لم يسبق لي الاطلاع من قبل على كتابات عن موضوع كتاب «السياسات الحيوية لما هو أبعد من الإنساني: بيئات الطب الشرعي للعنف» (منشورات جامعة ديوك ــ 2020) وهو العنف الذي يمارسه البشر على كائنات حية أخرى. ويسرني بالطبع الاطلاع على أي تصويب من القراء من ذوي الاختصاص في هذا الخصوص.

يحوي هذا العمل الريادي مجموعة من المصطلحات المستحدثة وجب الانتباه إليها أولها «السياسة الحيوية» الذي تعامل معه ميشال فوكو في سلسلة محاضرات له، تشير «إلى ممارسات شبكة السلطة التي تدير تخصصات الجسد والسكان وصلاحياتها. إنها منطقة لقاء بين السلطة ومجالات الحياة، يتحقق على نحو كامل في عصر الانتشار الكامل والشامل للرأسمالية؛ هي السياسة التي تمارس سلطتها على كائنات بيولوجية تعيش في وسط بيئي معين»، ومنه سننطلق نحو عرض محتوى المؤلف، موظِّفين كلمات الكاتب جوزيف بجليس بروفسور الدراسات الثقافية في «جامعة ماكواري».
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
يبدأ الكاتب بعرض رؤيته للمسألة انطلاقاً من شهادة مواطن فلسطيني من غزة اسمه عاطف أبو سيف كان يتحدث عن مدى الدمار الذي ألحقه العدو الصهيوني الاستعماري-الاستيطاني في حربه المستمرة على القطاع المحاصر مصرياً وصهيونياً. قال أبو سيف ضمن أمور أخرى، إن نصف دزينة من جثث الحمير التي قتلها العدوان الإسرائيلي بأسلحة أميركية ملقاة على الطريق أمام المدرسة. بطونها مفقأة وأمعاؤها تتدلى منها. الحمار السابع كان لا يزال على قيد الحياة مع أنّ إصابته خطيرة. وبينما كان يمشي بعيداً من موقع القتل، واجه شجرة كانت أيضاً ضحية للضربة: شجرة تين أمام المنازل مطلية بلون الغبار. الفروع ملقاة على الأرض والثمار لا تزال عليها. وعند دخوله إلى أحد المنازل التي تعرضت للقصف في حيه، واجهه صبي كان لا يزال يعاني الهستيريا بعدما رأى لحم أبيه وعمه، مختلطاً مثل اللحوم في متجر قصاب.
يقول الكاتب إن شهادة عاطف هذه تلخص اهتمامات هذا المؤلف وتعمل على إثارة عدد من الأسئلة، يحدد «إحداثيات الاستفهام» لهذا المشروع: هل من الممكن البدء في توسيع مفاهيم السياسة الحيوية والطب الشرعي إلى ما وراء أطرها البشرية لتشمل المزيد من الكيانات، ضحايا العنف العسكري، مثل الحمير منزوعة الأحشاء وشجرة التين بأطرافها المقطوعة؟ ماذا لو حاول الاستقالة من الفهم التقليدي لـ«علم البيئة الشرعي»، الذي يركز حالياً حصرياً على تحديد أسباب الوفيات البشرية فقط، ليعمل على جعل وفاة ضحايا من غير البشر قضية قابلة للتقاضي؟ ما أشكال القوانين التي ستبدأ في تحقيق العدالة للكيانات غير المتجانسة العالقة في المصفوفة العنيفة لإيكولوجيا الطب الشرعي للعنف والاحتلال العسكريين - كمواقع محورية لهذا النص؟
يبدأ الفصل الأول (الطرائق السياسية الحيوية لأكثر من الإنسان وإيكولوجيات الطب الشرعي) بمشهد دمار في أحد أحياء غزة بعد ضربة قاتلة نفذها العدو الصهيوني أثناء ما يسمى «عملية الجرف الصامد». يحدد مشهد التدمير هذا الإحداثيات المفاهيمية التي تشكل تحليل الكاتب لتأثير العنف العسكري في كل من الكيانات البشرية وغيرها وبيئات الطب الشرعي التي بقيت في أعقاب هذا العنف، ويركز على الأبعاد التحليلية لطريقة معينة من السياسة الحيوية والسياسة الحيوانية، ويطورها بالتفصيل. ذلك أنه يناقش حياة الإنسان والحيوان في غزة، وهما محاصران فعلياً في سجن الهواء الطلق، أي «القفص» الذي هو قطاع غزة الذي يتم تصويره على أنه «حديقة حيوانات» و«مختبر تجريبي».
تحليل التحويل القانوني لمعتقلي غوانتنامو إلى «غير أشخاص»


الفصل الثاني (الطرائق السياسية الحيوية لما هو أبعد من إنساني وإيكولوجيات الطب الشرعي) يبدأ بمناقشة تفصيلية لكيفية ظهور ممارسات المستوطنين السياسية الحيوية للتدمير البيئي باعتبارها مرتبطة ارتباطاً متقاطعاً مع الطموحات الاستعمارية-الاستيطانية مثل مصادرة الأراضي والتوسع. ثم يوسع هذا الفصل الفتحة السياسية الحيوية ويسلط الضوء على الأساليب السياسية الحيوية الأخرى التي يتم نشرها لتحقيق هذه الغاية نفسها، فيعرض هذا الفصل بالتفصيل كيف دمرت «عملية الجرف الصامد» البساتين وطبقات المياه الجوفية والحيوانات ومساحات واسعة من الحقول الزراعية.
عمل الكاتب في الفصل الثالث (الإفراط في الحيوانات والتعذيب غير الحيواني) على نقل السؤال المتعلق بالسياسة الحيوانية بشأن «الحيوان» إلى سجن خليج غوانتنامو العسكري لتسليط الضوء على آثاره المميتة في هذا الغولاغ، ويبدأ بتحليل التحويل القانوني لمعتقلي غوانتنامو إلى «غير أشخاص» nonpersons وما تلى ذلك من وفاة أحد المعتقلين واسمه عدنان لطيف. يناقش الكاتب محاولة لطيف النجاة من نظام السجن العسكري للتعذيب وسوء المعاملة من خلال العلاقات بين أنواع الكائنات الحية التي كانت في الواقع محظورة بموجب القانون.
السؤال المتعلق بالسياسة الحيوانية حول من يمكن أن يتعرض للتعذيب أو القتل مع الإفلات من العقاب هو موضوع الفصل الرابع «تقطيع الجسد وتشتيته بوساطة المسيرات». يناقش الأخير حملات المسيرات التي تشنها الولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن وقتل المدنيين وبيئات الكيانات غير البشرية من خلال تقنيات الحرب شبه الآلية التي تولد «الموت بطريق البيانات الوصفية». تحليل الكاتب يتم في سياق استخدام الجيش الأميركي للبيانات الوصفية لإجراء عمليات قتل بالمسيرات واعتماده على الصيغ الرياضية المتقدمة لتتبع أهدافها في قوائم القتل وإنشاء حساب احتمالية «النية العدائية».
يحوي المؤلف الكثير مما لا يمكن اختصاره في عرض محدود الحجم كهذا، ولذلك ننهيه باقتباس منه يقول: «تحدياً لعقيدة الاستثناء البشري، تستمر شخصية أكثر من إنساني، كلحم للعالم، في استجواب الهيمنة الأوروبية البشرية، ونقاط انعكاسها النرجسية، والاستئثار العنيف بالملكية، ومنطق الإبادة البيئية المصاحب للمناعة الذاتية. فالمؤلف تعبير عن الحاجة الملحة لصحوة أخلاقية حاسمة لتحقيق العدالة البيئية».

* Biopolitics of the More-Than-Human: Forensic Ecologies of Violence- Duke University Press 2020