انقرضت الرسائل من حياتنا الواقعيّة حيث تغوُّل وسائل التواصل. أو لعلّها أوشكت على الانقراض لمصلحة «التشات» الذي يعني ببساطة أنّ زمن الاسترسال والاستطراد والبوح قد انتهى، وبدأ زمن الرسائل البرقيّة القصيرة التي جعلت حياتنا أشبه بشريط الأخبار العاجلة في الشاشات. بل إنّ الرسائل لم تشكِّل عنصراً مهماً في أعمالنا الأدبيّة، في مقابل المونولوغات. وكأنّ التواصل قد انقطع حتّى قبل وصول وسائل «التواصل». قمنا بركن الرسائل في خزانة الذاكرة البعيدة بجانب الورقة والقلم والشّطب. باتت حياتنا ورقةً بيضاء نظيفة لا شوائب فيها؛ فقرات سريعة متلاحقة مسحوبة الدسم مثل الملفّات الحكوميّة. كنّا نظنّ أنّ الرسائل انقرضت بعدما طردناها من أبوابنا، إلا أنّ حسن سامي يوسف استعادها من الشبّاك وألقاها أمام أعيننا كي ندرك ما فقدنا. يعود حسن سامي يوسف برسالة أخرى، إلى سيدرا هذه المرة، بعد رسالته المذهلة إلى فاطمة قبل 25 عاماً. يعود بسيناريو روائيّ أكثر من كونه رواية سينمائيّة. يعود بعمل ضخم بالمقارنة مع الروايات القصيرة التي باتت الجنس المفضَّل في الكتابة وفي الترجمة. يعود بعمله الأحدث «على رصيف العُمْر» (دار ورد)، بعدما كان قد شرَّح «عتبة الألم» روائيّاً، وكتب مجموعة من أعظم السيناريوهات التلفزيونيّة السوريّة والعربيّة منفرداً، وإلى جانب شريكه نجيب نصير. يعود يوسف بمسلسل روائيّ مكتوب، وهو الذي يتميّز بطريقةٍ متفرّدة في كتابة السيناريو، حيث ينفر من الجداول المعتادة في تقسيم الحياة إلى خانات، بل يكتب - كما يفكّر - في تدفّق لغويّ مُبهر من فرط تفاصيله الدقيقة الحارقة المؤلمة.


لعلّ أول سؤال سيطرحه قارئ «على رصيف العمر»: هل هذه رواية؟ السؤال صحيح جزئياً لأنّ هذه الرواية لا تشبه جحافل الروايات التي اجتاحتنا في السنوات الأخيرة. على أنّ متابع مسيرة يوسف الروائيّة لن يكترث لهذا التّصنيف، ولن يتوقّف عنده طويلاً لأنّ هذه الرواية امتدادٌ لكتابين سابقين يصدق عليهما السؤال بدرجة أكبر. لم تكن «عتبة الألم» رواية بالمعنى الصارم للتصنيف، وكذا الأمر بالنّسبة إلى «هموم الدراما» («الدرامة» كما يفضّل يوسف تهجئة الكلمة) التي أدرجها يوسف ضمن أعماله الروائيّة مع أنّها نُشرت ضمن سلسلة «الفن السابع» التي تصدرها «المؤسسة العامة للسينما» في سوريا. كانت «هموم الدراما» أقرب إلى يوميات سيناريست يحاول فهم معنى الدراما وتقديمها بصيغة مبتكرة إلى القارئ العاديّ مستنداً إلى حياته الشخصيّة وتفاصيله اليوميّة، فيما افترقتْ عنها «عتبة الألم» في كونها يوميات كاتب بات يتساءل عن جدوى السيناريو والكتابة بأسرها في زمن الاشتباكات اليوميّة الدامية، مع حفاظه على إيقاع السيرة الذاتية. تبدو «على رصيف العمر» تكملةً للعملين السابقين، ولكنّها تنأى عن السيرة الذاتيّة الصريحة، وترتدي قناعاً - ولو هشّاً - في تقديمها «بطلاً» آخر لا يشبه كاتبه للوهلة الأولى، إذ هو أصغر سناً وأغزر نتاجاً، ولكنّه أقرب إلى «پورتريه للكاتب في صباه» وفي شبابه، ولكنْ ضمن سياق الحياة التي يعيشها الكاتب الكهل فعلياً.
قراءةُ «على رصيف العمر» ضمن سياق الجزءين الأول والثاني من هذه الثلاثيّة (الرباعيّة، لو أضفنا «رسالة إلى فاطمة») ضروريٌّ لفهم العمل الأحدث أكثر، من دون أن يعني هذا أنّها ليست رواية مستقلّة منفردة. الهموم ذاتها، وإنْ اختلفت السّياقات. كان أكبر هموم بطل «رسالة إلى فاطمة» و«هموم الدراما» تصوير مدة قدرة الكاتب، أيّ كاتب، وبراعته في التّحايل على المحظورات والرقابة، وفي التركيز على ماهيّة الكتابة حيث لا بدّ للكاتب فيها من احترام نفسه واحترام قارئه بصرف النّظر عن سقف الرقابة الخانق، وفي تقديم عمل يُشرِّح الشَّجَن ويحتفي به: شجن الحب والحنين والبعد والقرب والعلاقات المركّبة الهشّة في آن. غير أنّ المحظورات باتت أشرس في السنوات الأخيرة، لذا تسلَّلت نبرة غاضبة لم يعهدها قارئ أعمال يوسف الأقدم. بات يوسف (وأبطاله، أكانوا صورةً صريحةً أم قناعاً له) أمام اختبارات قاسية تلامس جوهر الهويّة في ذاتها. ما معنى أن تكون فلسطينياً في سوريا؟ («عتبة الألم»)، وما معنى أن تكون «رمادياً» في سوريا الاستقطابات الحادة؟ («على رصيف العمر»). قد تبدو القضيّة الأولى أكثر إيلاماً وأهميّة، حين تبرز القيود والحدود والجدران بكلّ فجاجةٍ أمام الكاتب الفلسطينيّ الذي يُضطر إلى مواجهتها ولعب دور الدفاع عن ذاته التي لا يمكن له، ولا لغيره، تقديم تعريف بسيط لها. أن تكون خارجياً، لامنتمياً، فيما أنت داخليٌّ عميق الانتماء في آن. بيد أنّ القضيّة الثانية أقسى، على الأخص حين يُغفِل يوسف عمداً الإشارة إلى هويّة مركَّبة لبطله الذي أمسى هذه المرة سورياً «صرفاً»، من دون أن يعني هذا انخفاض ضغوط الهويّة والكينونة ومعنى الوجود في بلادٍ يبرع أبناؤها في ابتكار التّصنيفات وتشييد الجدران العازلة.
سيناريو روائيّ أكثر من كونه رواية سينمائيّة


ألقى يوسف ببطله أمجد، في «على رصيف العمر»، إلى حافّة الحدود «الرماديّة»، وحافّة الحدود الهشّة بين التّصنيفات. هو ابن العشوائيّات وبات ابناً لأغنياء الطبقة الوسطى، سيناريست تلفزيونيّ حيث لا معنى للكتابة بلا تسويات ومساومات، وكاتب روائيّ لا وجود للتسويات في ذهنه، ابنٌ للطمات الموت المتلاحقة وعاشق للحياة التي يتمنّى عيشها بثمالتها، ابن لعلاقات الماضي وابن لعزلة الحاضر، والأهم، ابن لنساء كثيرات أسهمن ويسهمن في تكوينه وابن لنفسه وحدها في محاولاته الدائمة للتخلّص من أطياف الأنوثة التي تطوّقه ولا يُطيق فراقها. أما ضمن السياق السياسيّ، فهو العائش في وهم امتلاك هويّة مُسلَّم بوجودها وبماهيّتها، فيما هو مضطر يومياً، بل وفي كلّ لحظة من لحظات حياته، إلى تقديم كشف حساب لإعادة تكوين ماهية هويّته تبعاً لشروط التّحقيقات التّشكيكيّة التي يهواها السوريّون ويبرعون في ابتكار أسئلتها. أنت متَّهم في هويّتك حين تبقى طليقاً فيما يقبع الآلاف في المعتقلات، وحين تبقى حياً فيما يموت عشرات الآلاف قتلاً وقصفاً، وحين تكتب عن هموم شخصيّة في ظل جيوش الكتّاب العسكر حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وحين تُجاهر بحبّ الحياة - أو بحبّ تفاصيل منها - فيما يتباهى الجميع بسموّ الركض نحو الموت. ولذا لا مفرّ إلا إلى الذاكرة، وإلى محاولة خلق حياة موازية. من هنا بالذات، يتّضح للقارئ بهاء صور الماضي في «على رصيف العمر» في مقابل الحاضر الكالح بكلّ تفاصيله الموجعة؛ جمال الفرار إلى الخيال؛ روعة اللجوء إلى أرض الذاكرة التي لا تستلزم جواز سفر أو قوارب موت/نجاة؛ متعة الرّكون إلى الأيام التي مضت بكلّ طيشها وقسوتها وحنانها وبساطتها؛ لذّة استعادة جوهر الفنّ في كتابة البوح الهامس وسط زعيق التّوثيق، واستعادة ما فقدنا حتّى لو خيالاً، أو في رسالة تُدوَّن في غير زمنها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا