أكثر من عزلة، أبعد من رحلة: هي رحلة شاعر في الأقاصي المنهمرة، يعيد تشكيل العالم بالكلمات، لترتفع راية الحب والحياة ويحمل ذلك «اللهب المزدوج» على قول أوكتافيو باث. يخرج الشعر من ثوب الكلمات عند جودت فخر الدين (1953)، ويتحول إلى كينونة كأنّ الشعر لم يعد يتطلّع إلى أن يقول، بل إلى أن يكون ويصير علامة على التوحّد مع الوجود من خلال العلاقة الجدلية معه، القبض والبسط، الثبات والتلاشي. يمارس صاحب «حديقة الستين» و«منارة للغريق» لعبته الأثيرة بين الغريق والضوء، وبين الشجرة والظل، ويطرح أسئلته الصعبة من قلب العزلة: «في حجرتي أستخرج العالم من محنتهِ/ أصنعه حرّاً على شاكلتي/ أرثي لنيسان وأستهدي بهِ/ أسأله كيف ستأتي بعد عام؟». منذ «أقصّر عن حبّكِ» (1979) و«أوهام ريفية» (1980)، سمعنا نبرة القلق عند جودت فخر الدين، ذلك القلق الذي يتبدّى كشرط وجودي لكل تجربة شعرية، يرفد التأمل والحزن ويستنطق الكائنات «هذا القلق هو الثابت الوحيد في تجربتي الحياتية والشعرية، هو الذي يجعل التغيّر أو التطوّر سمة بارزة في كتاباتي، على مدى مسيرتي الشعرية». حول مجموعته الشعرية الجديدة «أكثر من عزلة، أبعد من رحلة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) والعزلة في زمن الوباء والكتابة والشعر والعلاقة مع التراث، كان هذا الحديث الشامل للشاعر مع «كلمات»
جودت فخر الدين: ليس من ثابت في أعمالي الشعرية، على مدى السنوات الأربعين الماضية، سوى القلق

«أكثر من عزلة، أبعد من رحلة» عنوان مجموعتك الشعرية الجديدة. ما ظروف ولادة هذه المجموعة؟
ــــ ظروف متنوعة. ولكنْ أبرزها ما فرضه علينا وباء كورونا من تباعد وعزلة. معظم القصائد في مجموعتي الجديدة كتبتها في خلال عام 2020. ولكنْ فيها أيضاً قصائد كتبتها قبل ذلك، أي قبل انتشار الوباء. ويمكنني القول، بناءً على سؤالك، إن العزلة التي فرضها الوباء، والتي استمرت عاماً كاملاً حتى الآن، حفّزتْني على الكتابة، وجعلت الشعر يتأتى لي على نحو لم أعهدْه كثيراً من قبل. ربما هي حالات وطقوس جديدة دفعتني العزلة إلى تدبّرها أو اجتراحها. ولكنْ، هنالك في الشعر ما «يتأتى» بلا تدبّر أو مكابدة، ولعلّه أهمّ ما في الشعر وكتابته.

هل العزلة شرط ضروري أو وجودي للشعر؟ أم هي عزلة يفرضها الوباء؟
ـــ العزلة ليست شرطاً ضرورياً. ولكنها قد تكون عاملاً محفّزاً. والعزلة قد تكون قسرية، كما هي الحالة الآن مع انتشار الوباء. وقد تكون اختيارية، تلك التي يميل إليها الشاعر بحثاً عن الرحابة والنقاء وصفاء الذهن. ونحن اليوم في ظرف استثنائي جداً. فما نجرّبه مع الوباء لم نجرّبه من قبل. ويبقى لكل شخص «منعزل» أن يتعامل مع عزلته بطريقته الخاصة. والشاعر قد يكون أبرع من يحوّل العزلة إلى فرصة، بل إلى فرص للتأمل والبحث والقراءة والكتابة. وهذا ما يحصل معي في تجربتي الحالية. لقد فتحت لي هذه التجربة آفاقاً بعيدةً للنظر، وإعادة النظر، والتأمل في ما يعني وجودنا، على المستوييْن الخاص والعام.

«في حجرتي أستخرج العالم من محنتهِ/ أصنعه حرّاً على شاكلتي/ أرثي لنيسان وأستهدي بهِ/ أسأله كيف ستأتي بعد عام؟»، تقول في قصيدة عنوانها «جلسة في بهو نيسان الجديد». هل في الشعر خلاص العالم وحريته ومراثيه وأغانيه؟ لماذا يصنع الشاعر من «غرفته» عالماً بديلاً؟
ــــ في الشعر خلاص الشاعر على الأقل. فكيف يحيا الشاعر إذا لم يصنع في «غرفته» عالمه الخاص؟ غرفة الشاعر (أو عالمه) هي اللغة الخاصة به. هي اللغة الشعرية التي يرى بها إلى العالم، ويحاوره، ويرثيه، ويغنيه، ويحاول تحريره، ودائماً يعيد ابتكاره. في الشعر وطقوسه، يلتقي الشاعر بحريته وجهاً لوجه. ويهنأ بأن يتوهّم تحقيقاً لنوعية الوجود الذي يطمح إليه. ينأى الشاعر إلى عالمه الخاص، إذْ يجابهه الواقع ببشاعته وإسفافه، وأحياناً بوحشيته. هكذا يحاول أن يصنع خلاصه الفردي، ويقترح على العالم من حوله قِيَماً جديدة. لعله يجذبه، ولو قليلاً، إلى القيم الشعرية السامية.

القصيدة الثانية في المجموعة عنوانها «أبي وأنا». يستحضر بعض الشعراء الأب ليقتلوه بصيغة رمزية فرويدية، ويشبّه البعض الأب بالتراث العربي الضارب في التاريخ. هل ترتاح لهذه الفكرة؟ هل يمكننا عند الكتابة الشعرية أن نفلت من هذا «الأب»، من دون أن يحاصرنا في جسد الكتابة وروحها، لو اتفقنا على التشبيه؟
ـــ الصراع مع الأب قد ينتج الصداقة، بدلاً من أن يؤدي إلى قتل الأب بالمعنى الفرويدي. وهذا في رأيي هو الصراع المطلوب والبنّاء مع التراث، الذي قد يصح تشبيهه بالأب. وربما هذا المفهوم للصراع هو الذي قصده الشاعر ت. س. إليوت، أحد روّاد الحداثة الشعرية في العالم، عندما قال بأن الشاعر المجدّد هو الذي يمتلك الإحساس التاريخي بتراثه. وهو أيضاً، بحسب إليوت، الشاعر الذي تجد في شعره نكهة أسلافه. إذاً، نحن ندخل في صراع مع تراثنا لكي نتجاوزه نحو قيم نبتكرها. ولكن هذا التجاوز ينبغي أن ينطلق من استيعاب وفهم لهذا التراث، أي من حوارٍ معه. وفي هذا منشأ الصداقة بيننا وبين تراثنا، الشعري منه وغير الشعري. في قصيدتي «أبي وأنا»، عبّرتُ عن مفهومي هذا، للصراع الذي ينتهي بالصداقة. وهذا المفهوم جسّدتْه علاقتي بأبي، الذي توفي قبل عشر سنوات، والذي كان شاعراً تأثرت به. فهو الذي جعلني أنشأ على حب اللغة، نتيجة شغفه بها واشتغاله بقضاياها. وما الذي يقود إلى حب الشعر أكثر من حب اللغة؟

