في «طفل لاعب باللاهوت» (منشورات المتوسط ـ 2021) للشاعر العراقي أحمد عبد الحسين الصادر أخيراً تحت خانة «السيرة»، يمسكنا الشاعر بيدنا منذ الصفحة الأولى ليخبرنا أنها ليست سيرة شخصية تماماً، تخضع لمنطق الوقت والتاريخ، بل «محض استذكار لما فعله الشعر بي... ما من تسلسل زمني يربط هذه النصوص والتأملات. كل شيء مبعثر كما لو أن الشعر مرّ هنا وقلبَ الأشياء وجعلها رميماً منثوراً. هكذا مضت حياتي مع الشعر، فلا تكاد تعثر على نظام يضبطها أو منطق يفهرسها... أردت أن أبعثر سيرتي لتلائم حياتي». نحن إذن أمام سيرة للشعر، وتأمل نظري وتجريبي فيه، أول ما يبدأ بجسده ومادته الأولى: الكلمات. في فصل بعنوان «رسالة في انطباق الشفتين» وآخر بعنوان «يكاد زيتها يضيء»، تتجلى حروف اللغة في رمزيتها وقوتها بما يحيل الى الأحرف التي تُبتدأ بها سور الذكر وتأويلها الباطني الشعري عند الصوفية: «قبل ثلاثين عاماً قال لي شيخي في قم إن الميم هو حرف الحقيقة الآدمية. قال انظر الى تأخره في آدم ثم انظر إلى وروده في اسم محمد مرتين، متقدماً ومتوسطاً وستفهم»، «اسم أحمد من دون الميم سيصير «أحد» وهو حقيقة الذات المنفرد الذي ليس معه غيره، ولولا الميم ما كان فرق بين الاثنين، فالميم هو تحقق العبودية»، لتخرج وردة الشعر من تراب هذا التأمل: «كلما انطبقت شفةٌ على شفة/ قال الموت للشفتين: آمين».
في «يكاد زيتها يضيء»، تتبدى الحساسية اللغوية في تمرين بديع على كلمتين تبدوان مترادفتين، ليضم عبد الحسين حساسيته الشعرية إلى حساسية اللغة في تأويلهما: «لا توجد كلمة «يكاد» إلا ويوجد معها عذاب وألم. والأشياء التي تكاد هي أشياء معذّبة لأنّ فيها استعداداً لأن تكون ما تكاد تكونه، لكنها تظل أبداً أدنى من ذلك، ينقصها شيء ما. وهذه حصتها من العذاب: أنها بحاجة إلى أمر خارج عنها لتكون. هي كلمة محمّلة بالشعر. لأنها محمّلة بالألم. إنها ليست ككلمة «يوشك» التي تفترض للتحقق شرط الوقت ليس إلا. فالفعل «يوشك» معلّق في انتظار زمنٍ سيحين، لكن «يكاد» متروكة في أفق انتظار أبدي».


في فصل «شعر وجنس»، يقول عبد الحسين: «في الجنس مسٌّ من الشعر، لأن العراك الألفي بين روح وجسد لا ينتهي إلا على سرير». يحيلنا هذا القول الى أوكتافيو باث في مؤلفه العظيم «اللهب المزدوج» حين يقول: «الإيروسية استعارة من استعارات الجنس، والشعر ضرب من شهونة اللغة». ونستذكر تحت نور هذا اللهب ما قالته الشاعرة العربية القديمة: «شفاء الحب تقبيل وضمٌّ/ وأخذٌ بالمناكبِ والقرونِ، ورهزٌ تذرف العينان منه/ وزحفٌ بالبطون على البطونِ»، أو محي الدين بن عربي في تلك اللغة الطازجة الحسية والشعرية في وصف المواقيت: «ورأى في هذه السماء غشيان الليل النهارَ والنهارِ الليلَ، وكيف يكون كل واحد لصاحبه ذكراً وقتاً وأنثى وقتاً، وسر النكاح والالتحام بينهما وما يتولد فيهما من المولودات بالليل والنهار».
