، ثم عرف أنها جزء من مجموعة كبيرة من الحكايات اسمها «ألف ليلة وليلة». ابتسم الحظّ لغالان بعد ذلك بأن جاءته من الشام نسخة خطّية لهذا الكتاب في أربعة مجلدات، وهي أقدم النسخ المعروفة وما زالت المجلدات الثلاثة الأولى محفوظة في المكتبة الأهلية في باريس. أما المجلد الرابع، فكان مصيره الضياع. في عام ١٧٠٩، يصادف غالان حنا الحلبي، تاجر جاء به إلى باريس بول لوكا، فأدرك في الحال أنه لقيَ قصّاصاً ماهراً. أخذ حنا يحكي لغالان حكايات أكمل بها مجلداته الأخيرة. حكايات يرقى الشك إلى انتسابها الحقيقي لـ «الليالي»، فسمّيت لاحقاً «الليالي العربية المزورة». أولى الطبعات العربية لكتاب «ألف ليلة وليلة» هي «طبعة بولاق الأولى» وهي طبعة عربية كاملة طبعت عام ١٨٣٥ عن مخطوط «عثر عليه في مصر» في المطبعة الأميرية التي أنشأها محمد علي باشا في بولاق قرب القاهرة. أما «طبعة بولاق الثانية»، فقد صدرت عام ١٨٦٣. وهاتان الطبعتان عيّنتا النص المعتبر لكتاب «الليالي»، وصدر عنهما كثير من الطبعات الشرقية بنسخ بعضها مهذّب أو منقّح قامت الرقابة الدينية أو السياسية والاجتماعية بحذف ما وجدته يمسّ بثالوث الدين والسياسة والجنس. أخرجت مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت طبعة أخرى للكتاب معتمدة على أحد المخطوطات المصرية بعدما هذّبت عباراته، وأصدرته في خمسة مجلدات بين سنة ١٨٨٨ وسنة ١٨٩٠. وأُرسِلَت نسخة من المخطوط المصري إلى الهند لتصدر «طبعة كلكتة الشهيرة» في أربعة مجلدات بين سنة ١٨٣٩ و١٨٤٣. ومن النسخ المصرية أخذت جميع الترجمات الغربية الحديثة.
لم يُعرف للكتاب العجيب مؤلف واحد، إذ تكوّن على اليقين من أعمال مستقلة ونما بالاتفاق على توالي الحقب، ويكمن رصد أولى الإشارات عنه في التراث العربي عند المسعودي (٨٩٦-٩٥٧م)، حين عرض في «مروج الذهب» لأخبار شداد بن عاد ومدينته إرم ذات العماد: «إن هذه الأخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرّب من الملوك بروايتها، وإن سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة من الهندية والفارسية والرومية، مثل كتاب هزار أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب «ألف ليلة» وهو خبر الملك والوزير وابنته شهرزاد وجاريتها دنيازاد». وإشارة تاريخية ثانية تقول بوجود الكتاب في مصر في عهد الخلفاء الفاطميين. فقد ذُكر في كتاب ألفه القُرطي في تاريخ مصر على عهد الخليفة العادل (١١٦٠-١١٧١م).
ستلتقي في بحر «ألف ليلة وليلة» كل روافد الحكاية: الأسماء والنظم الفارسية القديمة، ادماج قصة في قصة كما في «المهابهاراتا» الهندية، حياة الطبقة الوسطى البغدادية ومأزقها حين تنشأ مشكلة من مشكلات الحب يكون حلها على يد الخليفة وتطعيم هذه الحكايات بالشعر بحيث ترد أبيات من شعراء كثر ذكرهم فيه كأبي نواس وابن المعتز وإسحق الموصلي، أو الخيال الفنتازي في حكايات الصعاليك والجن والسحر والبحر وهي مؤثرات مصرية ويونانية وكابالية يهودية، وصولاً إلى لمسات أخيرة وُضعت أواخر عصر المماليك يتم فيها ورود أسماء صحيحة لأماكن في القاهرة المملوكية ويقترب السرد في لغته في كثير من الوجوه من اللغة المصرية الدارجة. يقال بأن العرب قد زادوا الليلة بعد الألف لتطيّرهم من الأعداد المزدوجة، لكن الكتاب العصي على الحصر يغري القارئ ضمنياً أن يستغل تلك الليلة الزائدة لفتح الأفق، لكتابة حكايته هو، كما تفعل شخصيات «الليالي». كتابة لو كانت مهددة بالنفي والشطب والحذف، فلتكن كما يقول كيليطو كتابة حرّة وكاملة ومفتوحة على الجسد، «وإن اقتضى الأمر، ويا للرهبة، على طرف العين».