هناك تأمل شعري في الوباء في أكثر من نص، ومعجم خاص بهذا الوباء يفرض نفسه على القصائد. كيف تصف تجربتك شعراً وطقوساً وتأملاً في زمن كوفيد ـــ ١٩؟
ــــ كان لا بدّ من مفردات خاصة بظروف الحجْر، أو العزلة. وكان لا بدّ لهذه المفردات من الدخول في القصائد التي كتبتها في عام 2020. وأهم من المفردات، الحالات التي نشأت عن تلك الظروف، وهي حالات أنتجت طقوساً جديدة. وقد عبّرت عن هذا كلّه في ما كتبته، وخصوصاً في القصائد التي حملت عنوان «أكثر من عزلة»، ومنها واحدة بعنوان «مجهر»، تشير إلى انتباهاتي المستجدة، حيال تفاصيل في حياتي اليومية، لم أكن أعيرها اهتماماً. كما تشير إلى طقوسي التي استجدّت بسبب الحجْر، والتي رحْتُ آلفُها، وبتّ أشعر بأنني قد أتمسك ببعضها بعد انحسار الوباء. قصيدة «مجهر» تنتهي على النحو الآتي: «ربما حين يمضي الوباء/ سأبقى على ما تعوّدته من طقوس خلال الوباء/ لأني تعلمت أن أتمسك أكثر من قبل بالوقت/ أن أتفحصه جيداً/ أن أرى العمر منكمشاً جامداً في هنيهاته العابره».

«عندما يتأتّى لي الشعر» عنوان إحدى القصائد. متى وكيف يتأتى الشعر؟ هل «من جهة أخرى» يأتي منها الشعر؟ هل هي لحظة حضور وتجلٍّ؟ فيها كما تقول: «تحضرني الكائنات لأنصحها، وأميّز ما بينها، وأحدّد في طيّها جوهراً أو عَرضاً».
ــــ لا يمكن للشاعر أن يحدّد لحظةً لكتابة الشعر، وإنما يمكنه أن يعمل على استدراج هذه اللحظة، أن يهيّئ لها، أو لقدومها. وكيف للحظة الكتابة الشعرية التي تتميز بكونها بارقةً، تلقائيةً وخاطفةً، أنْ تكون في الوقت نفسه نتاج تدبّر أو تهيئة أو استدراج؟ هذا هو الشأن مع الشعر، أو بالأحرى مع كتابة الشعر، التي هي لعبٌ على المتناقضات، أو جمْع بينها، أو تأليف لها. فالتناقض هو من طبيعة العناصر التي تدخل في تركيب العمل الشعري بمختلف مستوياته. وأول هذه العناصر المفردات، فالمفردة أو الكلمة هي لقاء بين محسوس ومجرّد (لفظ ومعنى).
واللحظة الشعرية، لحظة الكتابة، لها تناقضاتها التي تنتجها وتؤدي إلى تجليها. وقد أشرتُ إلى وجه من وجوه التناقض فيها «العفوية والتدبر». وهنا تحضرني كلمة لأحد المنظرين الغربيين يقول فيها إنّ العبارة الأولى في القصيدة تأتي الشاعرَ كمنحة إلهية أو سماوية. وكأنه يريد القول إن الشاعر لا يعرف كيف تبدأ القصيدة لديه، أي أنه لا يعرف متى تحين لحظة الكتابة. ولكنني أعود إلى القول إن هذه اللحظة لن تأتي إذا لم يفعل الشاعر شيئاً في سبيلها، أي في التهيئة لها. وهنا تدخل طقوس الشاعر، طقوس عيشه وتفكيره وبحثه... وغير ذلك من وجوه التأمل والتصوّر والملاحظة والتخيّل. وفي رأس هذا كله، العلاقة باللغة. فالشاعر بمعنى من المعاني كائن لغوي. يشعر ويفكر ويتصوّر في داخل اللغة. وهي بالنسبة إليه ليست وسيلةً، بل هي غاية. هي ذاتٌ ملتبسةٌ بذات الشاعر، تشعر وتفكر وتتصوّر.
ت. س. إليوت، أحد روّاد الحداثة في العالم، قال بأن الشاعر المجدّد هو الذي يمتلك الإحساس التاريخي بتراثه


«دارتِ الأرض كثيراً / لَهَت الشمس بها عبر الدهورْ/ دوّختْها بين ليل ونهارٍ/ لوّحتْها / لوّنتْها /علَّقتْها بين موتٍ وحياةٍ / وهي ما زالت تدورْ» تنتالوس (إله الموت) في الأساطير الإغريقية هو ظل إيروس (إله الخصوبة والحياة). هل الشعر هو بمثابة جواب على الموت؟ أم أن عبثية الدوران تطحن كل شيء، حتى الشعر؟
ــ في المقطع الذي اخترتَه بدايةً لسؤالك، وهو مقطع من قصيدتي «شكوك» في المجموعة الجديدة، مواجهة لعبثية الدوران، دوران الأرض، بعبثية شعرية إذا صحّ التعبير. فالإحساس لدى الشاعر بعبثية الوجود يجعله أحياناً يُسْقِط إحساسه هذا على بعض الكائنات في الطبيعة. والعبثية الشعرية التي ذكرتُها قد تكون نوعاً من الدونكيشوتية. فالشاعر يبحث عن طريقته في مواجهة الموت، أو في مواجهة الزمن وجريانه الذي لا يرحم. ومن أجمل التجارب في هذا المجال تلك المواجهة التي خاضها المتنبي مع الدهر (أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر)، والتي انتهت بالشاعر إلى تصوّر الدهر عاملاً في خدمته، أي في خدمة الشاعر (إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً). إذاً، يواجه الشاعر عبثية الوجود بعبثية مماثلة. هكذا يحوّل الشعر الإحساس بالعبث، والمواجهة الدونكيشوتية مع الزمن والموت، إلى نوع من الخلاص.

يحضر الهاجس وكذلك تحضر الشكوك والوساوس في بعض عناوين القصائد. هل يقين الشعراء صعب؟ هل نحن أمام قلق وجودي أو معرفي؟
ــــ القلق هو السمة الأساسية لكل باحث عن المعرفة. ولذلك هو عنصر من عناصر الطبيعة البشرية. فالإنسان بطبيعته يسعى إلى المعرفة، وكلما سعى إلى المزيد منها ازداد شعوره بالافتقار إليها. فالقلق إذاً هو المنطلق الأول بين منطلقات المعرفة أو البحث عنها. والمعرفة في الشعر تحصل على نحو تلقائي. فهي ليست هدفاً كما هي في الفلسفة مثلاً. ولكن الشاعر، إذْ يعبّر ويصوّر ويتخيّل، إنما ينتج تلقائياً من المعرفة ما لا يتأتى حتى للعالم أو الفيلسوف. فالمعرفة في الشعر أعمق من المعرفة في الفلسفة، كما يقول أرسطو نفسه. ولأن المعرفة لدى البشر ناقصة على الدوام، فإن اليقين صعب لدى الشعراء وغيرهم. لا بل إن اليقين هو استقالة من البحث عن المعرفة، هو نهاية سلبية، نوع من الاستسلام. واليقين في معاجم اللغة العربية هو معنى من معاني الموت. أما الحياة (أو الحيوية) فهي المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالظن أو الشك، أو القلق المعرفي كما جاء في سؤالك. وقد عبّر المعري عن هذا كله في قوله: أما اليقين فلا يقينَ وإنما/ أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا.

في الكتاب قصائد كُتبت في السفر (أميركا) واستحضار لأسفار أخرى (حضرموت)، تقول في النص «هي الأرض نذرعها / باحثين عن الجوهر المتخفّي»، ما هو الجوهر الذي نجوب الأرض باحثين عنه؟
نبحث عن جوهر نرغب فيه، ولا نعرفه. إنه القلق مرة جديدة. ولكنه هذه المرة شغف بذلك المجهول الذي نبحث عنه. أما السفر فهو طريقة في توسيع الأفق المعرفي، وبالنسبة إلى الشاعر سبيلٌ إلى إغناء ثقافته واهتماماته وموضوعاته. وفي تجربتي الخاصة أماكن تعرفت إليها في أسفاري، جعلتني أكتب قصائد من وحي ما اكتسبته في تلك الأماكن. حتى إنني كثيراً ما شعرت بأن بعض الأمكنة أمدّتني أكثر من غيرها بحالات مؤاتية لكتابة الشعر. وأكتفي هنا بذكر اليمن التي زرته مراراً، وقد صدرت لي مجموعة شعرية بعنوان «قصائد إلى اليمن»، ضمّت ما كتبته فيها. أما ذلك الجوهر الذي نبحث عنه، فهو الذي نحسبه يعطي معنى لحياتنا، ولكننا لا نعرفه، ولا نتوقف عن مراوغته وهو الذي يراوغنا، ولا عن استدراجه وهو الذي يفلت منا دائماً. ربما هو ذلك الذي أراده أبو نواس في هذا البيت: فكأني تابعٌ حُسْنَ شيءٍ/ من أمامي ليس بالمستبانِ.

«عندما يتأتى ليَ الشعر/ يغدو لديَّ سواءً: وجودٌ وشعرُ/ فأحسب أن الحدائق دالٌ / وأن الحرائق راءٌ / وأن اجتماع الحروف مجونٌ وسحرُ/ وإذّاك يشرق في صحبة الدال والراء دُرُّ». كيف ينتقل الشعر من منطقة اللغة والقول إلى منطقة الوجود والمجون والسحر؟
ـــــ ليس من انتقال من منطقة إلى منطقة. ففي اللغة يحصل كل شيء دفعة واحدة. ما قبل اللغة، هنالك حالات شعرية تحتاج إلى أن تتجسد أو تتبلور أو تتجلى. ولا يحصل لها شيءٌ من هذا القبيل إلا في اللغة. ففي اللغة، يكتسب الشعر وجوده الحقيقي. واللغة، كما قلت في إجابة سابقة، ليست مجرد وسيلة. هي التي تفكر من خلال الشاعر وتشعر وتتصوّر، كما هو يفكّر من خلالها ويشعر ويتصوّر. والمجون الذي ذكرته في سؤالك، انطلاقاً من مقطع في إحدى قصائدي، هو مجونٌ لغوي. كذلك السحْر، هو سحْرٌ لغوي. فاجتماع الحروف في الكلمات، واجتماع الكلمات في الجمل أو العبارات، يذهبان في الكتابة الشعرية إلى أبعد مما رسمته المعاجم. إلى أبعد بكثير مما حدّدتْه المعاجم من معانٍ ودلالات. وهذا الأمر لا يعرفه جيداً إلا الذين تمرّسوا باللغة، وعاشوا فيها، واستساغوا العيش ما بين أسرارها. في هذا الكلام إشاراتٌ إلى مزايا التركيب في اللغة العربية، أي إلى مزايا النحْو. وأبرز من اختبر هذه المزايا وتناولها وفصّل الكلام فيها هو الناقد والبلاغي عبد القاهر الجرجاني، في كتابه الشهير «دلائل الإعجاز». حتى إنّه أدخل مصطلحاً في علوم البلاغة هو مصطلح «معاني النحْو». علماً أنّ كتابه المذكور يُعدّ أساساً لعلم المعاني، الذي هو أحد علوم البلاغة العربية. و«معاني النحو» عند الجرجاني هي وجوه التصرّف بالكلمات وبتركيب العبارات، من تقديم وتأخير، وتنكير وتعريف، وفصل ووصل، وعطف وإضافة... وغير ذلك. ولم يكتف الجرجاني بذكر هذه الوجوه وشرحها وتفصيلها، بل تغزّل بها لأنه وجد فيها قِيَماً سحرية، وقدّم إزاء كل منها أمثلة من القرآن والشعر. ربما تسنّى لي، عبر استعانتي بعبد القاهر الجرجاني وببعض كلامه على النحْو العربي ومزاياه، أنْ أوضح ما قصدته بالمجون والسحر اللذيْن ينبثقان من حسْن التصرّف باللغة لدى الشعراء... أو بعضهم.

