ما زال بعضهم يعتقد بأن وصول هيلاري كلينتون إلى نهائيّات سباق الرئاسة الأميركية كان ـــ رغم الخسارة ـــ انتصاراً نسوياً مبهراً، أو أنّ نائبة الرئيس الحالي، كاميلا هاريس، تُعدّ النموذج الملهم لصعود المرأة إلى قمّة هرم السلطة، ويتطلعون إلى شيريل ساندبيرغ كفيلسوفة اقتحام قلاع الذكورية في عالم إدارة شركات العالم الكبرى، ويحتفلون عندما تزيد نسبة النساء المقبولات في «هارفرد» أو «أكسفورد». هذه تماماً هي «النسويّة البيضاء».

إنها تلك الإيديولوجيا العميقة الارتباط بالمنظومة الرأسماليّة التي يمكن تتبّع تاريخها في الغرب، وقد حوّلت شعاراً نبيلاً مثل «النسويّة» من مسألة تحرر إنسانيّ وبحث عن عدالة طمرتها قرون من البطريركيّات المتظافرة إلى إستراتيجيّة تسويقيّة توهم النساء بأنه رغم كل شيء، يمكن تحقيق المساواة في المقام الأول من خلال الاجتهاد المهني، وتبنّي تكتيكات فاعلة لتحقيق القبول بين المؤثرين والنجاح المادي، ولو كان ذلك على حساب استغلال النساء الأخريات والمهمّشين والمستضعفين. لكنّ الحقيقة أن هدف النسويّة البيضاء لم يكن أبداً تغيير النّظم المتراكبة التي تضطهد المرأة في المجتمع الرأسمالي (الطبقيّة والأبويّة والإمبريالية والدينيّة والعنصريّة العرقيّة)، بل التبشير بالخلاص الذاتي للنساء البيضاوات داخل تلك النظم، وفي إطارها وكجزء لا يتجزأ من ديمومتها وأدواتها القمعيّة.
كوا بيك صحافيّة أميركيّة مختلطة العرق، اكتشفت تلك الإيديولوجيا المسمومة من خلال تجربة شخصيّة بعدما وجدت الأبواب مفتوحة لها للعمل مع بيوتات الصحافة الكبرى في الولايات المتحدة على أساس هويتها الجنسانية والعرقيّة حصراً وكجزء من كوتا التنويع الشكلي. لكنّها وجدت دائماً أسواراً خفيّة تكبّل عملها كلّما أرادت طرح قضايا حول حقوق عاملات المنازل مثلاً أو كيف تعاني الأمهات العازبات من الفقر، أو كيف يتضاعف عدد النساء المسجونات من الطبقات المهمّشة وغيرهن من مئات النسب المروّعة المعبرة عن غياب العدالة... لتجد دائماً من يخبرها بأنّ تلك قضايا عرقيّة أو طبقيّة أو اقتصادية لا «نسوية»، ولا تعني القارئات «البرجوازيّات».
كتابها الجديد «نسوية بيضاء» (منشورات أتريا ـــ 2021) ــــــ الذي نضيء عليه في يوم المرأة العالمي (8 مارس) ــــ هو تفكيك ممنهج لهذه «النسويّة البيضاء»، وتوبيخ لاذع لسيرة انخراط حركاتها المخجل في العمل مع الهياكل الرأسمالية بطبقاتها القمعية العديدة، بدلاً من قيادة النضال ضد النظام القائم، معتبرة أن هذا التخلّي نتاج غدر مبيّت يستبعد آلام ومظلوميات النساء الملوّنات، وتحالف آثم مع القتلة ضد الضحايا، ومع المضطهِدين ضد المضطهَدين، إلى درجة أنّه يمكن قراءته على مستوى ما كنظام قمعيّ آخر لا يقلّ فداحة عن النظام الأبوي.
مع ذلك، وتقول بيك إن هذه الإيديولوجية الاستبعادية ليست بالضرورة حكراً على النساء البيضاوات وحدهن، بل هي بحكم هيمنة الثقافة البرجوازيّة على العمل الإعلامي في الغرب منتشرة ومعمّمة إلى حد عجيب، وأن كثيرات من خلفيات عرقية وإثنية أخرى يشترين - كما البيضاوات - وعود الحركة النسويّة البيضاء، معتقدات بإخلاص أنهن إذا عملن بجد بما فيه الكفاية في خدمة النظام الرأسمالي، فقد يتمكنّ من جني مكافآتها المزعومة مساواة وثراء واعترافاً من الآخر. لكنّهنّ لا يدركن أنهن قد ينتهين ضحايا لصعود طامحات من نموذج مادلين أولبرايت التي لم تجد ما يشين في تبرير إبادة نصف مليون طفل عراقي بأنّه ثمن لا بأس بدفعه لتحقيق الأهداف السياسيّة للغزو الأميركي، ونجاحها الذاتي المهني كوزيرة خارجيّة، أو قد يُقبلن في الخلفيّة كخادمات لأداء الأعمال المنزليّة تمكيناً لنجاح النساء البيضاوات في مكان العمل أو بحد أقصى لملء كوتا تنوّع مجوّفة.
كتاب بيك دعوةٌ صريحةٌ - ومزعجة أحياناً – إلى النساء المستمتعات بامتيازاتهن الطبقيّة والعرقيّة للنزول من أبراج نضالهنّ الموهوم، والعمل سويّة مع الإطار الأوسع من النساء على فكفكة هذه الإيديولوجيا النسويّة البيضاء المزيّفة لمصلحة بناء حركة جديدة أكثر شمولاً، تناضل من أجل جميع حقوق المرأة، التي هي حتماً حقوق إنسانيّة، وتكون أكثر اتساقاً في اصطفافاتها مع حقيقة الصراع ضد النظام القائم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا