اليوم الثاني: 23 أبريل 2016
لا شيء يزعج معتادي السهر أمثالي أكثر من الاستيقاظ المبكر والاضطرار للانتظام في برنامج جماعي، لكن لا حيلة للفرار من ذلك، فنحن على موعد اليوم للتوجُّه إلى وزارة الداخلية لاستخراج تصريحات صحافية وبطاقات تسمح لنا بالدخول حتى الضريح الرمزي لشهداء الإبادة. أجلس في المقعد المجاور للنافذة في الباص الثاني، منشغلاً بالتقاط الصور للتلال الخضراء الزاهية المزدانة بندف ثلج وبَرَد ودمجها في لقطة فنية بقطرات المطر على نوافذ الباص. أهدر الوقت، منتظراً أن نصل إلى وسط المدينة، قرب المسرح الذي نُصِب خصيصاً ضمن فعّاليات بلدية يريفان لإحياء الذكرى الأولى بعد المائة للإبادة.

الدكتور هوفيك والمرشد جالوس يحصيان الأعداد المتدفّقة من كل باص، هناك ثمانية غلبهم النوم ولم يأتوا معنا إلى مقر وزارة الداخلية، مكالمة سريعة من هوفيك إلى الفندق تمكّنه من معرفة أرقام غرف المتخلِّفين، والذين لن يتاح لهم مصاحبتنا غداً في احتفالية اليوم الكبير.
أما أنا فأقف مندهشاً، في ميدان صغير، لا أعرف اسمه، بين مبنى لوزارة الداخلية بدولة صغيرة نشأت في عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ومسرح شارع يلتهم جانباً كبيراً من مساحة الميدان، نظّارتي الشمسية تخفي عينيَّ المجهدتين المحمرتين بفعل السهر والسفر والنبيذ، لا أفكّر سوى في العثور على فنجان قهوة في أي مكان، عساه يعيد تشغيل مخي نصف النائم.

مزار تخليد ذكرى الإبادة العثمانية للأرمن في يريفان

بعد أن نسلّم بطاقاتنا وجوازات سفرنا وأوراق الدعوة إلى ضابط عابس عاقد الحاجبين، أستأذنُ من الدكتور هوفيك في الغياب لمدة تتراوح من نصف ساعة إلى ساعة، بغية البحث عن أي مقهى قريب أستطيع أن أجد فيه بعض القهوة. وقبل أن يبدي الدكتور هوفيك تحفّظه بسبب احتمالية ضياعي في المدينة، أو انتهاء الإجراءات قبل عودتي؛ تتطوّع شابة ذات لكنة سكندرية بمنحه رقم هاتفها المحمول، وتطلب منه أن يتصل بنا على الأرقام التي وزّعوها علينا في حال أنهوا الإجراءات قبل عودتنا، إذ تحتاج هي أيضاً إلى فنجان قهوة.
يبدو الدكتور هوفيك مطمئنّاً إلى هذه الرفقة، فينقل رقمَي هاتفَينا، ثم يطالبنا بأن ننهي قهوتنا ونعود فوراً.
دون أن نتبادل كلمة واحدة، أنطلق مع السكندرية تاركين مبنى وزارة الداخلية خلفنا، باحثين عن أي مقهى قريب لنشرب بعض القهوة قبل انقضاء الأجل المتاح، فنعد السير، وفي طريقنا نقيم تعارفاً سريعاً، ونحن نكاد نهرول، لا يعطلنا إلا توقفها عند بعض محال الحقائب والأحذية.
اسمها ريهام، فنانة تشكيلية مصرية وطبيبة عيون، تقيم في أبو ظبي وتعمل في أحد مستشفياتها. ريهام تقول إنها قرأت مادتي الصحافية عن الإبادة الأرمينية، وإنها كانت تجلس في المقعد الذي يقع خلفي مباشرة في الطائرة، واستمتعت باستراق النظر إلى سطور الكتاب الذي حملته معي. في غمرة هذا التعارف على الماشي، نصل إلى المقهى قبل انقضاء ربع ساعة من مهلتنا الصغيرة.
تصرّ ريهام على أن تعزمني، وبدوري أقبل دعوتها، وأرافقها إلى حيث علينا أن نملي طلباتنا على النادل، تتطوَّع هي بطلب فنجانين من القهوة التركية، إلا أن النادل يبدو ذاهلاً وهو يستمع إلى طلبنا، ثم يتفحّصنا قليلاً، قبل أن يطلب منا بهدوء وعصبية مكتومة مغادرة المكان لأنهم لا يقدمون القهوة. يستغرقني الأمر ثوانيَ، أعيد النظر إلى الطاولات العامرة بفناجين القهوة، نرتبك لوهلة، قبل أن أفهم سر موقفه المباغت، كان عليَّ أن أشرح له باللغة الإنكليزية أننا نسمي هذا النوع من القهوة في بلادنا بالقهوة التركية، ولسوء الحظ، فإن النادل كأغلب أرمن الداخل لا يجيدون الإنكليزية، لأن اللغة الثانية هنا هي الروسية.
وعلى طريقة «عذر أقبح من ذنب»، بدا أن محاولتنا لتفسير طلبنا تستفزّه أكثر من الطلب نفسه. تتكهرب الأجواء، وأشعر بالحرارة قادمة من ناحية ظهري، أستدير لأعاين فأجد ثلاثة نُدَّل آخرين يتحلَّقون حولنا ويحملقون فيَّ، ومن إحدى الطاولات القريبة ألمح زبوناً هائل الجثة تجتذبه الأجواء المكهربة فيقبل هو الآخر. وفي غمار هذه الفوضى لا أجد ريهام إلى جواري!
للحظة أشعر بالخيانة، فقد ورَّطتني واختفت. أعاود النظر للنادل العصبي، وأفكِّر في أنه يتعيَّن عليَّ فعل أمر من اثنين؛ إما مواصلة تبرير موقفي، أو الانصياع لغضبه ومغادرة المكان. أخيراً أنحاز للاختيار الثاني، وقبل أن أنصرف، أجد يداً أنثوية تضع هاتفاً محمولاً أمام النادل بينما يخرج منه صوت رجالي يتحدث بالأرمينية عبر مكبر الصوت، تبادر ريهام لمعالجة ارتباكي:
— اتصلت بالدكتور هوفيك، وهو بيشرحلهم وبيعتزرلهم.
لا أفهم شيئاً بالطبع من الحوار الدائر بالأرمينية بين النادل وصوت الدكتور هوفيك، غير أنني ألمح تجاعيد وجه النادل آخذة في الانبساط، قبل أن تتحول إلى ابتسامة، وألحظ النُدَّل وهم ينصرفون عنَّا إلى عملهم بينما يتبادلون الضحك، ثم وأخيراً تسحبني ريهام من يدي، بعد أن تقفل الخط، وتجد لنا طاولة في زاوية قصية وهادئة. بعدها بدقائق يضع النادل العصبي قهوتنا على الطاولة، ويقدم لنا ابتسامات معتذرة، بل والألطف من ذلك أنه يصر على عدم تسديدنا الفاتورة، بعدما عرف أننا مصريان جئنا لتغطية وحضور إحياء ذكرى الإبادة.
يطلق الأرمن على القهوة كما يحبها المصريون: قهوة يونانية. ويرفضون تماماً تسمية قهوتهم بالتركية، هذا ما قاله الدكتور هوفيك لريهام خلال مكالمتهما السريعة. والحقيقة أن القهوة الأرمينية اليونانية طيبة وزكية، ويزيد من زكاوتها أنها أتت بعد موقف متوتر، تسببت فيه مرافِقتي، قبل أن تتداركه بسرعة بديهة.
لم يتبقَّ سوى قرابة العشر دقائق على مهلتنا، لذلك نرتشف قهوتنا بلهوجة، لهوجة المرتبك بالنسبة إليّ، ولهوجة المنتصر بالنسبة إلى ريهام. نصف فنجان مقدار مناسب جدّاً من القهوة لزوم الانتعاش الصباحي، بينما تصر ريهام على تجاهل نصيحة محمود درويش: «القهوة لا تُشرب على عجل، القهوة أخت الوقت»، تعبُّ فنجانها دفعة واحدة، ومن ثم ننطلق مهرولين، لنلحق ببقية الوفد عند مبنى وزارة الداخلية، قبل أن تنقضي المهلة بدقائق.

(*) فصل من رواية بالعنوان نفسه، صدرت أخيراً عن «دار نوفل»، بيروت.
(**) أحمد مجدي همّام كاتب مصري صدرت له المؤلفات التالية: «قاهريّ» (رواية/ 2008)، «أوجاع ابن آوى» (رواية/ 2011)، «الجنتلمان يفضّل القضايا الخاسرة» (مجموعة قصصيَّة/ 2014)، «مصنع الحكايات» (حوارات/ 2016)، «عيَّاش» (رواية/ 2017)، «الوصفة رقم 7» (رواية/ 2017)، «تقارير إلى سارة» (يوميَّات/ 2019).

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا