كان بارثولوميو الذي يسكن في الطابق الثالث، عازف غيتار مشهوراً كما يدّعي، لكنه من جانب آخر، كان سكّيراً وداعراً كما تقول أثناء عراكهما زوجته خوستا، المرأة الصالحة التي تذهب إلى الكنيسة بانتظام لحضور قدّاس الأحد، والتي تتحدث كثيراً مع صورة العذراء المعلقة في المطبخ، حيث يقول بارثو إن زوجته، وأثناء حديثها مع السيدة، تطلب منها أن تتدخل مقابل أن تطبخ للفقراء كل شهر، للمساكين الذين يعيشون في الشارع وفي محطات المترو.والعراك بينهما كان يحدث بانتظام مع بعض الاستثناءات القليلة، إذ كانت الدنيا تنقلب فوق رؤوسنا مرتين في الأسبوع على الأقل حتى حفظنا الموعد، حينها نرفع صوت التلفزيون، نغلق النوافذ، وأحياناً نخرج نهائياً من البيت.
بيكاسو ــ «عازف الغيتار العجوز» (زيت على قماش، 1903)

في ما يتعلق بي، لم يكن من السهل تحمّل نزوات هذا العجوز، خاصة عندما كان يبدأ العزف بعد العاشرة مساء، حيث تنتهي جولة عراكه مع خوستا السمينة، التي لا يبدو أنها أحبّت الموسيقى طوال حياتها، أو دخلت مرقصاً يوماً من الأيام:
— أبي كان حدائقيّ الكاتدرائية، لكن هذا الوغد بارثو خدعه بالزواج مني، قال إنه ابن قس سابق، مات وهو يصلي، وأمه رغم أنها بائعة سمك في السوق، قال عنها مدرسة لغة إنكليزية. هكذا كانت خوستا تردد هذه الأسطوانة كلما قابلتها، تطلق حسرة، وكان رمشاها يتحركان بسرعة، وبشكل متواصل كأنهما جناحا فراشة، ثم تضيف:
— أعتقد أن الشيطان يسخر منه، تخيل، يقول مارثو إنه أهم عازف غيتار في العالم، هل هناك أكثر من هذا الجنون!
كانت هذه هي الجملة المريرة لخوستا عندما تعتذر. وفي إحدى المرات قابلت في المصعد، كان ذلك قبل ثلاثة أشهر، ابنته برودينثيا التي كانت على علاقة ساخنة على ما يظهر بشاب هولندي، يبدو عليه بأنه ملاكم، قالت إن اسمه كيڤن عندما قدّمته لي، إذ كان مدعواً كما يبدو على العشاء عندهم تلك الليلة.
والبنت الجميلة كانت في العشرين تقريباً، قرطاها الكبيران يتدليان مثل أسطوانتي موسيقى، صديقها أيضاً ألقى التحية بتهذيب كما لو أنني عمه الذي عاد من سفر طويل.
— تبدو ملاكماً؟ قلت له وأنا أنظر إلى جسده، تفاجأ في البداية، ثم ابتسم وقد ألقى نظرة خاطفة على جسده، كما لو أنه أراد التيقن بأني خمنت ذلك من خلال ارتفاع صدره، وحجم عضلات الساعدين، وكانت ابتسامته قد تعلّقت على فمه ولم يقل شيئاً قبل أن أضيف:
— أنا أيضاً، كنت ملاكماً، كان ذلك من زمن طويل.
ولا أدري لماذا قلت ذلك، نظر إلي وزاد قليلاً من حجم ابتسامته، اعتقد أنه لم يصدق أن صاحب هذا الجسد النحيف، يمكن أن يكون حتى لاعب دومينو.
— بالفعل!! قالت برودينثيا قبل أن يتوقف المصعد.
— صديقي كيڤن، ملاكم لكنه ليس مشهوراً جداً، على أي حال.
— تشرفنا، قلت له، ثم وجهت خطابي لها:
— من فضلك يا آنسة، أخبري الموسيقار العظيم بارثو، بأنه يزعجنا، أنا أصحو عند السادسة وزوجتي أيضاً، ابنتنا تذهب إلى المدرسة لهذا هي تنام مبكراً، والذي يقوم به والدك المبجل شيء غير عادل إطلاقاً.
أطلقت تنهيدة ثم قالت:
— أنا آسفة مسيو، هل تعلم أن جارنا الذي في الشقة الموازية أخبر الشرطة قبل يومين، سوف يتوقف أبي عن فعل مثل هذه الأمور لبعض الوقت، لبعض الوقت فقط، لكنه سيعود، أمي تقول إن في رأسه شيطاناً. وأنت تعلم بالتأكيد، أن الشرطة والمستشفيات لن تفعل شيئاً للشياطين.
وفي الحقيقة، رغم أنه في الستين، يبدو السيد بارثولوميو وسيماً، قبعته نفسها التي يقول إنها هدية من مغنّ كولومبي مشهور اسمه بارثو كذلك، وكانت في عينيّ جاري نظرات ملاكم قديم، ولم يكن الرجل على أي حال سيئاً، على العكس كان ظريفاً ومحبوباً بين معارفه، حسناً، لا يعنيني من كل هذا سوى فقرة شيطان الموسيقى الذي يعبث برأسه بعد الساعة العاشرة.
قبل شهر تقريباً كنت قد قابلته بالصدفة في «مقهى ميتيكو»، كان يعزف فعلاً، أصدقاؤه ظرفاء، بل كانوا أوغاداً على وجه الدقة، ويبدو أنهم لم يتركوا شيئاً من الموبقات لم يجربوه، أعينهم حادة النظرات، لكنهم كانوا مرحين، يحفظون شتائم كثيرة مضحكة، ويطلقون النكات على المقدسات أيضاً، يا للأوغاد!
— اسمع أيها الجار العربي المحترم، قال لي وأنا أشرب قهوتي، ثم أضاف:
— أنا أعزف عندما تزعجني هذه الحشرة المؤمنة جداً خوستا، أهرب من مواعظها وصلواتها المضحكة إلى الموسيقى، اسمع هي تخاف من الشرطة، أو بصورة أدقّ، هي لا تحب أن يأتي أي منهم إلى البيت ولأي سبب كان، أفعل ذلك لأجعلها تبدو في ورطة، أنا آسف يا صديقي، لا يمكنني مقاومتها إلا بالموسيقى، وعلى أي حال، يمكنك أن تسمعني، لست عازفاً عظيماً، لم أقل ذلك، خوستا من يردد هذه الشائعة عني، لكنني متيقن أنك سوف تستمع، تعال إلى «بار الإخوة الثلاثة» في شارع شارل لوا، سأكون هناك ليلة السبت.
كنت أرى بالفعل بارثو في أمسيات الجمعة وهو يحمل غيتاره، وكان ثمة مقهى يديره برازيليّ يرتاده التشيليون والكولومبيون والأرجنتينيون، قريب من قلب المدينة، يبدو أنه فعلاً عازف محترف، توقفت مرة أمام المقهى وشاهدته، كان الجميع يصفق له، لكن خوستا تقول:
— إنه زنديق وكفى، ثم ترسم علامة الصليب بوجل ولمرات عديدة، تفعل ذلك للاعتذار عن إزعاجه للجيران أو ربما لتهدئة الله حتى لا يغضب على العائلة كلها بسبب شخص وغد مثل بارثو جعلها في ورطة مع الناس ومع الرب كذلك.
وقبل أسبوعين تقريباً، كانت هذه آخر مرة رأيته فيها، تحدثت معه وكان خارجاً من «مستشفى سان بيير»، وجهه شاحب، وخطواته بطيئة، وكان يضع القبعة ذاتها، قال إنه لم يعد يمارس ألعابه القديمة. كنت أظنه يتحدث عن الموسيقى وتذكرت فعلاً أنه منذ فترة لم يعد يعزف، كنت مرتاحاً لهذا التغيير رغم أنني وللحق، كنت أتمنى أن أراه وأسأله عن صحته.
— كيف تجري الأمور سيد بارثو، لا تبدو بحال جيد!
— لم يعد في هذا العالم ما يستحق، لم تعد هناك ألعاب، لم تعد هناك حياة!
— أي ألعاب تقصد سيد بارثو؟
— قبل الإنترنت وهذا الهراء الذي لم أفهم منه شيئاً، قال ذلك وكانت مسحة حزن تغمر وجهه، سحب نفساً عميقاً من سيجارته وأضاف:
— كنت أكتب قصاصات من الورق، حدث ذلك من زمن طويل.
— وماذا في هذه القصاصات؟
— كلام، مجرد كلام في الحب، الحقيقة أنني لم أكن أكتب ذلك، كنت أستعين بصديق فرنسي، يقول إنه شاعر، لا أدري، كان له وجه ثعلب، ولا أظنه سوى لص أشعار وحسب، على أي حال، كنت أحمل معي في ليلة السبت ثلاث أو أربع قصاصات.
— ولكن ما أهمية أن تحمل قصاصات مكتوباً فيها بعض الأشعار إلى المرقص؟
— كان هذا قبل الإنترنت والرسائل الإلكترونية كما قلت لك، أختار للرقص واحدة من اللعينات اللواتي يسيل اللعاب لفتنة أجسادهن، أبتسم لها ثم أقترب منها شيئاً فشيئاً، وفي الوقت المناسب، أدس بين ثدييها القصاصة، الكلمات يا صديقي هي السحر، الشابات الجميلات كن يحتجن إلى الكلمات ويقدرن الأشعار، في آخر السهرة أكون قد حصلت على واحدة فنذهب إلى السرير.
— ولماذا ثلاث أو أربع قصاصات، ألا تكفي واحدة؟
— لا.. الأمر يشبه لعبة البوكر، فلا يجب على المقامر أن يضع كل أمواله في خانة واحدة، اسمع مرة وضعت قصاصتين فيهما الكلام نفسه لشابتين، كانت إحداهما أكبر قليلاً، في النهاية اكتشفت أنهما أم وابنتها، هذه واحدة من المرات التي خرجت فيها من البار ليلة سبت دون امرأة.
— وهل ما زلت تكتب القصاصات سيد بارثو؟
— لا، لم يعد هذا الشيء مجدياً، لم يعد ثمة من يهتم لهذه الأشياء الظريفة، بالنسبة إلى عجوز مثلي، الموسيقى هي كل ما تبقّى لي، إنها تمنحني اللذة كتعويض عن الأشياء التي نامت إلى الأبد.
وفي صباح من أيام شهر آب، سمعت بكاء خوستا، اعتقدت في البداية أنهما تعاركا كالعادة، وأن يكون قد ضربها على رأسها بغيتاره، وهذا ما كان يهدد به دائماً، لكنه لم يفعلها قط، أوَ يكون قد أحضر امرأة ما زالت تؤمن بالكلمات خلال غياب خوستا فكبسته، ثم سمعت إيرودينثيا تبكي أيضاً وتتكلم مع رجل في الشرفة، نظرت من الشرفة الخلفية إلى الأسفل، شاهدت كيڤن صديق إيرودينثيا وحده يقف في الخارج، يدخن سيجارة ورأسه إلى الأسفل.
— من فضلك، هل حدث مكروه للسيد بارثولوميو؟ سألته، ومن الواضح أنه كان يبكي بصمت، ودون أن يرفع رأسه قال:
— لقد مات السيد بارثو !!!
هبطت بسرعة، فتحت لي إيرودينثيا الباب.
كان عازفُ الغيتار بارثو ممدّداً على السرير. كانت خوستا قد وضعت الغيتار في أحضانه، سحبت أصابعه الباردة لتلامس الأوتار، وفوق جسده الضئيل نثرت الكثير من القصاصات التي كان يحتفظ بها، إنها أشياء قديمة لم يتوفر له الوقت لتوظيفها كفخاخ للنساء. وأثناء ذلك رسمتْ علامة الصليب لمرات عديدة، كانت تتحدث إليه بلوعة الذي فقد كنزاً لم يعرف قيمته يوماً:
— حزينةٌ لأنك لم تصلّ للرب ولا لمرة واحدة، لكن من فضلك استيقظ الآن، استيقظ ولو لبعض الوقت يا صغيري بارثو، لا تمت أيها الوغد، افتح عينيك الوقحتين، وحرّك أصابعك الشيطانية لتعزف لنا شيئاً، لن ينزعج الجيران هذه المرة، هذا مؤكد، إنها الأخيرة، سوف يدركون ذلك، وسوف يقدرون آخر شهقة لعازفٍ عظيمٍ يودع العالم.
* بروكسيل/العراق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا