عدا واحد منّا، كان ينتظر على الشاطئ لحراسة ملابسنا وأحذيتنا، حتى لا يسرقها الصبية المشرّدون، أو العيال القادمون من مناطق أخرى لينقضّوا على هذه الأشياء ويفروا بها هاربين، واحد منا، كنا نبقيه، يرقب الوقت والنهر، حارساً لا يعرف التململ، ولا يغريه الماء قبل خروجنا. كنا نهبط، على الدرج الحجري للسباحة واللعب في هذا المكان القريب من «وكالة البلح»، وكنا نسميه «الثلاث شجرات» حيث ثلاث نخلات خارجات من جذر واحد، تشكل هذا المنظر الفريد. على الضفة المقابلة، تتراصّ بنايات وقصور عتيقة، وعمارة يطل منها الموسيقار محمد عبد الوهاب، إنها جزيرة الزمالك، وإلى الجنوب قليلاً يتمدّد «كوبري أبو العلا» التاريخي، واصلاً بين عالمين متنافرين برباط وهمي، عبرناه آلاف المرات، متطفّلين على الوجوه الشهيرة، القاطنة هناك، نراهم وهم يسيرون الهوينى، أو يقودون السيارات الفارهة. في هذا اليوم، احتدم الصراع بين محمود حنفي، وسامي السيد، من يستطيع الوصول إلى الضفة الأخرى، ثم العودة أولاً، كنا نتابعهما، كل مجموعة تناصر واحداً منهما.
عادل ثروت ـــ «العودة إلى الحياة» (أكريليك على كانفاس ــ 100 × 100 سنتم)

لكن يبدو أن التحدي قد سيطر عليهما، متجاوزاً كل التوقعات، إنهما لا يكتفيان بهذا السباق، بل شرعا يصعدان إلى الصنادل البحرية التي تشق النهر، يستريحان قليلاً على سطوحها، ثم يعاودان القفز، حتى عادا إلينا، لكن فكرة مجنونة طرأت فجأة، صادرة عن محمود هذه المرة. إنه يريد القفز من فوق كوبري أبو العلا كنقطة انطلاق لسباق ثنائي يبدأ من هناك.
حيال هذا الإصرار، اضطر سامي إلى الموافقة المشروطة: أن يكون السباق مقابل نقود، اتفقا على مبلغ معين، يكون من نصيب الفائز، لينطلقا بعدها سيراً على الأقدام بمحاذاة سور الكورنيش في طريقهما إلى الجسر الشديد الارتفاع.
ــ سأعود إلى البيت، بادرنا جمال إمام، قلقاً، ومتوتراً.
قلت له: ــ انتظر حتى يعودا إلينا.
ــ والمسيح الحي سيغرقان.
إنه لطفي عشم، يقسم منتحباً، وهو يرتعد بشدة، ما أوسع مجالاً لسريان الخوف بيننا، حدّثنا وهو يبكي عن تاريخ حافل بالمفقودين في قاع النهر. أبطاله جميعاً من شارعنا، ومن المناطق المحيطة بنا، محصياً كثيراً من الأسماء التي نعرفها عن كثب.
ــ سيقتلنا آباؤنا، أضاف جلال فاروق، الرفيق الحميم للعزلة، وأكثرنا مقاومةً للابتعاد عن المنزل.
ــ أنا أيضاً سأنصرف، هتف سمير عبد الرحيم قبل أن يختفي عن أنظارنا، معطياً إشارة خفية، بدأ الجميع بعدها في الانسحاب واحداً وراء آخر، فاضطررت أنا أيضاً للانضمام إليهم، حتى لا أكون الشاهد الوحيد على المأساة.
انطلق الجميع باتجاه وكالة البلح، مخترقين الشوارع التجارية المكدّسة بالملابس والبشر، كنا نهرول في هذا الجو الخانق، متخبّطين بالمارة، خرجنا إلى شارع بولاق الجديد، منطلقين إلى دروبنا القريبة، كان وقتاً عصيباً، لجأ كل منا إلى بيته، متصنّعاً الهدوء. ليعكس انطباعاً زائفاً بأن لا شيء هناك، نافياً عن نفسه تهمة الاشتراك في الجريمة. كان الوقت يمر ثقيلاً، وثمة هواجس يغذيها التشاؤم والقلق في غمرة ترقبنا. كنت أخرج من البيت خلسة، أطل على الحارة، مستطلعاً الأمر، بالمظهر نفسه تقريباً، كنت أجد أحدهم: سمير، لطفي، حسونة، جمال، جلال... إلخ.
كنا نلتمس خبراً يوشك على الوصول على جناح عاصفة. على غير العادة أيضاً، سيطر صمت قاتل على الحارة، البيوت هادئة، وتخلو من الصخب المعتاد، حيث لا أثر لشيء، لا شيء. كان صمتاً مريباً، متواطئاً، جعل الأمل في عودتهما يتضاءل، وبدا كضرب من المستحيل. إنهما الآن يرقدان في قاع النهر، جثتين هامدتين، لفظتهما الدنيا، وتخلصت من وجودهما المزعج. شعرت بانقطاع الزمن أمام الكوابيس المرعبة التي بدأت تنهشني، بتكدير لا حدّ له. كنا نفكر في تداعيات الأمر بنفوس مضطربة.
ــ ليتنا قمنا بمنعهما، باغتنا سمير عبد الرحيم. الأكثر طيبة والممتدح من الجميع، كان يكفكف دموعه، بما يليق بصبي وقور، وهادئ دائماً. إن له أخاً غريقاً، كان يكبرنا بسنوات عديدة، هو المرحوم شعبان، الذي كان له جسد مصارع، وروح طفل بريء. لقد ابتلعه النيل، ثم أعاده بعد عدة أيام طافياً بالقرب من إحدى جزر الوراق.
حقّاً، كدنا نوشك على الانهيار، لا ندري ما الذي يمكن اتخاذه في هذه المحنة، لكن الأكثر إثارة بدأ في الانبثاق من رحم الكوميديا، فقد لمحنا جسدين عاريين قادمين من بعيد، يتقافزان بطريقة رياضية: واحد. اثنان... واحد. اثنان...
عندما اقتربا منا، لم نصدق أنفسنا، كذبنا العيون التي تطالعهما، كانت المفاجأة، أنهما حَيَّانِ، يمرق كل منهما إلى بيته، راكضاً على نحو عسير النسيان. بالطبع نالا عقاباً قاسياً، وحرماناً من الخروج، صارا رهن إقامة جبرية، مقرونة بالضرب المتواصل.
بعد العفو العائلي، عادا إلينا، حكيا لنا ما لم نره، لقد قفزا من فوق الجسر المرتفع، قفزة مبهرة، غاصا بعدها عميقاً، ثم بدآ السباق فور صعودهما إلى أعلى، استطاع محمود حنفي حسم الرهان لمصلحته، فقد وصل أولاً، ولحق به سامي، لكنهما لم يجدا أثراً لنا، فقاما بالبحث عن ملابسهما وأحذيتهما، لم يعثرا على شيء. اختفت الحاجات من الشاطئ. في البداية، اعتقدا أننا ذهبنا لشراء طعام، وانتظرا على مضض، بعد يأسهما، أخذا يفكران في العودة، متجهين إلى محطة وكالة البلح، صُعُداً إلى الترام الذي يبدأ انطلاقه من هناك، ويمر على ناصية شارعنا أثناء رحلته، كان منظرهما غريباً ولافتاً، وهما يهربان من المحصل، مرة بعد أخرى، حتى استطاع أن يحاصرهما، طالباً الأجرة.
ــ تذكرة.
شرع سامي يبحث عن نقود في جيب بنطاله المتخيل. في هذه الحقبة، كان المحصّلون يستعملون أقلامَ رصاص، مكسوّة بكعب ألومنيوم كغطاء، هذه القطعة المعدنية كانت ذات مهام مزدوجة، فهي تُستعمل في المعارك، يجابه بها المحصل الركاب المشاغبين. لقد طعنه في رأسه وهو يسبّه:
ــ أين هذه النقود التي تبحث عنها وأنت عارٍ هكذا يا...
محمود حنفي، الذي رأى الدم يسيل على وجه سامي، شعر بالفزع، ولم يجد مفرّاً من القفز إلى عرض الطريق أثناء سير الترام، ناسياً مخاطر هذا الفعل الأخرق، الذي خلّف وراءه كثيراً من الضحايا، موتى، أو مبتوري الأيدي والأرجل تحت العجلات الحديدية، لم تكن هذه الحركة متقنة، فقد تركت سحجات ورضوضاً وخدوشاً واضحة.
نهض، وواصل الجري، بحس عالٍ من الشهامة والرجولة المبكرة، ليعرف مصير صديقه الذي هبط من المركبة، مضرّجاً بالدماء، انطلقا إلى مسجد سيدي سعيد يغتسلان، قبل أن يواصلا العدْو مرة أخرى كصبيين مجنونين يفران من الدنيا، ويخترقان الزمن حتى يستطيعا العودة إلى الديار في لمح البصر.
* القاهرة