في أكثر من فصل، يحاول أحمد عبد الحسين أن يمسك بتعريف حسّي أو فلسفي تجريدي للشعر، فيبرز تارة كفكرة مجانية صاغها هايدغر «الشعر أكثر الأفعال حظاً من البراءة» في فصل «صلاة في قلب القاموس»، وتارة على هيئة شيخ يشبه الحلاج في المنامات، يقطع على الشاعر عزلة الكتابة في مقهى دمشقي، قائلاً له: «كل كلمة هي رد على كلمة التي هي رد على كلمة». وحين يقاطعه الشاعر بالقول «حتى النهاية»، يرجع الشيخ كلَّ الماء إلى النبع: «غلط، إلى البداية، الى كلمة أولى لا صوت فيها ولا حروف، مخلوقة وخالقة في الوقت نفسه... تلك هي الكلمة التي يتذابح عليها الشعراء». يبدو الشعر في فصل آخر بمثابة مضاد حيوي للعولمة. إنه مرادف لشمعة باشلار أو لسورة النور القرآنية التي فيها تسكين شعري للنور في مشكاة ثم في مصباح ثم في زجاجة، مقابل سرعة ضوء العولمة التي في فيضانها المعلوماتي شلّ لقدرة الانسان على أن يفكر ويتدبر. في تنويع آخر، يبدو الشعر أيضاً مثل «دعوة إلى الضيافة» على قول دريدا، إذ يستذكر عبد الحسين قصيدة صغيرة أعطاها لصديق: «دائماً كنت أمضي هناك/وأشعر أني هنا/ربما حين أبقى هنا/سوف أشعر أني هناك/مفزع أن تكون هنا/ مفزع أن تكون هناك».
يستعرض الشاعر حياة هذه القصيدة، التي بدت له أول الأمر ساذجة، هو الذي لم يخرج من حدود بغداد عند كتابتها ليختبر «هنا» و«هناك»، لكنها غيّرت في حياة صديقه المسرحي الذي تلقّاها كالهِبة، وصارت مصداقاً لحياته في الترحال والهجرة والمنافي، ليغنيها سميح شقير في ما بعد، وليموت الصديق مقتولاً وهو يردد قصيدة أخرى لعبد الحسين عن غرباء يطرقون الباب، كأن القصيدة سهم ينطلق ولا شيء يعيده إلى قوسه. في الفصل الذي يحمل الكتاب عنوانه، والذي يبدأه بمقطع «حول الشعر والتشيع»، نستذكر مظفر النواب في وترياته: «واحتَشدَ الفلّاحُونَ عَليّ... بَينهمُ كان عليّ .. و أبو ذرٍ .. والأهوازيُّ...»، من ذكريات الطفولة في مدينة الصدر التي تطوف بالمياه، فيدخل غريبٌ الدار يطلب أن يستريح قليلاً ويخرج بطريقة عجائبية ليقال إنه المهدي المنتظر، الى الشاعر متفرجاً على أبيه قارئ العزاء الذي بقوة الشعر الحسيني «يقدر أن يجرد الرجال من هيبة وكبرياء واتزان كانوا يتحلون بها قبل قليل، ليجعلهم ينوحون ويصرخون كالثكالى»، إلى تأمل فلسفي للتشيع الذي «لديه تاريخان واحد للماضي المؤلم وآخر للمستقبل الذي يريد به مسح الوجع، ولا تاريخ للحاضر».
سيرة للشعر، وتأمل نظري وتجريبي فيه

والشاعر في هذا التمزق «طفل لاعب باللاهوت يجادل عن تأريخه في شق جدار». إنه لعب خطر لذاكرة مترعة بنصوص التشيع كمرجعية لغوية ووجدانية، ورغبة محمومة في مفارقة الذاكرة وإطلاقها (قرأتُ كتاب أصول الفقه/ ومحوت اسمي من بين الأسماء/لقد نجوت)، لكنها نجاة تحمّل الشعر حمولة الرفض والحزن الكربلائي في «أرض السواد».
عن بداية علاقته بالشعر، يتحدث أحمد عبد الحسين عن كتاب أبيض في أيام الطفولة، بعنوان طويل «مكتوب لطفل يريد إسكات حيوانات أعماقه، يلقم أشخاصه جملاً طويلة يلهيهم بتأملها، ومن فهِمَ فليفهَم، ومن لم يفهَم فستكون له حصته من السحر، من الدهشة التي ستطبع الى الأبد كل قول موارب». هذا الكتاب المليء أيضاً بتخطيطات لأشجار تخرج منها شرايين تنتهي بعيون بشرية سيضيع ويطارده الشاعر بعد أن يسميه «كتاب حنا»، إذ لم يبق من عنوانه غير تلك الكلمتين في الذاكرة، ويكتشف بالصدفة بعد عشرين عاماً أنه لشاعرة سورية راحلة اسمها إكرام أنطاكي، والرسوم للشاعر الإسباني الكبير لوركا. يختم عبد الحسين هذا الفصل بأن لكل شاعر كتاباً ضائعاً، «إن كان لديك كتاب مفقود/ احرص على أن لا تجده». ربما يكون «طفل لاعب باللاهوت» هو هذا «كتاب حنا» الضائع للباحثين عن سيرة جميلة وحساسة للشعر والشاعر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا