عن منشورات «جامعة هارفارد»، صدرت النسخة الإنكليزية من Le prix de la démocratie تحت عنوان The Price of Democracy - How Money Shapes Politics and What to Do about It لجوليا كاجيه الأستاذة المساعدة في معهد العلوم السياسية في باريس، والمتخصّصة في اقتصادات وسائل الإعلام والاقتصاد السياسي والتاريخ الاقتصادي. تشير كاجيه في كتابها الصادر عام 2018، إلى أن «البرازيل يحكمها اليوم، جايير بولسونارو، ضابط جيش سابق ذو نزعة استبدادية، يفتقر للثقافة ولا يهتم بالبيئة. أما، فرنسا، فقد احتلّ اليمين المتطرف فيها المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية، وسلطت أزمة «السترات الصفر» الضوء على العجز التمثيلي الذي يؤثر على جزء كبير من السكان (...) وفي الولايات المتحدة، يقضي (الرئيس السابق) دونالد ترامب - الذي لا يزال مهووساً بجدرانه على الحدود المكسيكية - وقته في إطلاق عمليات مكثفة لطرد المهاجرين».

لقد تسارع الزمن، وأصبحت الديمقراطية التمثيلية تواجه أزمة في السنوات الماضية. يتتبع الكتاب أكثر من 50 عاماً من المحاولات لتنظيم الديمقراطيات الغربية. رغم الثقل المتزايد للمصالح الخاصة، إلا أنّها كانت تتضمن أنظمة مبتكرة للتمويل العام للأحزاب والانتخابات. مع ذلك، كان هناك رفض للتفكير في حل مُستدام لمسألة التمويل، والتعلم من الجهود السابقة غير الكاملة ولكن المفيدة، والإفادة الكاملة منها في إنشاء نظام جديد وأفضل. اليوم، أصبحت الديمقراطية أمام نقطة فاصلة هي: الذين يفوزون اليوم هم الذين يدفعون.
أصبح مصطلح «الديمقراطية غير الليبرالية» شائعاً، كما لو أن وجود الديمقراطية ذاته لا يعتمد على عدد من المبادئ غير القابلة للتغيير. أول هذه المبادئ، التي دفعت كاجيه لكتابة هذا العمل، هو: «شخص واحد، صوت واحد»، وليس «يورو واحد، صوت واحد»، أو «منفذ إعلامي واحد، صوت واحد». تظن جوليا أن هناك تجاهلاً لنقاش مسألة الاستيلاء على الديمقراطية، واحتكار للخطاب العام من قبل الفئات الأكثر حظاً في المجتمع. لقد حقّق المتنفّذون ذلك من خلال قوة محافظهم المالية، سواء عن طريق التبرع للأحزاب السياسية والحملات الانتخابية، أو من خلال تمويل مراكز الفكر والمؤسسات الأخرى، أو من خلال الحصول على حصة في الوسائل الإعلامية الإخبارية المؤثّرة.
أدّت التطورات السياسية الأخيرة على جانبَي الأطلسي، إلى حاجة مُلحة لمقترحات الخروج مِن الأزمة الحالية للديمقراطيات التمثيلية، أبرزها: الحد من ثقل التمويل الخاص والمصالح الخاصة، مع فرض حظر على التبرعات السياسية للشركات التي يُسمح بها حالياً، مع وضع سقف منخفض للتبرعات الفردية (تقترح جوليا: 200 يورو في السنة لكل مواطن).
بعد ذلك، ستكون هناك حاجة إلى استراتيجيات مبتكرة للتمويل العام للعملية الديمقراطية (تطرح جوليا فكرة قسائم المساواة الديمقراطية)، وأخيراً، يجب استخدام أدوات الدولة القائمة على القانون لضمان تمثيل أفضل للطبقات العاملة في الهيئة التشريعية (من خلال إنشاء ما تسميه جوليا «التجمع المختلط»).
تريد ديمقراطية لكن ديمقراطية مُتلفزة، شخصيات مُنمّقة، تتحدث بخطابات أكاديمية


تعتمد هذه الحلول على التجارب التاريخية العديدة التي يقدمها الكتاب، وترفع جوليا عنها عبء المسؤولية التجريبية بالإشارة إلى أنّها تأتي في سياق الضرورة لمحاولة علاج أزمات مثل انتخاب بولسونارو وأزمة «السترات الصفر».
في تناولها لنظام الولايات المتحدة، تشير جوليا إلى مسؤولية باراك أوباما والديمقراطيين الآخرين عن انهيار التمويل العام في الانتخابات الرئاسية (نظام يعود لأكثر من أربعين عاماً) واستيلاء المانحين على الديمقراطية الأميركية. الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، أنفقت أكثر من منافسها دونالد ترامب. وتشير جوليا إلى أنّها لا تحسب المكافآت السخية لهيلاري التي تلقّتها مقابل خطاباتها في «غولدمان ساكس» أو «سيتي بنك». لكنها تشير إلى سيطرة حفنة من المساهمين الأثرياء (والشركات) على الديمقراطيين، وهذا عموماً ليس سبب هزائمهم الانتخابية، لأن المليارديريين الديمقراطيين محافظون مثل نظرائهم الجمهوريين في الأمور الاقتصادية، وفي الحملات الانتخابية، وكذلك في السلطة.
وترى جوليا (أظنها صاحبة ميول يسارية طفولية) إمكانية الاعتماد على طريقة بيرني ساندرز في تمويل حملته عام 2016 من خلال ما أسمته التبرعات الصغيرة. وقد أشارت إلى أنّ هذا غير كاف للنجاح، ولكنه يدلّ على نجاح مؤسسة ActBlue (منظمة غير ربحية تأسّست عام 2004) بالفعل عام 2018. فخلال الفترة بين 2014 وانتخابات منتصف المدة في عام 2018، حقّقت هذه المنظمة أكثر من 2.9 مليار دولار للديمقراطيين المرشحين. وبين كانون الثاني (يناير) 2017 وسبتمبر (أيلول) 2018 فقط، جمعت ما يقرب من 564 مليون دولار، أي ما يقرب من 55% من جميع المساهمات الفردية للمرشحين الديمقراطيين لمجلس النواب ومجلس الشيوخ. هل هذه طريقة جديدة لممارسة السياسة؟ تتساءل جوليا. وتجيب بإمكانية نجاح الأمر، لكنّ الديمقراطيين لا يبدو أنهم يفضلون الاستغناء عن «أصحاب المليارديرات»، رغم إمكانيّتهم الفوز عبر الاعتماد على حشد أنصار الطبقة العاملة (تشعر أن الكاتبة تنشر في «دار التقدم» السوفياتية العتيقة بدون تعمق في المجتمع الأميركي) بدون الاضطرار أولاً للانحناء للمصالح المالية، وتنظيم عشاء لجمع التبرعات، وتقديم وعود تصبح ملزمة لاحقاً. وتشن جوليا هجوماً على جو بايدن، (الرئيس الأميركي المنتخب الآن) حيث يعد المانحين الأغنياء بأنه لن «يشيطن» الأثرياء، مُتهمةً إياه بأنه أحد الديمقراطيين الذين أيدوا اقتراح ريغان بخفض معدل الضريبة على الشرائح العُليا إلى 28% عام 1986. أكثر مِن ذلك، تتّهم بايدن بأنه لا يدرك ما يقصد باستخدام كلمة أغنياء، ولا يدرك ما النتائج التي ستعود على الفقراء من دفع تلك الفئات العُليا للضرائب، بل إنه يظن أن دفع أشخاص لأجزاء من ثرواتهم، لا يعني بالضرورة تغيير مستوى معيشة الآخرين.
وبالانتقال إلى دور الشيطان، يمكن لأي شخص مطلع على المدرسة «الليبرتارية» تفنيد هجوم الكاتبة الأخلاقوي بسهولة. وقد شرح عالم الاقتصاد الأميركي، وأحد خرّيجي «جامعة هارفارد» توماس سويل أن الضرائب قد لا تكون محفّزاً فعلياً لتغير المستوى المعيشي للآخرين. والمقصود أن النقد المكثف باسم الفقراء ومصادرة مساحة الرد مخافة السقوط في هوة انعدام الإنسانية، أو العنصرية وغيرها مِن التهم التي صارت مُعلّبة لدى طيف من اليسار الجديد، حاضرة في كتاب كاجيه بشدة! نعم هي تريد ديمقراطية لكن ديمقراطية مُتلفزة، شخصيات مُنمّقة، تتحدث بخطابات أكاديمية، وتطرح رؤية تقدمية، لكن لا يهم إن كان هذا حقاً يمكن أن يتم على أرض الواقع أم أنّه مجرد بيع وهم لنخب الطبقات التقدمية الحاكمة للفضاء الثقافي والإعلامي الآن، والتي تستفيد من امتيازاتها مؤلفة الكتاب.
في الأخير، تؤمن كاجيه بديمقراطية لا يفوز فيها إلا اليسار (من المتوقع أن نجد الكاتبة تهاجم كوريا الشمالية والصين، رغم أن الانتخابات في كلا البلدين تُلزم بالضرورة أن يكون الفائز من الطيف الحاكم نفسه). تريد ديمقراطية ليبرالية تمثيلية مُتجاهلة النقد الأكثر قوة لهذا النمط من الحُكم والذي قدّمه النازي كارل شميت، أو النمط المُغاير لتلك الديمقراطية المتمثل في ديكتاتورية البروليتاريا. تريد كاجيه التمتع بالعصر الأميركي بدون تضحية على أي صعيد، فهي تريد المساواة والتقدمية والثراء والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وترى أنّ الحل يكمن في طوباوية توماس بيكيتي عبر فرض ضريبة موحدة شاملة عالمية يتقاسمها البشر ويعيشون جنباً إلى جنب. لكن هل تدرك الكاتبة أنّ فكرة الضريبة الواحدة ما هي إلا صدى لليبرتاري هنري جورج الذي طالب بضريبة على «الأرض» ومنع ملكيتها الخاصة، وعدم تحصيل أي ضرائب أو إخضاع المواطنين لإكراهات ما تُسمّى مؤسسات الدولة الديمقراطية التمثيلية الليبرالية؟