هل تتابع ما يُكتب من أدب وشعر ورواية في زمن كورونا؟ وهل تظن أنه ستُخلق مساحة في الأدب العالمي تُصنّف بأدب الوباء؟
ـــ نعم، قرأتُ الكثير في خلال العام المنصرم. ولكن بسبب ظروف الحجْر لم يتسنّ لي أن أتابع الكثير مما يصدر حديثاً. قرأت بعض الروايات وبعض المجموعات الشعرية، ولكن أكثر من ذلك قرأت كتباً في التاريخ والفلسفة. ذلك أني عدت إلى مكتبتي، لأكتشف أنني كنت في الماضي قد راكمتُ الكثير من الكتب التي لم أجد الوقت لقراءتها كلها، فإذْ بالفرصة تأتي مع الظروف الصعبة التي لا نزال فيها. أما بالنسبة إلى أدب الوباء وإمكانية إعطائه مساحةً لكي يكون صنْفاً من أصناف الأدب، فإنني لا أرى أهمية لمثل هذا التصنيف. أكثر من ذلك، أنا أرى تعسفاً في كل تصنيف للأدب بحسب الموضوعات. كأنْ يقال مثلاً «أدب الحرب» أو «أدب الوباء» أو «أدب الثورة»... أو غير ذلك. والتعسف هنا يحصل بسبب الجمع بين نصوص جيدة وأخرى رديئة أو عادية، لا لشيءٍ سوى أنها جميعاً تشترك في الموضوع. ومثل هذا التعسف أجده في تصنيف الأدب بحسب الفترات أو الحقب الزمنية. كأنْ يقال مثلاً «شعراء السبعينيات» و«شعراء الثمانينيات»... وما إلى ذلك. ولكن، على الرغم مما أقوله هنا، قد يظهر «أدب الوباء» وتعطى له مساحة كبيرة أو صغيرة، لا أدري. ذلك أنّ كثيرين يحبّون التصنيف في الأدب، ولو كان ذلك على حساب الأمور الفنية، أي على حساب مستوى الأدب وقيمته وجودته.

ما بين «أوهام ريفية» و«أكثر من عزلة، أبعد من رحلة»، ماذا تطور في تجربة جودت فخر الدين الشعرية؟ هل يمكن اعتبار ثالوث «التأمل-الحزن -الحكمة» ثابتاً في أعمالك كلها؟ وما هو «المتغيّر»؟
ــ «أوهام ريفية» هو عنوان مجموعتي الشعرية الثانية التي صدرت في عام 1980. أما مجموعتي الأولى «أقصّر عن حبّكِ» فقد صدرت في عام 1979. وليس من ثابت في أعمالي الشعرية، على مدى السنوات الأربعين الماضية، سوى القلق. القلق حيال كل شيء، وحيال الشعر نفسه. وأظن أن القلق هو عامل إيجابي ينبغي أن ترتبط به كل تجربة شعرية. فهو الذي يقف وراء كل تغيّر أو تطوّر أو تقدّم. أما التأمل والحزن والحكمة، فهي حالات ومواقف يُمدّها القلق بالحيوية، ويجعلها تتحول إلى موضوعات وصُوَر شعرية.
حبّذا لو تكون القيم الشعرية هي القيم العليا في المجتمع! لقد أثبتت الوقائع على مرّ التاريخ أن هذا الأمر صعبٌ، بل مستحيل. مع ذلك، فإن التفكير فيه يُقلقني دائماً، ويوجهني، خصوصاً في ما أكتبه. فالقيم الشعرية في نظري هي الأخلاق الحقّة. هي المجرّدة من المنافع وعنها. هي التي ترمي إلى الجمال وحده، وفي الجمال وحده يكمن الحب والانفتاح والرحابة والأمل. هي التي من شأنها أن ترفعنا فوق المخاوف والمطامع، وأن تعصمنا من التعصب والعنف والتقوقع. هذا القلق الذي أشرت إليه، ووصفته بالثابت الوحيد في تجربتي الحياتية والشعرية، هو الذي يجعل التغيّر أو التطوّر سمة بارزة في كتاباتي، على مدى مسيرتي الشعرية. وهذه السمة لا تقتصر على موضوعات قصائدي ومضامينها، وإنما تشمل النواحي المتعلقة بتقنيات الكتابة على اختلافها. وهذا أمرٌ أتركه لمن يحبّ تقصّيَه من القرّاء والدارسين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا