الطائفة الوحيدة التي وردنا خبر عن موقفها من وأد البنات هي طائفة الطلس. فهي لم تكن تتبع هذا التقليد المخيف: «كانوا لا يئدون بناتهم» (ابن حبيب، المحبر). وهذا خبر مهم جداً، فهو يفتح لنا باباً لحل لغز وأد البنات في القرآن وفي المصادر العربية القديمة، إذ هو يعطينا، بشكل غير مباشر، أربع معلومات:أولاً: وأد البنات كان في ما يبدو أمراً دينياً، فقد ذكره ابن حبيب في سياق المحظورات والمسموحات الدينية التي تخضع لها المذاهب الثلاثة عند العرب: الحمس والطلس والحلة. وهذا ما يتعارض بقوة مع التفسيرات التي تصطنع أسباباً اجتماعية كدافع لوأد البنات، أي تجعل الوأد ناتجاً عن الوضع الاجتماعي لعائلة ما.
ثانياً: أمر وأد البنات يتعلق، أساساً، بطوائف دينية لا بأفراد أو مجموعات صغيرة منعزلة.
ثالثاً: الحديث عن امتناع الطلس عن وأد البنات، قد يشير إلى أن طوائف أخرى كانت تئدهن.
رابعاً: وبما أنّ الطلس كانت طائفة متوسطة بين الحلة والحمس، تأخذ شيئاً من تقاليد هذه وشيئاً من تقاليد تلك، فإن من المنطقي افتراض أن الطلس ربما كانوا يشاركون إحدى الطائفتين الأخريين، الحمس والحلة، في تقليد الامتناع عن وأد البنات. وعلينا نحن، بالتالي، أن نتوصل إلى تحديد الطائفة المعنية.


ويتفق باحثون محدثون مع ابن حبيب في أن وأد البنات قد يكون لسبب ديني: «ولست استبعد ما ذكره أهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهليين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته وإرضاء الآلهة» (د. جواد علي، المفصل).
يضيف الدكتور علي في مكان آخر: «ويظهر من بعض الأخبار أن الوأد لم يكن عن إملاق [الإملاق: الفقر والحاجة] وحسب، بل كان لسبب آخر، أراه متصلاً بعقيدة ودين» (د. جواد علي، المفصل).
إذن، فهناك، على أقل تقدير، احتمال معقول جداً لأن يكون وأد البنات أمراً دينياً. ولعل هذا قد يرغمنا على إعادة قراءة بعض آيات القرآن التي تتحدث عن قتل الأولاد من جديد، لكي نتأكد من الأسباب التي كانت وراء وأد البنات خاصة، ووراء قتل الأولاد عموماً.
لكن قبل أن نبدأ بمراجعة بعض تلك الآيات، ربما كان علينا أن نبدأ بالملاحظة المهمة التالية؛ وهي أن القرآن شنّ هجوماً عنيفاً جداً على وأد البنات، متفقاً بذلك مع موقف الطلس. وبما أن منشأ الرسول كان في طائفة الحلة، لا الحمس كما يظن الجميع تقريباً، فإن هذا يضع احتمال أن الحلة أيضاً كانت لا تئد البنات. ولو صح هذا، يكون الحمس هم الطائفة التي تئد بناتها. ويؤيد أن الحلة كانوا لا يئدون بناتهم أخبار عن شخصيات شهيرة عارضت وأد البنات وحاولت منعه. من هؤلاء جد الشاعر الفرزدق، صعصعة بن ناجية، الذي قال فيه الفرزدق مفتخراً:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيـا الوئيد فلم يـوأد
يقول أبو الفرج: «وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم. وكان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية، فلم يدع تميماً تئد وهو يقدر على ذلك. فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية... ثم قال له عليه السلام: ما شيء بلغني عنك فعلته؟ قال: يا رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الوجه، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه. ورأيتهم يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت من قدرت عليه» (الأصفهاني، الأغاني). ونحن نعلم أنّ تميماً كانت تتبع المذهب الحلي. فاليعقوبي يضعها في رأس قبائل الحلة: «وكان الحلة؛ وهي تميم، وضبة، ومزينة، والرباب، وعكل وثور، وقيس عيلان» (تاريخ اليعقوبي). وكذلك يفعل ابن حبيب: «قبائل الحلة من العرب: تميم بن مر كلها غير يربوع. ومازن. وضبة. وحميس. وظاعنة. والغوث بن مر. وقيس عيلان» (المحبر، ابن حبيب). عليه، يمكن للمرء أن يفترض، ربما، أنّ تميماً لم تكن بالفعل تئد البنات من الأصل، لا ان هذا الرجل هو من أقنعها بذلك. كل هذا قد يسمح لنا بافتراض، غير جازم تماماً، أن الحمس ربما هم من كانوا يئدون البنات من بين المذاهب الثلاثة التي نتحدث عنها.

الإملاق
وإذا كان وأد البنات أمراً دينياً على العموم، فربما كان علينا أن نعيد النظر في تفسير بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن وأد البنات، أو قتل الأولاد عموماً، والتي أوحت للمفسرين بوجود سبب اجتماعي لوأد البنات، أو قل لقتل الأولاد عموماً. وهي الآيات التي تتحدث عن الإملاق بشكل خاص:
- «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً. ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً» (سورة الإسراء: 27-28).
- «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون» (الأنعام: 151).
بالطبع، علينا ان نقرّ بأن لا أحد تقريباً في المصادر العربية يشك في أن الإملاق في الآيتين لا يعني الفقر وذهاب الرزق. ذلك أنه حين يجتمع الرزق (نحن نرزقكم وإياهم) مع «الإملاق»، فإنه قد يبدو من المستحيل دحض هذا التفسير. فالله يقول للجاهلية: لا تقتلوا أولادكم مخافة الفقر والفاقة، فنحن سندبر رزقهم ورزقكم معاً. إذن، فهؤلاء الناس يقتلون أولادهم خشية الفقر والحاجة.

الإملاق
لكنّ في نفسنا شيئاً من هذا التفسير، لأن الحديث عن «أولادكم» هنا قد يطال الذكور أيضاً. ومن الصعب على المرء أن يتصور أن الجزيرة العربية شهدت تضحية بالذكور بسبب الفقر. فالذكور هم الثروة في ذلك الوقت. فثروة القبيلة يحددها، إجمالاً، عدد ذكورها المحاربين.
وهذا ما يثير الشك في التفسير السائد. لذا سنحاول، قدر جهدنا، إلقاء ظل من الشك على التفسير السائد لجملتي «خشية إملاق» و«من إملاق»، كي نفتح الباب لتفسير مختلف. وسوف يكون مدخلنا إلى هذا التدقيق في معاني الجذر (ملق).
المعنى الأساسي لهذا الجذر هو الافتقار ونفاد المعاش: «الإملاق: إتلاف المال حتى يُحوج» (ابن فارس، مقاييس اللغة). غير أن الجذر يعطينا معاني أخرى. فهو يعني التملق، أي التودد والتلطف، مداهنة. كما أنه يعني الإفساد: «الإملاق: الإفساد» (لسان العرب). وهو يعني الارتضاع كذلك. يقال: ملق الجدي أمه: رضعها. كذلك فهو يعني الإخراج والإفلات: (امتلق، أي الفرس، قضيبه... أي: أخرجه» (الزبيدي، تاج العروس). و(انْمَلَق مني، أَي: أَفْلت) (لسان العرب).
هناك، على أقل تقدير، احتمال معقول جداً لأن يكون وأد البنات أمراً دينياً


فوق ذلك كله، وهذا ما نود أن نركز عليه، فإن الجذر يشير إلى عاهة ما في المواليد عموماً: «يقال: ولدت الناقة فخرج الجنين مَلِيقاً من بطنها، أَي لا شعر عليه» (لسان العرب). كما أن الملق عند الخيل يشير إلى مشكلة ما في الجري: «المَلِق من الخيل الذي لا يوثق بجريه» (الأزهري، تهذيب اللغة). و«فرس ملق: يقفز ويضرب الأرض بحوافره ولا جري عنده» (الزمخشري، الكشاف). كذلك فالجذر يعني الضعف: «رجل مَلِقٌ: ضعيف» (ابن دريد، جمهرة اللغة). ومن هذا المعنى ما جاء في بيت ذي الخرق الطهوي: «فيئي إليك فإنا معـشـر صبر/ في الجدب لا خفة فينا ولا ملق». بل إن ابن فارس يؤكد لنا أن الضعف واللين هما المعنى الأصلي للجذر: «ملق: الميم واللام والقاف أصل صحيح، يدل على تجرد في الشيء ولين. قال ابن السكيت: المَلَق من التملق، وأصله التليين» (ابن فارس، مقاييس اللغة).
عليه، فالجذر يعني الإفساد والإفلات والضعف، مع التأكيد أن معناه الأصلي ربما كان يشير إلى الضعف واللين، أي ربما كان على علاقة بعاهات محددة. بذا قد يصح لنا طرح هذا التساؤل: أيكون الإملاق في الآية من معنى الضعف البدني؟ أي: أيكون معنى آية: «لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق»: لا تقتلوا أولادكم خوفاً من ضعف جسدي أو عاهة خَلقية؟ ومعنى آية «لا تقتلوا أولادكم من إملاق»: لا تقتلوهم بسبب عاهاتهم وعيوبهم الخلقية؟ نحن نعتقد أن هذا محتمل. وفي هذه الحال، يكون الجاهليون قد عمدوا في بعض الأحيان إلى التخلص من أبنائهم المصابين بعاهة ما لأنهم يشكلون عبئاً اقتصادياً ونفسياً عليهم.
لكن ربما كان الأمر لا يتعلق بعاهة جسدية فقط، بل بعاهة ميثولوجية، أي بشيء كان يعدّ عاهة في تلك الأيام، وليس كذلك في أيامنا هذه. يؤيد هذا ما يخبرنا به السهيلي: «كانوا يئدون من البنات ما كان منهن زرقاء، أو برشاء، أو شيماء، أو كشحاء، تشاؤماً منهم بهذه الصفات» (السهيلي، الروض الآنف). يضيف د. جواد علي مؤكداً: «ذكر أيضاً أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب. وذكر بعض أهل الأخبار أن بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة» (د. جواد علي، المفصل).
وكما هو واضح من هذه النصوص، فإن التشاؤم الذي تثيره هذه العاهات كان يدفع إلى وأد البنات، أي إن السبب هنا ميثولوجي- ديني. فزرقة العين عاهة بالمعنى الديني، لكنها ليست عاهة بدنية حقيقية. بالتالي قد يكون «الإملاق» إشارة إلى عاهة ميثولوجية. ويكون معنى الآية: لا تقتلوا أولادكم بسبب خوفكم من الشؤم.

الرزق
لكن في هذه الحالة، ماذا نحن فاعلون بشأن جملتي: «نحن نرزقكم وإياهم» و«يبسط الرزق لمن يشاء»؟ فهاتان الجملتان هما اللتان جعلتا المفسّرين يجزمون بأن الإملاق هو الفقر في الآيتين. علينا، إذن، أن نتغلب على مشكلة «الرزق» في الآيتين قبل أن نجعل من تفسيرنا أمراً ممكناً، أو مقبولاً. وقد تساعدنا آية غامضة جداً في سورة الواقعة على ذلك: «فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين. أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون» (الواقعة 75-82)
من الواضح لنا، كما كان واضحاً للقدماء أيضاً، أن «رزقكم» في هذه الآية لا يمكن أن تؤخذ بالمعنى الشائع لكلمة رزق. لذا حاول المفسرون، بغالبيتهم، فهم هذه الآية من خلال الافتراض أن كلمة «رزق» فيها تعني الشكر، لكن بلغة أزد شنوءة، أي بلهجة هذه القبيلة: «رزق فلانا: شكره، لغة أزدية... ومنه قوله تعالى: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون. ويقال: فعلت ذلك لما رزقتني، أي: لما شكرتني» (الزبيدي، تاج العروس).
لكن بعضهم ربط الرزق بالمطر وأنوائه: «وفيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون»، قال: «هو الاستسقاء بالأنواء» (ابن تيمية، مجموع الفتاوى)، أي إنكم تنسبون رزقكم إلى أنواء الكواكب والنجوم لا إلى الله. وبهذا المعنى فسرت كلمة رزق في آية سورة الذاريات: «وفي السماء رزقكم وما توعدون» (الذاريات: 22). فالرزق هو المطر عند الغالبية.
لكننا نرى أن هذه الآية غامضة هي الأخرى، وأن من الممكن أن تكون عنت شيئاً غير الرزق العادي. بل إن المرء ليكاد يعتقد أنها تعني: في السماء مصيركم وما توعدون، أي إن الله في السماء هو من يقرر موتكم وحياتكم. ولعل هذا المعنى هو أيضاً ما أرادته آية: «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون»، أي: تجعلون الكذب منتهاكم ومصيركم وحياتكم. وإذا صح هذا، فيمكن أن يكون معنى جملة: «نحن نرزقهم وإياكم» هكذا: نحن من نحدد مصيرهم ومصيركم، أي موتكم وحياتكم. أي نحن خلقناهم مثلما خلقناكم، ونحن من يحدد مصيرهم ومنتهاهم لا أنتم. يعني: نحن من يرسم المصير، ويحدد وقت موتهم لا أنتم، أي إنه لا يحق لكم الحكم على أبنائكم بالموت لأنكم خشيتم شؤم عاهاتهم، فالموت والحياة بيد الله لا بأيديكم أنتم.
بالتالي، فالآية تتحدث عن مصير الأبناء. فالله هو من يحدد إن كان عليهم أن يموتوا أو أن يعيشوا. وهذا جوهرياً رفض لوأدهم بسبب عاهاتهم البدنية.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا